بيكيت-جياكوميتي: اللقاء الفريد بين مسرح طليعي ونحت إشكالي

 ما الذي يمكن أن يجمع روائياً وكاتباً مسرحياً طليعياً مثل صمويل بيكيت (1906 – 1989) مع فنان ونحات إشكالي مثل ألبرتو جياكوميتي (1901 – 1966)؟ وإذا كانت صداقة الفنان مع الفنان، في باريس الأربعينيات ومناخات الحرب، قد توطدت بين الرجلين ولم تقتصر على لقاءات عابرة وطواف في حيّ مونبارناس الشهير باحتضان الفنون والتيارات الحداثية، فما الذي قاد النحات صاحب الأجساد المتطامنة النحيلة الحائرة إلى خشبة المسرحي صاحب انتظار لا يبدأ ولا ينتهي في عراء من العبث واللامعنى؟

هذا ما يحاول «معهد جياكوميتي»، في العاصمة الفرنسية والواقع في حي مونبارناس تحديداً، الإجابة عنه من خلال معرض غير عادي عنوانه «جياكوميتي/ بيكيت: تعثرت ثانية، تعثرت خيراً»، والعبارة الثانية في عنوان المعرض مستقاة من رواية بيكيت القصيرة Worstward Ho التي صدرت سنة 1982. وقد لا يصدّق الكثيرون أن أقصى تشاور بين المسرحي والنحات كان قد دار حول عدد الأوراق التي يتوجب أن تحملها الشجرة الشهيرة الجاثمة فوق رؤوس شخصيات «في انتظار غودو»، مسرحية بيكيت الأشهر. ففي عام 1953 قام روجيه بلان بإخراج المسرحية بالتعاون مع بيكيت على مسرح «بابيلون»، الذي لم يعد موجوداً اليوم، وفي سنة 1961 أعاد جان – ماري سورو إخراج المسرحية ذاتها على مسرح الأوديون الشهير، فكانت هذه فرصة بيكيت لإبداء الاعتراض على الشجرة الأولى في عرض بلان، وكتب إلى جياكوميتي يسأله إن كان مستعداً لتصميم شجرة أخرى للعرض الجديد، وهذا ما حدث.
غير أنّ هوغو دانييل، المشرف على المعرض الحالي، يرى أنّ التعاون بين بيكيت وجياكوميتي لم يقتصر على تصميم الشجرة بل تجاوزه إلى تفاصيل أخرى تخص عرض «في انتظار غودو»، بالنظر إلى انّ فترة إخراج العرض الثاني للمسرحية شهدت توطّد الصداقة بين الفنانين بحيث تكثفت لقاءاتهما الثنائية في مقاهي مونبارناس، وتعمقت حواراتهما حول المسرح والنحت. ويكتب دانييل: «للمرّة الأولى سوف يوفّر معهد جياكوميتي الروابط التي جمعت الفنان والكاتب معاً. والمعرض سوف يتناول صداقتهما الطويلة، ومجالات تعاونهما، والصلة الوثيقة بين أعمالهما التي تجاوزت مسار الفلسفة الوجودية. وفي موازاة أعمال جياكوميتي البارزة، مثل «القفص» (1950) و»ثلاثة رجال مشاة» (1947) و»شجرة غودو» (1960) والعديد من الرسوم غير المنشورة، تُعرض من تأليف بيكيت نصوص ومسرحيات وإرشادات إخراج وأفلام. والروابط بين منحوتات جياكوميتي ورسومه ونصوص بيكيت ومقاطع الأفلام والصوتيات سوف تتيح لنا معالجة الموضوعات الرئيسية التي جمعتهما: أي أهمية السيرورة الإبداعية بين التكرار والخيبة (ومن هنا العنوان الفرعي)، واهتمامهما بجسد هو في الآن ذاته وسيط وعبء، وأهمية السينوغرافيا، وانخلاع الجسد والكلام، والعزلة، وحسّ العبث».
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ بيكيت اقتفى اهتمامات فنية أخرى غير الرواية والمسرح، فأخرج فيلماً في سنة 1964 بعنوان «فيلم» وسلسلة أعمال للتلفزيون تبدأ عناوينها بعبارة Eh Joe. وفي سنة 1936 كتب بيكيت رسالة إلى المخرج السوفييتي الكبير سيرغي أيزنشتاين يعرض فيها رغبته باستئناف العمل على تراث ضائع يخصّ الفيلم الصامت، ولم يكن إخراج بيكيت لشريط «فيلم» سوى تتويج لخياراته في المسرح والسينما، وترافق أيضاً مع صحوة واسعة النطاق في ميدان الفيلم الصامت خلال موجة الحداثة السينمائية الثانية.
وفي كتابه «جياكوميتي: سيرة» يشير جيمس لورد إلى أن الفنان النحات لم يكن المبدع الوحيد في باريس الذي يشعر باغتراب وجودي وصراعات فلسفية، إذ كان بيكيت يعيش الحالة ذاتها، وهذا ما سهّل اتصالات بين الرجلين سرعان ما تطورت من العلاقة الشخصية إلى التفاعل الإبداعي والفني. وعندما التقيا وارتبطا بصداقة طويلة، منذ العام 1937، كان بيكيت يقيم في فندق متواضع للفنانين والكتّاب يدعى ليبيريا، يقع على مسافة 20 دقيقة من محترف جياكوميتي ومنزله، لكن لقاءاتهما كانت تتم في مقاهي مونبارناس، مثل «الدوم» و»الكوبول»، حيث كانت هذه مستقرّ الحياة الثقافية والفكرية الباريسية خلال خمسينيات القرن الماضي.
وبعد انتهاء الحرب عاد الصديقان إلى باريس في سنة 1945 (كان جياكوميتي قد غادر إلى جنيف، وبيكيت التحق بالمقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي في ريف جنوب فرنسا)، فتوطدت صداقتهما أكثر من ذي قبل، خاصة بعد أن اختار بيكيت سكناً ملاصقاً لمحترف جياكوميتي. ورغم ما اشتُهرا به من ابتعاد عن التأنق في الملبس، فإنّ ما يحتويه المعرض من صور فوتوغرافية يُظهر اعتناءهما بالمظهر وبالأسلوب، وتفضيل الثياب ذات الخياطة البسيطة والخطوط التفصيلية والقماش الجيد من الصوف والتويد غالباً. واللقطات التي تركتها لنا عدسات مصوّرين بارزين أمثال ريشارد أفيدون وبراساي وهنري – كارتييه بروسون وسابين فايس تبيّن بوضوح مقدار التفات بيكيت وجياكوميتي إلى الأسلوب.
وبين فقرات المعرض، التي تراعي إجراءات كوفيد -19 الصحية، هنالك فقرة يؤديها بيدرو غارثيا فيلاسكيز بعنوان «بيكيت على الموسيقى»، ويقترح خلالها حواراً بين كائناته الآلية (الروبوتوتات) ونصوص بيكيت في قراءة جون ليسن، حيث يأخذ المعرض بعداً صوتياً خاصاً من التكامل الأعلى الذي يتخذه حوار الكاتب المسرحي والفنان النحات. كذلك يقترح المعرض قراءات من نصوص بيكيت وجياكوميتي وكتّاب آخرين، بصيغة رقمية وبودكاست، ويتولى الممثل المسرحي دوني لوفان قراءة مختارات من مسرحية «في انتظار غودو» وأعمال أخرى. وقد تكون ذروة المعرض، ضمن الالتزام بإجراءات التباعد الصحي، هي إتاحة الفرصة أمام الجمهور لمشاهدة الديكورات التي أنجزها جياكوميتي للمسرحية، بمعزل عن الشجرة الشهيرة ذاتها، وسيُتاح للفنانين والممثلين والهواة ومحبّي بيكيت وجياكوميتي أن يساهموا في هذا العرض الافتراضي عبر منصة إنستغرام.
توفي بيكيت بعد 23 سنة من وفاة جياكوميتي، وفي كتابها «صمويل بيكيت: الفنان والعارض» تروي الناقدة البريطانية جوديث ولكنسن تفاصيل كثيرة مدهشة حول النطاق العريض الذي جميع المسرحي والنحات، لجهة الوسائط والتصاميم والعمارة والسينما، إذا وُضعت جانباً أعمال الأدب في الرواية والمسرح والسينما لدى بيكيت، وأعمال النحت والتشكيل لدى جياكوميتي، ثمّ فلسفة الوجود والكتابة والعبث التي وطّدت نظراتهما إلى الحياة والواقع. وليس معرض باريس المفتوح سوى استعادة منوّعة لتلك الأواصر العميقة، بين مسرح طليعي ونحت إشكالي.

باريس ـ «القدس العربي»:

Home

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش