بيتر بروك.. تجاوز التسعين ولم يتوقف عن العطاء: المسرح فنٌ مكتوب على الرمال

 

 

ترجمة: احمد الزبيدي – المدى 

 

تجاوز المخرج المسرحي والممثل والسينمائي والكاتب بيتر بروك عقده التاسع. فهو من مواليد مدينة لندن عام 1925، وهو من أصل ليتواني، إذ كان والداه قد هاجرا إلى بريطانيا وأقاما فيها قبل ولادته. يعيش في فرنسا منذ سنوات عديدة، حيث أسس المركز الدولي للبحث المسرحي الذي تحوّل لاحقاً إلى المركز الدولي للإبداع المسرحي، ومقرّه في مسرح «بوف دو نورد»، في شمال العاصمة الفرنسية باريس.

قبل خمسة وستين عاماً، حدد كينيث تينان صفات الشاب بيتر بروك بأنها “الإرادة والفضول والدقة الذهنية – بالإضافة إلى ذلك، بطبيعة الحال، الذوق الحيوي الذي لا يمكن لأحد أن يتعلمه”. والآن وهو في عامه الثاني والتسعين، فإن بروك قد يسير ببطء أكثر مما كان يفعل في الماضي ولكن مواهبه لا تزال واضحة للعيان. انه مشغول الآن كما هو حاله دائماً، مع كتاب جديد مملوء بالحكم والأقوال المأثورة، ويخطط لعرض مسرحي جديد  بعنوان السجين، من المقرر أن يعرض في باريس العام المقبل.

عندما التقاه في لندن مايكل بيلينغتون (الذي كتب عنه هذا المقال في الغارديان)، وصفه بأنه كان شعلة من الحماس وهو يحيى مسرحية (فوليز) لستيفن سونديم’ وهو ملحنٌ وشاعرٌ غنائيٌ أمريكي معروف بإسهاماته في المسرح الغنائي في المسرح الوطني، واصفاً اياها بأنها “واحدة من أعظم المسرحيات التي رأيتها على الاطلاق  – فهي مزيج مثالي من العاطفة والمشاهد المبهرة”. بالنسبة لأولئك الذين يعتبرون  بروك واحداً من رهبان  المسرح، حين تبنّى مسرحاً بدون ديكور لمصلحة ما أسماه المجال الفارغ، محدداً هدفه من ذلك في تطوير «مخيلة المشاهدين»، من أجل خلق علاقة مباشرة مع الجمهور.

مسرح «المجال الفارغ» قدّم له بيتر بروك نفسه التعريف التالي: «المسرح هو فن يتميّز بنوع من التدمير الذاتي. إنه فن مكتوب على الرمال. وفي كل مساء يجمع مجموعة من البشر يتميّزون بالتنوّع وربما بالاختلاف، وهو يقيم حواراً معهم عبر الممثلين الذين يلعبون الأدوار. مكرسة لمساحات فارغة وتقشف مكرر، له نشوة على الحماقات التي قد تجلب معها صدمة له. ولكن بروك نفسه قدم  في وقت مبكر من حياته الفنية كل الأجناس الفنية  من أعمال  شكسبير مروراً بالكوميديا و الأوبرا وانتهاءً بالمسرحيات الغنائية الموسيقية

وفي حين أن الجيل الجديد قد يكون غير مدرك لتنوع بروك الوظيفي، إلا أنه يقول انه لم ينس جذوره. وبعد وقت قصير من وفاة صديقه القديم، بيتر هول. يقول عنه “إحدى صفات بيتر المهمة”، ، كان السحر – وكان ذلك شيئاً رأيته في اثنين من الشخصيات المنسية الآن التي قدمها على  المسرح البريطاني وأسهمت في تشكيل شخصيتي . وكان أحدهم السير باري جاكسون، وهو رجل إنكليزي من منبت رفيع كان يعمل في شركة ميدلاندز لصناعة الألبان، وتولى ادارة مسرح ستراتفورد، حيث طلب مني أن أخرج مسرحية عندما كنت في الحادية والعشرين من عمري فقط، وكان عملاً مسرحياً أحدث دوياً هائلاً.

“التأثير الكبير الآخر كان للمنتج  بينكي بومونت الذي كان يمتلك هذا الشيء الغامض الذي يسمى الذوق. فعندما كان يريد مني أن أغيّر بعض التفاصيل في الإضاءة أو الزي أو التصميم، فإنه يغرد ويقول: “أنت تلاحظ ذلك مثلي، أليس كذلك؟” بطريقة لا يمكنك أن تجادله  فيها. كل هذه الشخصيات لها سحر، في المسرح، تحقق بأسلوبها  أكثر بكثير مما يحققه اسلوب الغضب أو البلطجة”.

وإذا كان يجب الاعتراف بجودة اعمال بروك، فذلك لأنها موجودة بوضوح. ولكن انشغاله الحالي هو الاختلافات التي لا يمكن التوفيق بينها أحياناً بين اللغتين الفرنسية والانكليزية. ونظراً لأنه جعل باريس مقر عمله منذ عام 1971، عندما أسس المركز الدولي لبحوث المسرح، فإنه أصبح بالضرورة خبيراً في هذا الموضوع. هل تجعل الفروق بين اللغتين من ترجمة شكسبير إلى الفرنسية أمراً مستحيلاً عملياً؟يجيب عن ذلك قائلاً “ليس أمراً مستحيلاً ولكنه بالتأكيد صعب للغاية”.لقد كتب شكسبير مسرحياته لكي تعرض وتقدم فوق خشبة المسرح الإنكليزي وذلك لكي يؤكد ذاته ككاتب مسرحي من ناحية، ولكي يكسب قوت يومه من ناحية أخرى ولكن ليس من أجل النص الدرامي الذي قدّمه هذا الكاتب بل من امتزاج النص الدرامي بفن المسرح أي حين يكتمل العرض المسرحي ويقدم أمام الجمهور المشاهد. لقد كان هذا الكاتب كاتباً محترفا يستمد عيشه من العروض المسرحية التي تقدم نصوصه الدرامية.وإذا كان الله قد منح هذا الكاتب موهبة رائعة، فإن تلك الموهبة لم تكن تكتمل- وخاصة في عصره – إلا بامتزاج وانصهار النص الدرامي خلال العرض المسرحي المقدم للمتلقي

وبدراسة أعمال بروك المسرحية، فضلاً عن كتاباته القليلة والمرتبطة بفن المسرح مثل المساحة الفارغة، النقطة المتحولة..سوف نجد أن كتابات شكسبير الدرامية قد أفادته كثيراً وتركت بصمات واضحة في كل كتابات بروك، ولا يستطيع أن يدرك ذلك إلا كل من بذل جهداً كبيراً في فهم وتذوق كل معاني ومضامين مسرحيات شكسبير الدرامية والتي تفوق التصور في معالجاته الإنسانية والتي تصلح لك العصور ، والتي وقف العقل البشري أمامها موقف التعجب والتي وصلت إلى حد الانبهار والإعجاز الدرامي.بروك يفهم ما يقسم الثقافات. وكما يقول في كتابه، “إذا كنا في  اللغة الإنكليزية نتحدث بكلماتنا، فإن الفرنسيين يتحدثون بأفكارهم”. لكنه يرى أيضاً عوامل مشتركة، لا سيما في البحث العالمي في الجهات الفاعلة من أجل زيادة الإفصاح الذاتي. وهو يقول “إذا عدنا  إلى المسرح الإليزابيثي”، “فأعتقد أننا صدمنا من فظاعة وخشونة ما رأيناه. على مر القرون، كان هناك السعي للحصول على أدق التفاصيل في التمثيل ولكن، عندما بدأت عملي، كان المسرح لا يزال مكاناً للتصنع. كان عصر الديكور الفخم من قبل أشخاص مثل أوليفر ميسيل وسيسيل بيتون، من الباروكات الكبيرة والماكياج الثقيل. ما نراه الآن، ويرجع ذلك جزئياً إلى تأثير الكاميرا وقاعات العرض المسرحي الصغيرة، هو التخلي عن كثير من المظاهر حتى يمكن لشخصية الممثل أن تصبح واضحة”.

 عن: الغارديان

———————————————————

المصدر : مجلة الفنون المسرحية 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *