بيرتولد بريشت والمسرح العربي د . راجي عبدالله #العراق

بيرتولد بريشت والمسرح العربي د . راجي عبدالله #العراق
لقد إنتشر مسرح بريشت في ألمانيا أولاً ومن ثم بأوربا في الستينيات وفي السبعينيات من القرن الماضي , وكذلك في مناطق مختلفة من العالم ومنها بلداننا العربية التي قدمت هذه المسرحيات , بعد أن أثرت على الكثير من المخرجين والفنانين المسرحيين العرب  هنا وهناك . لكن السؤال الذي يطرح نفسه هل تعامل المسرح العربي مع مسرح بريشت تعاملاً صحيحاً , يستند إلى منهجية سليمة وإلى إعمال مسرحية قدمت بطريقة مغايرة للأعمال الواقعية التي كانت تزخر بها المسارح العربية منذ مطلع القرن العشرين حتى يومنا هذا ؟ للإجابة عن هذا السؤال وغيره من الأسئلة التي قد تدور في أذهان المسرحيين العرب حول مسرح بريشت , يمكن التطرق إلى أهم مراحل نِشأة وتطور هذا المسرح بإيجاز :
أن  المسرحيات التعليمية لبرتولد بريشت Bertold Brecht التي سميت أيضاً بالمسرح الملحمي تقف في مقدمة الفنون المسرحية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية ,  شأنها شأن المذاهب والتجارب المسرحية الأخرى التي ظهرت بين الحربين العالميتين وإستمرت إلى مراحل متأـخرة حتى يومنا هذا . وللحقيقة يمكن القول بأن مسرح بريشت يحتاج بحد ذاته إلى بحث مستفيض لسعته وشموليته , لما تتميز به مسرحيات بريشت في تأكيدها الدائم على الرؤية المتفائلة في ظرف صعب ومعقد , وفي هذا المجال لابد من الإشارة إلى أهمية نظريته الجديدة التي أسماها الباحث الألماني فالتر بنيامين Walter Benjamin ( الموضوعية الحديثة )اعتماداً على تحليله لمسرحية ( أوبرا القروش الثلاثة) , والتي إستطاع فيها بريشت  أن يرينا فيها فناً جديداً لجمهور جديد , قد أوصله إلى رأي مسرحي يفيد ( بأن من واجب الكاتب المسرحي تغيير العالم وعدم الاكتفاء بوصفه).
لذلك لم يقتنع برتولد بريشت , الكاتب والمخرج والممثل , بشكل نهائي كامل بكل أعماله , فكان دؤوباً على رفض كل الأساليب الجامدة والجاهزة في كتاباته المسرحية وعروضه , مما جعله يلجأ إلى التشذيب والتصحيح في المشاهد المكتوبة والمنجزة على خشبة المسرح .
كل ذلك لم يأت بمحض الصدفة ,  بل تأتى من خلال التجارب الكثيرة التي مر بها , مستفيداً بذلك من منهج (بيسكاتور)  الفكري الجمالي وطوره من خلال تجاربه على المسرح الجديد .
إذن هو مسرح يحاكي الواقع ويتمرد عليه , ونظريته مغايرة تماماً لنظرية الواقعية التي أسسها  ستانسلافسكي , فهما مختلفان تماماً , ولهذا يصعب القول بأن هنالك أي نوع من التقارب بين مسرح بريشت الألماني , وبين مسرح ستاسلافسكي الروسي .
وفي الحقيقة كانت ثورة بريشت على الواقعية قد أدت إلى فصل الأدب المسرحي ( الدراما ) عن فن المسرح , وهي تلك الثورة التي لا تنفصل عن ثورة الفنانين التعبيرين الألمان . لكنها كانت في جوهرها تمرداً على النظرة التقليدية إلى الإنسان وشخصيته باعتبارهما جزء لا يتجزأ , فكل منهما يكمل الآخر .
بيد أن المشكلة التي وقع فيها بعض منظري المسرح هو تركيزهم على أعماله النقدية وكتاباته أكثر مما يفعله .
وقد تنبه هو إلى هذا الخطأ فكتب موضوعاً  عام 1953 أي قبل وفاته بثلاث سنوات قال فيه :
( التفسيرات التي أقدمها لمسرحي , بل وكثيراً من الأحكام التي بنيت على هذه التفسيرات لا تتناول النصوص والأعمال المسرحية التي كتبتها , قدر ما تتناول المسرح الذي يتخيل النقاد أنني كتبته حين يقرأون دراساتي النظرية . والواقع أن نظرياتي أبسط  مما يتصور الكثيرون . ولكن هذه البساطة لا تتضح للقارئ بسبب التعقيد الذي اتسمت به تلك الكتابات النقدية ) .
إذن إن هذا المسرح بحاجة ماسة إلى نقاد مسرحيين علميين يستطيعون تحليل ما يطرح على خشبة المسرح من تجارب عملية مباشرة , ولا يكتفون قطعاً بالوصف الظاهري لما يرد في النصوص المسرحية فقط . وعليه فإنه من الممكن أن يرجع هذا التعامل مع النص أولاً وأخيراً كمقياس أساسي للنص المسرحي , هو الذي كان ومازال يشكل النقطة الأضعف في ذهن النقاد المسرحيين ومنهم الأوربيين ومنهما النقاد العرب .
هذا هو الحال السائد في عصر بريشت الذي صدم في مطلع حياته الفنية , بعد أن رأى هذا الانفصال الكبير بين المسرح الذي تقدمه الإعمال الواقعية الكبيرة وبين المسرح الجديد .
بيد أن بريشت لم يكن يحارب الواقعية لمجرد أنها واقعية , بل بسبب كونها كانت
تؤدي إلى تثبيت أنماط مسرحية معينة دون أي تغيير .
 كما أنه عندما تمرد على مسرح أرسطو ( أي المسرح الكلاسيكي القديم ) الذي كان أرسطو يحدد ملامحه , كان يتمرد على معنى الدراما التي وصلتنا منذ ذلك التاريخ .
وبالاستناد إلى رؤياه الفكرية والفلسفية فقد أراد بريشت أن يغير هذا الواقع المفروض , من خلال تغيير نوعية السلوك الاجتماعي الذي لا يمكن تغيره , إلا إذا تغير نوع التفكير البشري عن طريق تفاعله مع محيطه بطريقة مختلفة عن السابق . وكان هذا يستلزم منه أن ينقض فكرة المسرح الكلاسيكي ( الفنية ) عن ثبات الإنسان وثبات شخصيته , لأن الإنسان قابلاً للتغيير ومن ثم قابلاً للتغير , أي أنه يؤثر ويتأثر .
والمسألة الثانية التي يمكن طرحها في هذا المجال , هل إستطاع المخرج العربي وكذلك الممثلون العرب التخلص من الطريقة الواقعية في التحليل والأداء الموروثة من الزمن الماضي . لقد كان المخرجون العرب ومازالوا ينظرون إلى مسرح بريشت على أساس أنه يلغي الإندماج مع الشخصية , بما يسمونه إسقاط حاجز الوهم الذي يمثله الجدار الرابع , وإلغاء المسافة الفاصلة بين الممثلين على خشبة المسرح وبين الجمهور . هذه الأمور كلها من أبجديات هذا المسرح الأولية وليست من عمومياته , لأن هذا المسرح كان يعتمد أساساً على المتعة البصرية والحسية دون أن ينسحب كلية عن الأفكار الفلسفية السهلة الممتنعة التي تطرح ببساطة أمام الجمهور .
وانطلاقاً من هذا فإن بريشت لا يستطيع أن يقدم شخصيات خيالية أو غريبة ليست واقعية , لأن هذا سيؤدي حتما إلى حالة من التناقض بين ما يسعى إلى تحقيقه بنظريته وبين رؤيته إلى الواقع الإنساني وتعامله معه .
لذلك فإنه نجح أيضاً في إيجاد وسيلة وطريقة أخرى للتعامل مع المسرحية نفسها , كذلك في تأصيل العلاقة الحيوية بين المتفرج والجمهور , تلك العلاقة التي تختلف كلياً عن العلاقة القديمة التي كانت سائدة من قبل والتي تعتمد على الأدب المسرحي في تحديد وسائل العرض المسرحي , مثل تلك الوسائل والتقاليد التي كانت سائدة في العصر الإليزابيثي في بريطانيا , حينما كان الجمهور يتفاعل مع العرض المسرحي ,  وفي نهايته ينزل الممثلون إلى الصالة ليتحدثوا مع الجمهور ويستمعوا إلى الملاحظات التي يبديها عن العرض .
كما إنه استفاد من استخدام الجوقة ( الكورس ) التي كانت إحدى أهم ركائز المسرح اليوناني , كذلك من عمل المهرجين في السيرك والكرنفالات الشعبية التي كانت تقام في مدن ألمانية عدة , إلى جانب استفادته من العروض الصينية والهندية واليابانية .
إنها حالة من السيطرة الكاملة على الدور وعلى الجمهور ,  بطريقة علمية مدروسة ليس فيها أية حالة قسرية مفتعلة .
وعليه فإن على المتفرج أن يتساءل دائماً عن الذي يجري أمامه , ليس باعتباره حدثاً واقعياً , بل ربما لم يحدث على الإطلاق ولن يحدث في المستقبل , لكنها مجرد أسئلة لرفع مستوى التلقي عند المتفرج لا لتخديره .
لقد قدمت الكثير من الأعمال المسرحية لبرتولد بريشت في العراق وسوريا وفي مصر وفي معظم البلدان العربية خاصة في شمال أفريقيا . لكن المشكلة التي  رافقت تلك العروض هي التقيد الكامل بظاهرية الأداء في هذا المسرح وليس في التعمق في تقديم نوعية من الإداء الفعلي على خشبة المسرح , حيث أن أغلب المخرجين كانوا يركزون على نمطية الأداء ضمن المسميات التي تتصف بها هذه النظرية,  وليست في التركيز على صيغ الأداء الجمالي والفكري لهذا النوع من الأداء الجديد .
وكما هو ملاحظ أيضاً أن بعض النقاد المسرحيين العرب وصفوا بيرتولد بريشت على أنه ( دراماتورغ ) , وكانوا يستندون بهذا إلى الموضوعات التي إستلهمها بريشت من المسرحيات والأحداث والموضوعات الأخرى , ومن ثم عمل على تحويلها إلى مسرحيات جديدة تقدم للجمهور , إن مثل هذا الرأي تم طرحه أيضاً في بعض الندوات الفكرية ومنها الندوة الفكرية التي رأست جلستها في المهرجان العاشر للهيئة العربية للمسرح الذي عقد في تونس , التي ذهب فيها بعض المنظريين العرب من أن بريشت قد صاغ مسرحياته صياغة ( دراماتورغية ) إن صح التعبير , وهو في الحقيقة مؤسس نظرية فنية غنية جداً , فتحت الكثير من الآفاق للمسرح العالمي والعربي ,  بالتحول من الطرق التقليدية الى طرق حديثة في تعاملها مع المسرح .
لذلك فإن تحطيم الجدار الرابع ذلك الذي يؤدي إلى الانفصال اللا واعي بين المتفرج والفعل المسرحي ليس كافياً عند بريشت , بل على المخرج حسب رأيي أن يعتمد على فنون المسرح الشامل , من غناء ورقص وموسيقى وغيرها لكي يشرك الجمهور في العرض ويمنعهم من إلى الولوج في وهم الواقعية والشخصية والحدث . كل ذلك يتطلب أيضاً ممثلاً شاملاً يجيد كل أنواع الفنون أو أن يتدرب عليها باستمرار .
كما إن دراسة النقائض التي ترتكز عليها أية نظرية ستعطي المخرج الفرصة الحقيقية للتعامل مع تلك النقائض ,على أساس الاكتشاف الجديد للحقائق المسرحية التي لا بد له من طرحها في عمله المسرحي .
وعليه فإن المتتبع  للأعمال المسرحية التي كان يقدمها مسرح ” البرلينر  إنسامبل” الذي  أسسه بريشت توصلنا إلى أنه قد أعلن فيه فكرته الملحمية بعد تخطيه تلك المرحلة التعليمية التي إستمرت لفترة طويلة من الوقت .
بالإضافة إلى ذلك فإن الفصل بين المرحلة التعليمية والملحمية , لها أهمية قصوى في معرفة الطريقة الصحيحية في التعامل على خشبة المسرح من قبل المخرج والممثلين , وهنا تكمن النقطة الجوهرية في التعامل مع هذه المسرحيات وتلك , إذ أن نظرية بيرتولد بريشت لم تكن ذات نسق واحد في عملية التعبير المسرحي , لذلك كان هو يغيير كثيراً في كتابة مسرحياته ,
فهنالك على سبيل المثال لا الحصر مسرحيات تقترب كثيراً من البطل التراجيدي المعروف سابقاً ,  مثل مسرحية الأم شجاعة وأبناؤها التي يركز فيها على فهمه لموضوعة الشخصية القديم .
كذلك  أن مسرحية غاليلو غاليليه هي أقرب ما تكون إلى نموذج البطل الفردي الذي يواجه رجالات الكنيسة ويستسلم لآرائهم إبان مرحلة محاكم التفتيش السائدة في العصور المظلمة ,لأنه لم يجد أي مخرج آخر سوى التنازل لهم حفاظاً على حياته .
فهل استطاع بريشت أن يحول دون تعاطف الجمهور مع شخصية الأم في مسرحية الأم شجاعة وأبناؤها , كذلك مع غاليلو وهو محاط بمجموعة من المحققين المتشددين  , الذين يخيرونه بين الموت أو التنكر لعلمه وأبحاثه التي أثبت فيها أن الأرض كروية  ؟
هذا هو السؤال الذي يمكن أن يكون قد طرحه على نفسه عندما وجد الجمهور في عام 1939 يتعاطف إنسانياً مع تلك المرأة التي قتل أبناؤها في الحرب , مما جعله يعيد كتابة هذا النص مرات عدة ويغير فيه كثيراً .
لقد قام بتلك التغييرات لأن الموضوعة الإنسانية التي اختارها في كلا الحالتين , موضوعة يمكن للجمهور أن يتعاطف معها وربما ينسجم معها أثناء العرض وينسى نفسه .
هذه الحقائق تجعلنا نتساءل من جديد عن قدرتنا نحن المسرحيين العرب في التعامل مع المتغييرات الجديدة لهذه النظرية المسرحية أو تلك على أساس علمي لا يرتكز على التجريب لمجرد التجريب , بل يرتكز على أساس المعرفة الحقيقية بشروط ومتطلبات العرض المسرحي الحديث , فالحداثة لا تعني تقديم عروض تتداخل فيها الألوان والأشكال على خشبة المسرح , ويتم فيها إلغاء دور المؤلف المسرحي أو موته كما يشاع في عالمنا اليوم , لكن الحداثة تعني في أي حال من الأحوال الإعتماد على الأسس العلمية الصحيحة في التعامل مع الطرق المسرحية ومذاهبها المختلفة على أساس علمي رصين واعٍ .إذ أن أخطر ما يمر به مسرحنا العربي اليوم هو البحث عن التغيير دون معرفة تفصيلاته وأسبابه وطرق تحقيقه , ودون تحليل واقع المسرح العربي تحليلاً علمياً لوضع الأسس السليمة التي تؤدي إلى نهضته في الظرف الراهن .
وفي الحقيقة ,  أنه يصعب في هذه الدراسة الموجزة الإلمام بكل شيء عن هذا المسرح الهام الذي تأثرت به الحركة المسرحية في أرجاء مختلفة من  العالم .
د.راجي عبد الله – العراق

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش