تولي المخرج سلطة العرض في الإخراج رغبة بالتحرر من ضرورة خدمة الإبداع

لقد كانت تتوجه قوانين التقديم المسرحي، قبل أن يطرأ التحول الجذري على قصة الإخراج المسرحي وتاريخه، في أنظارها وتنشأ علاقاتها الحقيقية مع المؤلفين الذين كانوا يعتبرون آنذاك المشرعين الأصليين للظاهرة على الصعيد النظري والعملي، وبناء على ذلك، كان التطور الجمالي يتركز بشكل كلي تقريبا في النص اكثر مما هو فوق الخشبة. لهذا كانت اللوحات المرسومة والتمثيل الخطابي يهيمنان على المشهد العام لهذه الظاهرة، في حين أن الديكور والأداء المختلف والمتنوع كان يخضع في تلك الفترة، إلى الذوق الأدبي. ولكن نهاية القرن التاسع عشر سجلت نوعا من القطيعة بين ما هو شعري وبين هذا الذي صار يظهر ويتطور شيئاً فشيئاً ككتابة ركحية مستقلة كليا.
بين فترة عام 1880-1890.تفجرت تأملات حول شمولية ظاهرة التطبيق المسرح التي قادت بدورها إلى تغيرات على مستوي لعب الممثلين، وفكرة تحويل الفضاء، وعلى طريقة مساءلة النص الدرامي بطريقة جديدة لا تلتزم بالضرورة بالذهنية التي يتأسس على أساسها النص من قبل المؤلف. وهكذا ظهر المخرج، وصار يلعب دور الشخصية الرئيسية والمركزية في المسرح الحديث.

انتوان وستانسلافسكي
بحث اندري انتوان الفرنسي وستانسلافسكي الروسي من خلال التطبيق والتنظير عن طريقة يخلصان فيها الممثل من الأداء الذي كان يفتقر إلى الأصالة، أن صح التعبير، وان يحلا مكانه طريقة طبيعية تجعل الممثل يكون اكثر إخلاصا مع الدور ومع نفسه.
· آبيا وكريك
تابع إدوارد كوردن كريك، وبشكل متواز مع بحوث ستانسلافسكي وانتوان، تجارب مسرحية مختلفة تماما، تميل في شكلها ومضمونها نحو الأسلبة وسيطرة الممثل على تقنية تمثيلية تسمح له، أن يمارس قليلا طريقة الوسيط الوحي ـ كاهن أو كاهنة عند الإغريق، يعتقد أن الإله يجيب بواسطته عن سؤال حول أمر من الأمور الغيبية ـ أن يكون مسكونا من قبل صوت شخصية دون أن يلعب شخصيته الخاصة.
أدولف آبيا، في إخراجه للدراما الفاكنرية عام 1890 تخلص من فضاء العلبة الإيطالية، شأنه في ذلك شأن كوردن كريك الذي نقض جميع المحاولات التي تعيد إنتاج الواقع بازدحام خشبة المسرح بالكثير من الإكسسوارات مؤكدا على القوة الإيحائية للإضاءة كبديل موضوعي. وبهذه الطريقة استطاع كل من آبيا وكريك، أن يقدما المعادل الموضوعي لما كان الطبيعيون (ستانسلافسكي وانتوان) ينادون به، عندما طرقوا باب محاكاة الحياة أو نقلها أو تجسيدها. ولهذا بمقدورنا أن نقول أن كريك وآبيا ، قد فتحا الطريق أمام البحث في وعن فن تصوير المشاهد (المناظر المسرحية) من خلال الكشف عن الفلسفة الحقيقية للفضاء المسرحي كزمان ومكان.
· المدرسة الشرقية
في المقابل ومع بزوغ فجر القرن العشرين، بدأ اهتمام المختصين في المجال المسرحي، يميل نحو التقاليد غير الأوروبية وخاصة الشرقية منها (لينيه بو اخرج، في عام 1895، مسرحية عرب الأرض المطبوخة، دراما هندية في عشرة مشاهد). إن الأشكال الدرامية الشرقية، سمحت للأوروبيين باكتشاف نوع من التمثيل يتأسس على تعبيرية الجسد، الأسلبة وقيمة الشفرة أو الرمز. إلى جانب المؤلف والممثل صار المخرج ثالث مبدع في المسرح الحديث، حيث، ومذ ذاك، تعددت وكثرت الاتجاهات الجمالية الجديدة.
· المسرح الطبيعي أو المسرح الموضوعي
لقد ثابر المسرح الأوروبي، منذ القسم الثاني للقرن الثامن عشر، على إعطاء صورة إلى المجتمع الحديث، بحيث صار يبحث فيها عن كل ما هو حقيقي ومعقول، محاولا الابتعاد قدر الإمكان عن الابتذال والإفراط بالمبالغة. ولدعم وتقوية، هذا الاتجاه، انجر المسرح نحو متابعة تيار الطبيعة: كتب زولا في عام 1881، الطبيعة في المسرح . في الوقت ذاته، جاءت الكهرباء لكي تجعل الإضاءة المسرحية اكثر مرونة وسهلة القيادة وعاملا رئيسيا في العرض. وبهذه الطريقة بدأ الفن الدرامي يفلت من أيدي المؤلفين بسبب هيمنة المخرج، التي راح في هذه الفترة ينقل الحياة إلى المسرح بكل تفاصيلها، وواقعيتها متأثرة بالطبيعة الذي نظر لها زولا في الأدب: الحقيقة.. أو شريحة الحياة TRANCHES DE VIC بحيث وصل الحال بـ انتوان أن يستعمل في عرض مسرحية القصابين على سبيل المثال: محل جزار تعلق فيه الذبائح طازجة، آتية للتو من المذابح وفي عروض أخرى، يجعل الممثل يبول ويبصق على المسرح بشكل حقيقي وليس إيحائيا. وهذا يعني أن المنظورات الجديدة للعرض صارت تبحث عن الوسائل والكيفيات التي تحاول من خلالها نقل الحياة اليومية بصغيرها وكبيرها علي الخشبة، وذلك باستعمال الملابس والإكسسوارات الأصلية.
· العثور ثانية على المشاعر الحقيقية
إن الذي تحمل تبعات جميع هذه التغيرات والتحولات الأكثر دلالة ومعنى هو الممثل: بالتخلص من كل التقاليد التي فضلت الخطابية، الإنشادية في الأداء والمغالاة، التشدق والتفاصح، وكذلك المخرج الذي اقترب من الطبيعة، وذلك بإضفائه الإخلاص علي التعبير التمثيلي والبحث عن إنسانية الدور، محاولا أيجاد مطابقة خارجية للواقع التاريخي من خلال بحثه في الديكور والأزياء، أو ما يمكن أن نسميه بالدراسات الاركيولوجية. ولقد تحقق ذلك بإخراج ستانسلافسكي لأعمال كل من تشيخوف في مسرحية طائر البحر عام 1889، وغوركي في مسرحية الحضيض عام1920. وعلى الرغم من الكتمان الذي رافق ظهور وبروز الفلسفة الطبيعية التي جاءت لكي تثور علي كل ما هو رومانتيكي، استطاعت جماليات المذهب الجديد (الطبيعي) أن تطغي ولفترة طويلة علي لغة العصر الحديث. ولقد تأثرت الولايات المتحدة الأمريكية بما تم تصديره إليها من مناهج، وانبهر المسرحيون بالواقعية النفسية لأستانسلافسكي. وهذا ما ساعد ايليا كازان علي تأسيس أستوديو الممثل في 1947، والذي أسندت أدارته إلى لي استراسبرغ صاحب منهج الطريقة الذي اعتمد فيه كليا علي نظرية ستانسلافسكي وتطبيقاته في فن الممثل. ولقد قدم ايليا كازان مسرحية تينسي وليامز عربة اسمها الرغبة عام 1951، وفيلم علي الرصيف أما في أوروبا، وعلي الرغم من محاولات بعض المخرجين، مثل بيتر بروك وانتوان فيتيس الذين كشفت أعمالهم عن اختلاف وميل نحو التعارض مع المذهب الجديد، استطاعوا أن يشتركوا وان يعملوا علي نشر طريقة ستانسلافسكي الخاصة في فن الممثل.
· المسرح التفسيري النقل الفني للواقع
إن ثمار المذهب الطبيعي الأصلية وضعت موضع تساؤل وذلك من خلال اكتشاف اللاشعوري. منذ ذلك الحين، صارت العروض المسرحية التي تبحث عن تطابق بسيط مع الحياة تعتبر غير كافية، وصار المخرجون من أمثال المخرج التعبيري النمساوي ماكس رينهارت (1874-1943) يبحثون عن كتابة وقراءة ركحية جديدة اكثر قدرة وكفاءة، وانفتاحا علي المعاني العميقة للحياة. فقد لجأ المخرجون في هذه الفترة إلى طرق أبواب حيل الاكتشافات الميكانيكية في خشبة المسرح: تأسيس السينغرافيا علي أساس اللعب بالإضاءة والألوان واختفاء وظهور الديكورات، التي تعمل علي تبجيل الواقع من خلال تغيره جماليا ونقل مواضعه، استعمال اغلي الأقمشة وافخر الإكسسوارات، وإعداد عروض ضخمة تسمح باستغلال الإمكانيات الواسعة التي تمنحها تلك النصوص إلى العرض. (أن هذا المنظر ظهر بشكل واضح في عمل شكسبير حلم ليلة صيف للمخرج رينهارت، دون جوان لموليير، إخراج جان فيلار عام 1935، مسرحية العاصفة لشكسبير، لجورجيو ستلير، عام 3791 مسرحية هاملت، لباتريك شيرو عام1988).
· تجديد الأشكال
بين عام 1920 وعام 1933، استطاع فزيفولد مايرهولد أن يجدد الفن الدرامي باستعماله في الديكور عناصر هندسية تنشيطية مثل الشخصيات الإنسانية، وإعطاء أهمية أولية إلى الإضاءة السينغرافيا، بوضعه للممثل في مركز كيميائية المسرح. إن فن فزيفولد مايرهولد، بقدر ما كان أصيلا ونابعا من تجربة شخصية قائمة علي عناصر البحث والتقصي بقدر ما كان متأثرا أيضا أو بالأحرى مستوحي من الكوميديا دي لارتي، من المسرح الشرقي، وعروض المهرجين. إن طريقته في قيادة العرض نحو التجديد والتمرد علي واقعية مسرح موسكو الفني الذي كان مديره ستانسلافسكي، أغرت الكثير من المخرجين الذين وضعوا بصماتهم علي القسم الثاني من القرن العشرين بشكل واضح، وذلك من خلال طرقهم أبواب تقاليد مسرحية جديدة، كانت تعتبر بعيدة عن متناول اليد: جرجيو ستلير، واستأنف العمل ثانية علي الكوميديا دي لارتي، فقدم مسرحية (خادم سيدين، لكولدوني عام1974)، لوكا رونكوني وتجديده في شكل ومضمون مسرح المصاطب ، من خلال تقديمه مسرحية (اورلاندو فيريوز، المأخوذة عن ارستوفان، عام1970)، بيتر بروك والتفاتاته نحو الحكاية الأفريقية، مسرحية (العظم، عام1975الثقافة الهندية (المهاباراتا، عام 1985منوشكين، صاحبة مسرح الشمس، واعداداتها لريبورتوار أوروبي في أشكال شرقية (سلسلة مسرحيات لشكسبير بين عام 1982 وعام1984)، والتراجيديات الإغريقية في عام1990.
المسرح لملتزم

على اختلاف الفنانين الذين ينظرون إلى العرض مثل وسيلة يتهربون من خلالها من الواقع الاجتماعي، كان أصحاب المسرح السياسي يرفضون تمجيد وتعظيم المشاعر والعواطف الجميلة، التي لا تلتزم في المناقشات الفلسفية، التي تحاكم النخبة والبعيدين جدا عن انشغالات الأكثرية من البشر. لقد كان المسرح بالنسبة لهؤلاء الذين ينادون بمسرح ملتزم يتجاوز حدود العرض. وفقا لمنطلقاتهم الثورية، يجب أن يأخذ مكانه في قلب المدينة، وان يأخذ علي عاتقه مسؤولية التغير ليس علي المستوي الاجتماعي وإنما في الأقل، علي الرؤية التي يحصل عليها المشاهد أثناء العرض. أن العرض بالنسبة لهم، يجب أن لا يكتفي بعرض الأحداث الفردية، بل يتخطى ذلك إلى تحليل انعكاساته الاجتماعية والاقتصادية. إذن، يجب أن يكون المسرح يقظة ووعيا سياسيا للجماهير، ومواكبا لأحداث العصر لحظة بلحظة.
بسكاتور
رغبة في وضع العرض أمام حقيقته السياسية في زمانه ومكانه، هي التي قادت اروين بسكاتور، في ألمانيا وفي سنوات العشرين من القرن الماضي، أن يصنع تصميما لمسرح جديد يحقق من خلاله غايات تتجاوز الحدود، وذلك باعتماده علي التقدم التقني والعلمي التي أدخلته الاكتشافات الجديدة: الإضاءة، المناظر الدوارة، المسارح المتحركة، السجاجيد المتحركة علي المسرح طولا وعرضا وعمقا، بل انه يتخطى تلك الحدود إلى توظيف السينما بكل إمكانياتها.
النموذج البريشت
إن بريشت نزع عن المتفرج جميع الإمكانيات التي تجعله عرضة للشفقة وتحريك المشاعر، من خلال عنصر الاندماج بالأحداث أو التوحد مع الشخصيات. لقد استخدم في عروضه: اللافتات أو لوحة إعلانية (من خشب أو مقوي) لكي يشير، يحكي، يعلن، ويذكر، مكتفيا بالإشارة التلخيصية للأحداث ـ الأم شجاعة، عام 1954 ـ مثلما استعمل أشكال دمي تهريجية إلى جانب شخصيات حقيقية، تعليقات موسيقية أو غنائية ـ دائرة الطباشير القوقازية، عام 1955، والكثير من عناصر التغريب التي يلجأ إليها بريشت في مسرحه الملحمي. ويعرف بريشت التغريب في كتابه الاورجانون الصغير ، قائلا: (أن التوصل إلى تغريب الحادثة أو الشخصية، يعني قبل كل شيء، أن تفقد الحادثة أو الشخصية كل ما هو بديهي ومألوف وواضح، بالإضافة إلى إثارة الدهشة والفضول بسبب الحادثة نفسها). وفي فرنسا استطاع، روجيه بلانشون، توسيع دائرة البحث في تقنيات هذا المنهج المسرحي الجديد من خلال اشتغاله علي نصوص موليير (مسرحية جورج داندين، عام 1958، تارتوف، عام1973). وقد تجدد وحدث النموذج البريشتي من قبل مبدعي مسرح الشمس أيضا (مسرحية منفيستو، المعدة عن رواية كلوز مان، عام1997).

L’Agit-prop
لقد حاول منظرو مسرح L’Agit-prop علي طول فترة ما بين الحربين العالميتين، أن يزاوجوا بين مفهومي المسرح الثوري والمسرح الشعبي، وذلك لأجل اصطحاب جمهور جديد مختلف إلى صالات العرض (ليون موسيناك، ومسرحه العمالي العالمي كان يمثل هذا النوع من المسرح). وفيما بعد، ظل المسرح الشعبي مرتبطا بشكل دائم بميوله السياسي، ولكن دون أن يجعل من هذا الأخير، هدفا أوليا أو أساسيا (جان فيلار، اخرج في المسرح الوطني الشعبي العديد من نصوص بريشت بين عام 1951 وعام1963).
مسرح التسلية
سمح التقدم التقني العظيم الذي تحقق في القرن العشرين بتطور المسرح (إلى الجمهور العريض)، الذي صار يهب ويوفر إلى الجمهور لحظات من الانشراح والتسلية. ومن اجل تقديم هذا النوع من المسرح، لا بد لنا من اللجوء إلى الحيل السينغرافية، وإلى ممثلين يستطيعون التلاعب بالكلام والفكر وخفة الحركة، وإلى بهلوانية وموسيقيين في عروض صوتية تعتمد علي المقاطع النبرية والكلام الفظ، مثل عرض مسرحية (البرجوازي النبيل، تأليف موليير وإحراج جيروم سافري)، والعروض ذات البناء الباذخ (مسرحية كين، المعدة عن رواية الكسندر ديماس، التي قدمها روبرت حسين). إن هذا النوع من العروض ظل قريبا بشكل كاف من أصحابه الذين صمموه، بين عام 1911 حتى عام 1913، مثل، فرمن فرميه، مدير مسرح الجوال الوطني، مثلما ظل قريبا أيضا للجمهور الفرنسي الذي شاهده علي مسرح شاتلي فترة ما بين الحربين العالميتين، وقد كانت هذه العروض تقدم علي مسارح ذات صالات كبيرة جدة تتسع لأكثر من ألف متفرج. تحتوي هذه العروض، علي ديكورات، ومؤثرات نارية، وعلي العديد من البروجكتورات، والخدع وعشرات بل مئات الأشخاص من الكومبارس، مع بذخ في الملابس والإكسسوارات التي تتجاوز في بعض الأحيان حدود المعقول. وتروي هذه العروض مغامرات تاريخية مثيرة أو أحداثا بسيطة لكنها جذابة (عرض كباريه، للمخرج جيروم سافري، عام1986).

المسرح التجريبي
وهو المسرح الذي كف عن التقاليد السردية والوصفية واعتمد علي الفعل المسرحي كتجربة حيوية تضع فكرة العرض نفسه في مساءلة وامتحان. ففي المسرح التجريبي، لم يعد العرض هو المقصود بقدر ما هو الحدث، الذي يوجه لكي يمارس تأثيرات سيكولوجية علي المتفرج. وقد ارتبط هذا المسرح التجريبي بالبعد الطقسي للمسرح وأصوله.

مسرح القسوة
إن الحركة السريالية في القرن العشرين التي اجتهدت في تحرير الخيال واللاشعوري من سيطرة العقل، اعتبرت المسرح مثل مكان خيالي ومخرب وهادم للحدود التي تفصل ما بين الحلم والحقيقة. وكان انطوان آرتو، في تلك الفترة يحلم بمسرح آخر، مختلف كل الاختلاف عن المسرح الفرنسي الذي كان لا يزال يبحث عن التوازن بين النص والعرض، وخاصة بعد أن انظم لرواد حركة السرياليين. ومن خلال مفهوم المسرح المقدس، حرر ارتو المسرح من رؤى وأحلام السرياليين التي ظلوا ينادون فيها لسنوات طويلة: (أننا نلعب حياتنا في عرض يتجلى للعيان علي خشبة المسرح) كتب ارتو عام 1962، في المنفستو الأول لمسرح الفريد غاري. وبعد أن شاهد عام 1931 عرضا لمسرحية ريفية، اكتشف حقيقة حلمه في (مسرح القسوة): أن مؤشرات روحية، لها معان محددة تصيب المتفرج الإيحاء، ولكن في قسوة يستحيل التعبير عنها في لغة منطقية قابلة للمناقشة. وهكذا صار يعلن بان علي المسرح أن يخلق لغة تمثيلية وسينغرافية رمزية، تقريبا علي طريقة المسرح الشرقي. ولقد نادي لأجل ذلك، بشكل مسرحي خاص ينتمي إلى البانتوميم واستعمال دمي ضخمة، وأشكال شعارية ومكتنفة بالأسرار، لتحرير القدرات السحرية، والميتافيزيقية الكامنة في الفراغ المسرحي، وفي جسم الممثل. ولكن المسرح يجب أن لا يتوقف عند حدود تجديد لغته، بقدر ما يتوجب عليه أن يعثر علي أساليبه المقدسة، يجب أن يتحول إلى نار حارقة، وليس إلى مرآة عاكسة، مثلما يريد له الأخلاقيون. يجب أن يكون الطاعون بين البشر. أن ما يطلق عليه ارتو (القسوة)، هو تلك الطريقة التي تحرر كل متفرج من غرائزه الأكثر غموضا وسرانية، أي تذوقه للجريمة، استحواذ الأفكار الجنسية عليه، تحرره من طاعون وهمه . إن هذا النوع من المسرح يقارن بالطاعون، ويكشف عن الطبيعة البدائية للإنسان وذلك بتجاوزه للحياة الواقعية والذهاب به نحو الحياة الأسرية والميتافيزيقية، والروحية.

المكان الخارق
في مطلع الستينيات، وبعد عشر سنوات علي موت ارتو، كثيرون ممن يشتغلون في حقل المسرح، تبنوا نظرياته وآراءه الجديدة وخاصة مؤسسي المسرح الحي جوليان بك وجوديث مالينا، Le bread and Puppet theatre، وروبير بوب ولسون، كروتوفسكي، وهكذا ظهرت وتألقت دمي ارتو الضخمة الحجم التي كان يستعملها ارتو في مسرحه، في عروض مسرح Le bread and Puppet theatre الذي يمزج بشكل قصدي وارادي صورا وأشكالا يستعيرها من مختلف التقاليد الدينية، ابتداء من العبادات الوثنية إلى المسيحية مرورا بالميثولوجيا الإغريقية (عرض Fire، عام1966) مثلما نجد دمي ارتو الضخمة أيضا، في عروض بوب ولسون (Civil Wars, 1988, Death, Destrution and Detroi, 1977)، وفي عروض تاديوز كانتور. ومع هؤلاء المبدعين المحدثين في مجال المسرح، أخذت الحركات والإيماءات، أبعادا طقسية مقدسة، مثل هذا الذي يعبر باستمرار المسرح راكضا، في عرض النظرة الأصم ، عام (1970)، لبوب ولسون. إن هؤلاء الفنانين جميعا يتعاملون مع المسرح باستمرار، مثل مكان خارق، تجربة غير مستقرة طوعا أو مثل مكان جذاب وفي نفس الوقت، خطر ويحتاج إلى المغامرة. إن جوليان بك وجوديث مالينا، اشتغلا في عرضيهما (1966، The Brig، والجنة ألان،1968) في هذا الاتجاه والمعني أيضا، أي انهما، واجها المتفرج بصور وحشية ومتطرفة لدرجة أن ضمنا الحدث نفسه، في بعض أتلاحيان، بعضا منها والصقوها بالفعل، بحيث أصبحت جزءا منه، أما كروتوفسكي (صاحب المسرح الفقير) فقد سعي في عروضه إلى خلق طقوس مسرحية حديثة مستوحاة من الطقوس الدينية القديمة، لغرض: إثارة الدهشة والإعجاب، الإيحاء، واستفزاز الطاقة العضوية للمتفرج والممثل في الكلمات والإشارات السحرية. ولم يكتف بهذا وإنما أضاف عناصر أخرى وظفها لاستفزاز الجمهور وإجباره علي المشاركة فيما يجري من أحداث (مسرحية الأمير كونستان،1962). في حين أن تاديوز كانتور، متبعا نفس الرغبة في إقحام المتفجر في كيمياء العرض من خلال تغذية عروضه بذكرياته الخاص، المعاشة منها والمتخيلة، ملتجئا في ذلك إلى القيء والرغبات التي يمكن أن يشترك فيها كل فرد من الأفراد (مسرحية الصف الميت، عام1977).
إن المسرح التجريبي، وفقا لما شاهدناه من تجارب وقرأناه من آراء ونظريات، بعيد عن أن يكون، حبيس بحث سيكولوجي غير محدد زمانيا، انه يتغذى علي أحداث ومظاهر من التاريخ الحديث التي صدمت الجمهور. ولهذا نجد أن وارثي ارتو الروحيين استحضروا العوالم الاعتقالية (المتعلقة بالمعتقلات)، أن صح التعبير، مثل عرض (اكر وبولي، لكروتوفسكي عام1962)، استحضروا حرب فيتنام (Frie, au Le bread and Puppet،) وضع الجنود الأمريكان (The Brig، المسرح الحي،1966) انفجار القنبلة الذرية (Einstein on the Beach، لبوب ولسون عام1967)، أحداث ومحاولات يتناولونها بذهنية تصميميه إنسانية.

مبدعون أم منشطون
النص في خدمة الإخراج
إن المخرج، في الوقت الحاضر، غالبا ما يقترح علي الأعمال الدرامية رؤيته الإخراجية الخاصة. بعض المخرجين يفرضون علي أجزاء كبيرة من العرض رؤية صورية، تحتاج دائما إلى إمكانيات كبيرة، ويطالبون بحرية مطلقة بخصوص النصوص الخاضعة للريبتوار الكلاسيكي: روجيه بلانشون غير تنظيم تسلسل المشاهد في بعض نصوص موليير، دانيل مزكيش اعد نص روميو وجولييت لشكسبير، روجيه لافيليه، اخرج مسرحية حلم ليلة صيف ، في ديكور تذكاري، استخدم فيه الكثير من الخداع، والألعاب الضوئية والصوتية الغربية.
إن الشاهد علي سلطة المخرج المطلقة، هي الحرية التي يأخذها المخرج اتجاه النصوص، وتكوين صور مسرحية منذ بدء تنفيذ العمل، لسحب البساط كليا أو جزئيا من الممثل أو الدراماتورج الدرامي من ممارسة سلطتهما في التأثير علي معني العمل ودلالاته. إذن، أن الإخراج يميل في مثل هذه الحالة لأن يكون هو العرض بشكل كامل ومستقل، والتحرر من ضرورة خدمة إبداع قد سبقه من قبل، والذي هو (النص) وينشغل بخدمة إبداع مستقبلي، ويتمثل (باللعب الركحي).

الإخراج في خدمة النص
على النقيض تماما مما كان سائدا في عشرينات القرن السابق، عندما كان جاك كوبو يبجل ويعظم مسرح المصطبات العارية théâtreux nu فبالنسبة لكوبو، هو المخرج، الناقد، الممثل، والمؤلف، أن المسرح يجب أن لا يكون مجرد مكان تنبثق فيه وتسيطر عليه عوالم شخصية بقدر ما هو فضاء يجب أن يتأسس علي الفهم الحقيقي للعلاقة القائمة ما بين الكاتب، الممثل، والمخرج، لأن العمل المسرحي، عمل جماعي، ولا يملك المخرج فيه سلطة عظمي أو مطلقة، مثلما تم تخيل ذلك من قبل (كوردن كريك). إن المخرج، وفقا لجان فيلار (منشط) ينحصر عمله في تأسيس علاقة حوار حقيقي ما بينه وبين الممثل والمؤلف. ولهذا لابد من وضع حدود قانونية وأخلاقية جديدة لتحديد سلطة المخرج في مواجهة إبداع المؤلف والممثل.
إن الإحساس بأن النص، هو أساس الإبداع الدرامي، قاد وبشكل دائم تقريبا إلى مواجهات مع مؤلفي الماضي العظام، وادي إلى بحث نوع من المشاركة معهم، مثلما شجع علي أيجاد برنامج مسرحي جديد في التعامل. ومن الذين نهجوا هذا النهج، هم: جاك كابو، شارل ديلان، لوي جوفيه، وجان لوي بارو. من هذه المواجهة كان يولد غالبا تقارب مع مؤلف خاص ومميز: في العصر الحديث، ولد تقارب بين شكسبير وبيتر بروك، آريان منوشكين، وبالنسبة لموليير ولد هذا التقارب مع المخرج انتوان فيتيس، (الذي مات عام1990). والمقصود من هذا المنظور التقاربي، هو عرض النص، وتحاشي تقديمه علي طريقة أولئك الذين يسعون إلى تجزئته أو التقليل من قيمته، أي يصبح النص مجرد عنصر من عناصر العرض الكثيرة، ومع ذلك فهو ليس اقل هذا العناصر أهمية. إن قلق الانفتاح علي النص بهذه الطريقة أو تلك صار يمس علاقة الممثل بالنص: يجب علي المخرج أن لا يفرض رؤيته علي الممثل، بقدر ما تترتب عليه قيادته ، أن يسترعي انتباهه وحث مخيلته علي استعمال شخصيته كفرد، في التعبير بشكل واضح ومحدد عن رغباته، عواطفه، وأفكاره.. الخ. إن الديكور والأزياء والإكسسوارات، وفقا (لكروتوفسكي)، لا يمكن أن تحل محل فن الممثل، لهذا فأما أن تكون بمثابة شخصيات تشارك الممثل أداءه وتقيم حوارا معه ومع الآخرين، وأما أن تترك، لأنها في هذه الحالة تكون امتدادات صناعية زائدة. وبهذه الطريقة، يصبح المسرح الفضاء الذي يلتقي فيه خيال المؤلف بخيال الممثل، المخرج والجمهور.

—————————————————————-

المصدر :مجلة الفنون المسرحية – د. محمد سيف

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *