تجربتي في المونودراما التعاقبية  

 

 

 

صباح الأنباري

(1)

مشروع المونودراما

عنوان لا يشي بشيء أبعد من كونه مخططاً لتقديم المونودراما بطريقة ما لا تتعدى حدود النص الذي اعتدنا على قراءته، والعرض الذي اعتدنا على مشاهدته حسب، إذ لا جديد أو مدهش في هذا بعد أن امتلأت الرفوف بها منذ بدء العمل على الكتابة فيها وحتى يومنا هذا. 

لم أكن أعرف شيئاً عن هذا المشروع الذي وضع لبناته وبيانه الفنان فاروق صبري، ولم أقرأ عنه في صحيفة ما، أو مجلة ورقية أو الكترونية ما. وبعد قراءتي له وجدت فيه أفكاراً ابتكارية فعلاً، ورؤية واضحة تتجاوز فكرة الثنائية، ولا تسقط في فخِّ الازدواجية، ووجدت أنه من المشاريع القابلة على التطور لديناميتها، وإن من الممكن التنظير لها، أو تعزيزها بما يكفل انجازها عملياً. لقد قدّم المشروعُ ثلاثَ طرق مبتكرة من شأنها أن تجدد كثيراً في بنية المونودراما التقليدية وتخلِّصها من رتابتها، ولا تقفل أفكارها بقفل الشخصية الوحيدة المستوحدة المنفردة في بث شفرات النص من على خشبة المسرح، بل تعمد إلى إدخال الشخصية التي كانت افتراضية في السابق، ومكتفية باستلام شفرات الشخصية المرسِلة غيابياً، وتفعيل دورها في الردّ على تلك الشفرات في موقف زاخر بالتناقضات وردود الأفعال الدراماتيكية. هذه الطرق الصورية الثلاثة كما وردت في بيان صبري الذي أرسله إليَّ لاحقاً هي:

1. “يروي لنا الممثل الأول حكاية العرض فإن فرغ من عرضها يبدأ الممثل الثاني بسرد نفس الحكاية ولكن من وجهة نظر مختلفة، وربما متعارضة عن الممثل الأول.

2. ممثل واحد يروي حكايته الشخصية، والحكاية تفرش أمامنا أحداثاً وشخصيات وما ان ينهي أو على وشك الانتهاء من روايته، يحدث عبر تغيير في بعض تفصيلات الخشبة: الانارة والأزياء والإكسسوار و.. و.. و.. يظهر الممثل نفسه بملامح مختلفة يشخص شخصية رئيسة ثانية من الحكاية ليرويها ولكن لبعض مفاصلها التي تبدو مختلفة وربما متعارضة عن حكاية الشخصية الاولى…

3. حكاية ما يرويها ممثل وما أن يصل نصفها نفاجأ بممثل أخر مختلف شكلاً واداءً في الجسم والنفس، وفي بعض سياقات البنية المضمونية والجمالية للحكاية”.

ولقد لفتت انتباهي الطريقة الأولى بما فيها من تعاقبية تتحاشى كسر عمود المونودراما محافظة على شكلها الأحادي الذي بدونه تفقد قانونها الرئيس، وقاعدتها الذهبية، وعمودها الفقري، وهذا هو بالضبط ما أوحى اليَّ بفكرة عنونتها بـ(المونودراما التعاقبية) تمييزاً لمشروعها المختلف عن المونودراما التقليدية بشكلها واسلوبها. ورأى صبري أنني اقتربت من جوهر مشروعه كثيراً جداً مما جعله يتبنى التسمية لتكون عنواناً لبيانه المنشور في عدد من المواقع الالكترونية، هذا فضلاً عن تأكيده على إمكانية هذه الطريقة على تعاقب شخصيتين أو ثلاث شخصيات حسب مقتضى فكرة النص مع الحفاظ طبعاً على ما تتصف به من (الفردانية).

*

النصوص التعاقبية

شرعت بكتابة أول نص تعاقبي تحت عنوان (أسئلة الجلاد والضحية) وحرصت على أن يكون من شخصيتين تشتركان بموضوعة واحدة، وتختلفان في طريقة روايتها ضماناً للحفاظ على الصراع الذي هو جوهر الدراما وقدرتها الدينامية على خلق التوتر اللازم الذي يطرد الضجر ويخلق نوعاً من التشويق لمتابعة سير الأحداث عند الشخصيتين. 

تم الاتفاق مع صبري على إخراجه، وبدأَ الاشتغالَ عليه، والتحضيرَ له، ووضع كافة المقترحات اللازمة للعرض إلا أن الفكرة لم تجد حينها مؤسسة فنية داعمة، أو جهة رسمية تأخذ على عاتقها مسؤولية دعم المشروع والصرف عليه. وهكذا ظلَّ على حاله قائماً ومؤجلاً إلى إشعار غير معلوم. لقد أثار المشروع لغطاً كثيراً، وأسئلة، وحيرة، وانتقاداً، وتقوّلات كثيرة قبل البدء به عملياً مما اضطرني إلى كتابة مقال حاولت فيه وضع النقاط على الحروف، وتعريف المونودراما التعاقبية، وأسسها، وافتراضاتها الفنية. وقد تم نشر المقال في صحيفة (العالم) البغدادية في عددها المرقم 1142 والصادر بتاريخ 18/ 11/ 2014. وتبعت تلك التعاقبية بتعاقبية أخرى وأخرى. 

ثلاث تعاقبيات ولا يزال صبري منتظراً اليوم الذي يطلق فيه صيحة وليدنا التعاقبي البكر. خلال ذلك تسنّى لي طبع كتابي الموسوم ( مذكرات مونودرامية) وقد تضمن على التعاقبيات الثلاث فرأيت بدافع الوضوح أن أضع مقدمة تلغي التباس التسمية وما سيثار مجدداً ضدها فاخترت المقال نفسه وأجريت عليه بعض التعديل ليكون نشره ملائما لكتابي الجديد.

التعاقبية وافتراضاتها الفنية في المونودراما 

تنطلق المونودرامات التعاقبية الثلاث فنياً من المشروع التعاقبي الابتكاري الجديد الذي بدأته بنصي الريادي الأول الموسوم (أسئلة الجلاد والضحية)(1) فما هي التعاقبيّة في المونودراما؟ وما هي افتراضاتها؟ وما ضرورتها؟ 

بدءا أُثبِّتُ وجهة نظري التي لا تتقاطع أو تتعارض مع وجهات نظر بعض الأخوة ممن حاول تذكيرنا، أو الردّ علينا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أو الصحف اليومية بتعريف المونودراما التقليدية انطلاقاً من اعتبارهم أننا خرقنا قانونها المركزي، وخرجنا عن وحدانيتها وفردانيتها، والذي جاء فيه “إنها العرض المسرحي الذي تمثله شخصية واحدة” مؤكدين على أن القانون الأول الذي يحكم النصوص والعروض المونودرامية هو الفردانية وهو قانون غير قابل للنقاش أو المداولة، وله حصانة كبرى ضدَّ الخرق مهما بلغت درجة حداثوية هذا الخرق أو تجريبيته. وهو العمود الفقري الذي لا يمكن كسره لأن النصوص والعروض قائمة عليه، ومن دونه يتهاوى بناء المونودراما المرصوص متحوّلاً إلى بناء تقليدي لمسرحية متعددة الشخوص. وقد حافظت وأنا أكتب نصوصي التعاقبيّة الجديدة على قداسة هذا القانون. فالمسرحية تبدأ بشخصية واحدة مستحضرة ماضيها وما حدث لها (ذاكرتها الانفعالية) وتأثير ذلك على حياتها آنيا وبشكل حيّ على خشبة المسرح. ولم أدعْ الشخصية تتوقف عن بثّ شفراتها النفسية والاجتماعية والفكرية المضادّة لأسمح لشخصية أخرى بالدخول إلى الخشبة لتفعل ما فعلته الشخصية السابقة ثم أعود ثانية وثالثة لأكرر الحالة حتى نهاية العرض بل، تركت الشخصية الوحيدة تكمل بوحها (خطابها) على خشبة المسرح (داخل النص)، وتنتهي إلى حيث ينتهي معها الفعل الدرامي مجترحاً خاتمة النص أو العرض الذي تسدل الستارة على أحداثه وعلى شخصيته الوحيدة. 

إن ما طرحته الشخصية (نصياً أو تطبيقياً) يمثل رؤيتها، وتعارض هذه الرؤية أو تقاطعها مع رؤية شخصية غائبة ومسببة لأزمتها، ودافعة إياها إلى حضن الفردانية والوحدانية التي ينبثق عنها العنصر الأكثر أهمية وهو الصراع الدرامي الداخلي الذي يتجسد من خلال حدة التناقض بين الشخصية ونقيضها، وبينها وبين نفسها، وبينها وبين الضغوط الخارجية من جهة أخرى ولكن دون أي تواجد حيّ للشخصية النقيضة على خشبة المسرح من شأنه أن يخرق الوحدانية، أو أن يخرج منها دافعاً إياها إلى التعددية.

عند هذه النقطة، نقطة النهاية واسدال الستار بالمعنى المسرحي الخالص تبدأ التعاقبيّة حركتها منطلقة وعارضة وجهة النظر الأخرى للشخصية التي عاملتها الشخصية الأولى كشخصية متهمة في تسبب الأزمة التي أوقعتها في حبائل وحدانيتها المدمرة. 

الشخصية الثانية إذن لا تتصل بالأولى إلا من خلال كونها ضحية لها، ونتيجة من نتائجها، ومسبباً رئيساً لأزمتها. وهي تبدأ مشوارها المسرحي بعرض ما لها وما عليها مدافعة عن وجهة نظرها واختلافها عن الشخصية الأولى ضمن نسق مسرحي واحد غير خارق لقانونها العام (الفردانية). وما تقدمه يشكّل رؤية مستقلة هي رؤيتها الخاصة والمختلفة في خصوصيتها عن الشخصية الأولى. إن لها نصها أو عرضها الذي لا علاقة له بالعرض السابق إلا من خلال ما بينّاه من نقاط الاتصال، وهي تأتي ترتيبياً بعد انتهاء المنودراما السابقة لتغدو المونودراما اللاحقة ومن هنا جاءت تسميتي لها بـ(التعاقبية).

أما الرأي القائل بتسمية العرض الجديد بـ(عرض الحضور والغياب) فإننا نعترض عليه أولا لكونه مبنياً على أساس التعددية، وثانيا لإمكانيته على أن يكون أحادياً في نص مونودرامي واحد تجسّده شخصية واحدة على الخشبة من خلالها نضع أيدينا على فعل الحضور الذي تمارسه الشخصية المونودرامية، وفعل الغياب الذي يصل الينا من خلال أزمتها ومحاكمتها للشخصية الغائبة المتهمة والمحكوم عليها غيابياً.

التعاقبية إذن تفترض وجود شخصية فردانية للمونودراما الأولى تمثل مسرحيتها ثم تغادر الخشبة بعد اكتمال كلَ شيء (كما جاء ذلك في الفقرة الأولى من مشروع صبري). وتفترض شخصية أخرى للمونودراما الثانية كانت موجودة في ذهن الشخصية الأولى كندٍ لها ونقيض مستقل. ولا اعتراض على كون الممثل التعاقبي يقوم بدورين مختلفين اختلافاً تاماً تتحكم بإظهار مهارته الفنية، وتقنيته، وقدرته على تمثيل أكثر من دور واحد في أمسية مسرحية واحدة. وتفترض أيضاً أن الفعل حدث على خشبة المسرح وانتهى ليبدأ بعده فعل آخر يتضمن على العناصر المونودرامية كاملة وهذا هو السبيل السليم الذي تقفو عليه خطى العملية التعاقبية. 

*

وتأكيداً لسلامة العملية التعاقبية فقد وضعنا عنوانات النصوص بشكل يتلاءم مع مزدوجة التناقض الشخصي فالنص الأول تشكّل من مفردات ثلاث (أسئلة الجلاد والضحية) فاذا استبعدنا المفردة الأولى فان المفردتين الباقيتين تعطينا انطباعاً أولياً على وجود شخصيتين متناقضتين (غالب ومغلوب) ضامنتين للصراع المباشر بينهما كحوارية ثنائية محكومة بالاتصال ولكنها في مسرحنا التعاقبي محكومة بالانفصال. وما ينطبق على النص الأول فانه ينطبق على النص الثاني (القاص والقنّاص) والمركب من شخصيتين منفصلتين أيضاً، ومتناقضتين جوهرياً فالشخصية الأولى (القاص) موكّلة للدفاع عن الحياة وجمالها بينما الثانية (القنّاص) موكلة لقتل الحياة وتدميرها، وينطبق أيضاً على النص الثالث (القتيل والقاتلة).

المونودراما التعاقبية عملية تسعى إلى الخروج عن التقليدية في الكتابة والعرض، وعن الشكل والمضمون، وتسعى إلى تثبيت منهج درامي خاص يتجاوز القديم، ويجترح الجديد. وإذا كان الفنان فاروق صبري قد وضع الخطوة الأولى على طريق التبشير بالعملية التعاقبية فإننا توازياً معه وضعنا الخطوة الأولى على صعيد التطبيق النصي الذي سيعقبه بالتأكيد اشتغاله عليه تعاقبياً (تطبيقياً) على وفق منظوره الفلسفي، ورؤيته الفنية والفكرية. ومن الجدير الإشارة هنا إلى وجود مشتركات عامة بين مؤلف النص التعاقبي وبين مخرجه. مشتركات فكرية تلغي الكثير من الحدود، وتقرّب الكثير من وجهات النظر وإن لم تلغِ الاختلاف بينهما. وتثبيت افتراضاتي في هذا المقال لا تعني بالضرورة الغاء ما افترضه الأستاذ فاروق صبري من أسس عامة لهذا المشروع مرتبطة بالعرض المسرحي. ثمة فارق بسيط يتجسد في نوعية الاشتغال على هذا المشروع. فالفنان فاروق صبري يشتغل على جانبه التطبيقي إخراجياً بينما اشتغلُ أنا على جانبه التطبيقي نصياً. هو يشتغل على الخشبة كمساحة للعرض بينما اشتغل أنا على الورق كمساحة للنص، وعليه فإن افتراضاتنا أخذت جانباً تخصصياً مشتملاً على جانبي العملية المسرحية تنظيراً وتطبيقاً منذ بدء الاعلان عن التعاقبية كمشروع ابتكاري متجاوز للتقليدية بحدود محسوبة ومحدودة فنحن لا نزعم أننا كسرنا حاجز التقليدية وهدّمنا جدار التقليد بشكل تام بل أكدنا مراراً على أننا سعينا من وراء هذا المشروع إلى تحقيق ذلك بكلّ ما نملك من قوة الابداع المتواضعة، وتركنا الباب مفتوحاً على مصراعيه لمن يأتي بعدنا فيضيف من عندياته لبنة جديدة، أو افتراضات جديدة، أو ابتكارات داعمة ومعززة لطبيعة المشروع التجديدية. ولا نريد الإطالة هنا بل نترك القارئ مع نصوصنا الثلاثة ليتحرّى بنفسه عن جوهر العملية التعاقبية.

————————————————————

المصدر : مجلة الفنون المسرحية 

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *