تجليات البطل في الإبداع المسرحي

إذا كانت صورة البطل في الإبداع المسرحي لم تتوان عن التغير والتطور من حيث استراتيجية الكتابة وتقنيات التجسيد الركحي (على الخشبة) بشكل جعلها تتجاوب مع منطق الحقب التاريخية وتحولاتها، فإننا نستطيع مع ذلك تتبع مقوماتها إلى حدود القرن الثامن عشر والوقوف على ملامحها التي تختلف من التراجيديا إلى الكوميديا. غير أنها ستجمع بعد ذلك بين مقومات الجنسين وستصبح خليطاً بين الرفيع والكروتيسك، فكيف ذلك؟ 
 
يعتبر البطل العمود الفقري في التراجيديا الإغريقية، بل أهم عنصر فيها، له مكانة اجتماعية سامية تمثل قيم المجتمع الأرستقراطي الذي يربط بين القيمة الأخلاقية للشخص الاجتماعي وعلاقة الدم والقرابة. ويمتلك صفات متميزة تجعله متفوقاً على عامة الناس. غير أنه تحل به المصائب نتيجة خطأ كبير يرتكبه، فيعاني آلاماً تثير في الجمهور الرحمة والخوف والشعور بالعطف. 
 
ولم تنزح خصائص البطل التراجيدي في المسرح الكلاسيكي كثيراً عن نظيره في المسرح الإغريقي رغم أن الأول انبعث في ظروف تاريخية واجتماعية تختلف عن الثاني حيث ظهور التعامل النقدي، والاقتصاد التجاري المركنتيلي، والتحولات التي طرأت على المدينة – الدولة والتي جعلت هذه المرحلة تقطع مع النظام السابق. .

 
و لقد عبر المسرح بدوره عن هذه القطيعة – وما خلفته من انشطار في الوعي الأوروبي- في الأعمال التراجيدية التي صورت أبطالاً منقسمين على أنفسهم لم يستطيعوا أن ينفصلوا عن المنظومة القديمة، وبناء على ذلك راموا إلى البحث عن القيم المفقودة أثناء مواجهتهم لمواقف جديدة تفرضها تحولات العصر، لذلك تأرجحوا بين البحث عن الحرية وصرامة النظام، بين القديم والجديد.
 
ومما لا شك فيه أن المجال الأرستقراطي أصبح منكمشاً في القرن الثامن عشر لصالح طبقة جديدة بزغت في المجتمع وهي الطبقة البرجوازية، وعرف العصر تحولات جذرية انزاحت عن الثوابت الذهنية القديمة وأعطت تصوراً جديداً للعالم، فقامت الدراما البرجوازية على أنقاض التراجيديا الكلاسيكية وكانت تطوراً طبيعياً للكوميديا، فصار البطل من الطبقة المتوسطة حيث عالجت حياته الواقعية واقتربت من تصوير الحقيقة من خلال المحاكاة. 
 
غير أنه في أعقاب الثورة الفرنسية، ظهرت تيارات جديدة انزاحت عن التيار الكلاسيكي شكلت ردة فعل على الثورة الفرنسية وما خلفته من خيبة أمل لدى المبدعين دفعتهم إلى توظيف أبطال يقدسون الفرد والحرية الشخصية، ويتسمون بالمبالغة في الشعور بآلام الحياة ومحنها، وبالانفعال والعاطفة المشبوبة.
 
ومما لا شك فيه أيضاً أن الثورة الصناعية خلال القرن التاسع عشر أفرزت قيماً جديدة اختلفت عن القيم والأفكار السابقة، وكان من أول اهتمامات الحركات السياسية والاشتراكية الموجودة في هذه المرحلة هو الطبقات الشعبية. ترجم هذا التحول المسرح الواقعي الذي اهتم بالواقع المعيش واختار أبطالاً ينتمون إلى الطبقة الشعبية.
 
ونظراً للاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها أوروبا خلال الحرب العالمية الأولى وما خلفته من دمار وخراب ومعاناة وآلام، بزغت تيارات مسرحية عديدة منها الدادية التي أنكرت القيم القديمة والأنظمة والأشكال الفنية والجمالية والأخلاقية، ورفضت معتقدات المجتمع البرجوازي وكسرت القواعد الفنية منها تحطيم الصورة المتكاملة للبطل البرجوازي، لهذا أفرزت بطلاً غريباً وغير مألوف دائم الاحتجاج على الظلم والقسوة والعذاب. 
 
ومنها الرمزية والسريالية والمستقبلية والتعبيرية التي تمردت على القواعد المسرحية المتوارثة وابتكرت تقاليد جديدة تميزت بالدينامية، منها أنها استغنت عن مفهوم البطل بمفهومه التقليدي وركزت على تصوير الشخصيات ذات الحالات النفسية المضطربة التي تخلف أثر الصدمة لدى المتفرج. 
 
وبناء على ذلك وظفت الرمزية والسريالية شخصيات غير محددة المعالم لا تملك تاريخ ميلاد أو ماضياً تعيش في كل مكان وزمان، لأنها في واقع الأمر مجموعة من الأفكار تتصارع فيما بينها لتفهم دورها في الوجود، وعرضت المشاعر والأحاسيس وجسدت الأحلام والرؤى الداخلية لتعبر على وحدة الإنسان وانعزاله وخوفه من المجهول.
 
كما وظفت التعبيرية أنماطاً شخصية بشرية عامة مثل رجل، امرأة، طبيب، غريب، عامل … عوض استخدام شخصيات منفردة، أو وظفت شخصيات كاريكاتورية وغرائبية بالغ المبدع المسرحي في تصويرها لينقل تصوره الخاص عن الواقع بشكل ساخر. هذا التصوير الكروتسكي للبطل عوض العنصر التراجيدي وقدمه في صورة مأساوية أكثر عمقاً .
 
ولعل المتتبع معنا لاحظ التغيير الهام الذي طال مفهوم البطل- الشخصية الرئيسة- والذي تحول إلى حالات معاكسة بشكل أكثر وضوحاً مع مسرح العبث بعد الحرب العالمية الثانية، حيث قدم شخصيات غير قادرة على العثور على مركز، تبحث دائماً عن معنى منفلت منها لتعكس استحالة تواصل الإنسان في عالم مأزوم ومفجع، لا يهمها تشويق الجمهور أو دغدغة عواطفه، بل تصدمه وتعمق الإحساس لديه بالقلق ساعية إلى تحريره من أوهامه وتعرية الأقنعة المحيطة به: الخيانة، والغموض. 
 
وعلى نفس المنوال خلق المسرح المعاصر لنفسه فضاء فكرياً رفض المسلمات القديمة والتقاليد الفنية الكلاسيكية والحديثة التي تمتلك أسساً واضحة تميز بعضها عن البعض، ودخل مرحلة تاريخية أخرى تساير التطور التكنولوجي والإعلامي والتجاري والاقتصادي. وبدوره قوض المفهوم التقليدي للبطل، بل أصبح من الصعب الحديث عن مفهوم الشخصية بالمعنى المتعارف عليه، لأنها أصبحت ظلالاً تتخبط في المضامين الجزئية والأحداث المتشرذمة، وتعتمد كل اللغات الشفوية والحركية والتشكيلية والموسيقية.
 
ومن الطبيعي ألا يظل المسرح العربي بمنأى عن الفضاء الكوني، وألا يندمج في منظومة المسرح العالمي سواء كان اندماجاً استتباعياً منفعلاً بأساليبه ومضامينه وظرفيتيه السالبة والموجبة، أو اندماجاً واعياً يحفظ قدرة إبداعه ويتبين مدى ملاءمته مع المتفرج العربي من أجل إعادة إنتاجه في مجاله التداولي.
 
غير أن ما يميز المسرح العربي في الآونة الأخيرة – زمن الربيع العربي- هو أنه لا يهتم بتصوير الفرد – البطل الواحد – ولا يسعى إلى عرض مشكلة شخصية محددة، وإنما يعرض مشكلة جماعية وسلوكاً جماعياً إزاء الواقع الحاضر والتاريخ، ولا يكتفي بتناول القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية فحسب ، بل يلقي اللوم على الأنظمة المنغلقة التي كانت أداة للقمع وسبباً في التخلف الاجتماعي والاقتصادي. 
 
ومما لا يخفى علينا هو أن هذا المسرح يروم إلى بث رسائل تستهدف الجمهور الشعبي العريض محاولاً استفزازه وقيادته إلى الصحوة والالتزام بها، لهذا يطرح الأسئلة التي ينبغي أن يسألها المجتمع لحظات القهر والفقر والخوف والاضطهاد للوصول به إلى التحرر من الاغتراب. لذلك ينتقي أبطالاً ترفض الهروب والانعزال والارتداد إلى الذات، تتحمل مسؤولية أفعالها وتواجه مصيرها بالتعبير عن وجهات نظرها وتدافع عنها لأنها تصنع معالم شخصياتها من معترك المواقف الآنية التي تعايشها، وتختار لنفسها إما الشجاعة أو التخاذل، مثل عرض «انفلات» لفرقة سبيس للإنتاج من تونس، أو ترفض كل الأفكار الموروثة التي تكبل الحرية الفردية كعرض «صهيل الطين» لمسرح الشارقة الوطني من الإمارات، أو تحتج وتثور لأنه يتوزعها هاجس الأمل والشك، ولذلك تطالب بالحرية وتصارع من أجلها مثل عرض «امرأة من ورق» للمسرح الوطني الجزائري من الجزائر، أو تسعى إلى الشعور بوجودها حرة وسط هذا العالم، وبمعنى آخر تحررها من التراكمات التاريخية والأعراف المتداولة في عصرها، تنطلق من رأيها كأساس للقدرة والإرادة والمبادرة تتفاعل مع العالم الخارجي كعرض «فو أوف» لمسرح الأكواريوم من المغرب. 
 
ولا يخفى علينا أيضاً أن هذا المسرح ظهر نتيجة الظروف الجديدة والوعي الجديد بالواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي أصبحت عليه البلدان العربية، ونتيجة الضغوطات التي يعيشها المواطن العربي، حيث أصبحت الحاجة ملحة إلى مسرح الاحتجاج الذي يستهدف تعرية الواقع وانتقاد المشاكل والدعوة إلى معالجتها، وتحفيز الجمهور على تغيير الواقع من خلال المشاركة في صنع قرارات عصره وتاريخه.
——————————————————————–
المصدر : مجلة الفنون المسرحية –  د. نوال بنبراهيم – الدوحة

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *