برشت و التراث الشعبي في المسرح العراقي والعربي

فاضل سوداني 

أولا :ملحمية التراث المسرحي العربي 

بالرغم من ان برشت ظاهرة أوربية وان المفاهيم الفكرية والمشاكل الاجتماعية التي عالجها تتعلق بالمجتمع الاستغلالي وصراع الطبقات وكذلك كشف البعد الطبقي للانسان البرجوازي الاوربي ، إلا ان الفنان العربي يجد نفسه قريبا فكريا من مفهوم التغريب والرؤيا التاريخية والوعي الجدلي لهذه ا لمفاهيم بسبب الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية و السياسية التي تحرم إنساننا من حريته والعيش في مجتمع الديمقراطية . وبما ان الفن ينشأ لتلبية الحاجات الاجتماعية ، فمن السهولة ان نكتشف في الفعاليات الفنية والثقافية التراثية تلك العلاقة التي تتسم بالحميمية بين المؤدي والجمهور. من هذه الزاوية ينحو المسرح العربي المعاصر لتحقيق تاثيره الاجتماعي والجمالي وبناء الوعي الفكري للإنسان في المجتمع العربي ، وخلق العرض المسرحي الشعبي استنادا الى الغنى والتنوع في الاشكال التراثية الشرقية وارتباطا بمكتشافات المسرح الاوربي المعاصر ومنها المفاهيم الملحمية البرشتية . 

اذن هنالك ممهدات هيأت الجمهور العربي لاستيعاب ظاهرة المسرح ومن ثم تقبل المفاهيم المسرحية الملحمية البرشتية :

يمكن القول بأن المجتمع الإسلامي القديم عرف بعض من الأشكال والممارسات التي تحتوي على الكثير من العناصر ألما قبل الدرامية ، والتي مورست كطقوس وفعاليات ثقافية ، مثل الطقوس والأغاني الدينية المختلفة والرقصات الصوفية الفردية والجماعية، ، وبعد ذلك الأشكال البدائية ما قبل المسرحية.، 

فمن خلال دراسة هذه الجذور المسرحية نستطيع ان نعثر على الملحمية وكذلك على ملامح من التغريب في ذات الوقت والتي يمكن ان تخلق علاقة جدلية ديناميكية بين المؤدي والمشاهد ، وتؤدي به الى ان يتحول الى مشاركا في الحدث ـ الطقس (كان المتفرجون يحتشدون حول مكان الحدث سواء كان الاحتفال ياخذ طابعا دينيا اودنيويا ، من هنا جاءت فعالية المتفرجين القصوى حيث لايحس الواحد منهم انه مجرد مراقب بل هو مشترك ضروري في كل مايحدث امامه. ولهذا فان عملية التقبل والخلق في الفن البدائي كانت تتمان في نفس الوقت )(انظر بوتيتسيفا . ألف عام وعام على المسرح العربي )

ان الحياة الثقافية في الشرق القديم وبالذات الثقافة العربية اعتمدت على الحكاية والسرد الشفاهي ، ولعب الراوي ( الحكواتي)دورا كبيرا ، حيث كان يسرد قصصا تاريخية واقعية او اسطورية متخيلة مشحونة بالحكمة الاجتماعية والفلسفية المستقاة من حكايات الف ليلة وليلة والملاحم والاساطير والحكايات القديمة وحكايات كليله ودمنه والتاريخ العربي والاسلامي ،وتلك البطولات العربية القريبة في عظمتها وغرابة احداثها وعجائبيتها وسحرها التي كانت تضاهي عظمة الالياذة والاوديسة او المهابهاراتا الهندوسية مع اختلاف الزمان والمكان.

ان التطور الذي حدث في اداء الراوي بعد ذلك هو ان حكاياته لم تعد تروى شفاها وانما ارتبطت بنص مكتوب يحمل طابع الحكاية الدرامية القديمة ( كما في حكاية ابي القاسم البغدادي ـ لمؤلفها احمد الازدي ) حيث كتب هذا النص مابين القرن السابع والتاسع الميلادي . والذي يتحدث فيه حواريا عن مختلف الشخصيات والاحداث التاريخية في المجتمع انذاك . وعثر آدم سميث 1902 على هذا النص وترجم للالمانية .(فن التمثيل . د.الاعرجي )

وقد يحدث ان يوجد اكثر من راوي من اجل توصيل الحكاية الى الجمهور ، وقد ابتكروا العديد من الوسائل والاساليب لتوصيل حكاياتهم كالشعر والامثال والنوادر الشعبية والاغاني واللآلات الموسيقية الشرقيةوغيرها. (لقد كانوا يعيدون إحياء الحكاية عن طريق المحاكاة والحركات والإشارات والرقص والتقمص Embodiment والارتجالImprovisation والتشويق الدرامي وفي هذا يكمن الجانب الفني . كان الفعل في القصة يتصاعد نتيجة الاتصال الذي لابد أن يتم بين الراوي والجمهور . وكانت قوانين الطقس والفرجة تفرض على الراوي خلق الاتصال من اجل أن يشترك الجمهور في الحكاية والحدث .) وقد تناقل الرواة هذه القصص على مر الأجيال حتى وقتنا الحاضر ، حيث مازلنا نسمع بعضها من الرواة المعاصين في الاسواق والساحات العامة خاصة في المغرب العربي .ان الراوي في العصور اللاحقة اصبح لا يستغني عن الغناء والشعر فمن خلال الاغنية يقوم الراوي بسرد الاحداث المثيرة ولذلك فان استخدام الاغنية المعبرة يمكن ان يخلق شكلا متميزا للعرض المسرحي الشعبي. 

وحينما احتل الممثل من غير الرواة مركز الطقس ـ العرض المسرحي فان دور الراوي بقي على اهميته

غير ان مهمة الراوي ـ الممثل لم تقتصر على اداء الشخصية وانما عرضها ايضا عندما يخلق تلك المسافة بينه والشخصية ليتحدث عنها وهي خارج التقمص . اضافة الى هذا فان الراوي ( الحكواتي ) يقوم ايضا بتغريب اللاحد ا ث من خلال ابراز تضخيمها وابراز نواقصها .

وعندما استخدم برخت وسائل المسرح الاسيوي ( وخاصة الاغنية والراوي وتغريب الحدث كما في المسرح الياباني ) فانه كان واعيا بأهمية هذه الوسائل في خلق العلاقة الجدلية بين عناصر العرض الملحمي ، وهي تشكل اساسا تمايز التراث الشرقي.

وهنا يؤكد فابيون باورز في كتابه المسرح في الشرق (ان المسرحيات الاسيوية تتطلب وسيلة خاصة للتعبير وتلك هي الراوي ، فالدراما في جميع انحاء آسيا قد نشات من الكتب القديمة والاشعار الملحمية )

ان الجمهور كان مهيأ لمشاهدة اشكالا فنية من تراثه وفولكلوره مادامت هذه الفعاليات تعرض امامه في

اماكن تواجده، ولذلك فانه يتعرف على اشكال تراثه الفني في حياته العامة ، وهذا هو السبب في انسجامه مع (المقامات ) مثلا وهي حكايات غنية بالاحداث الدرامية والمنالوجات والحوارات المثيرة التي تدعوا الجمهور للمشاركة الفعالة فيتحول العرض الى طقس احتفالي جماعي ( وهذا مادفع الطيب الصديقي / والمدني وغيرهم الى استخدامها في المسرح ). وتعتبر( المقامات ) احد الاشكال المسرحية البدائية التي تتطرق للمشاكل الاجتماعية بشكل كوميدي ساخر وتعتمد على (ممثل واحد ) امام جمهور الاسواق العامة والساحات او في قصور الخلفاء.

لكن الطقوس التي لها علاقة بالدرامية والاحتفالية والفرجة هي طقوس كانت تمارس لوقت قريب مثل خيال الظل والحكواتي ، وكذلك التعزية ، باعتبارها طقس ديني ودرامي يخلق الفرجة الشعبية التي تتحقق من خلال العناصر الدرامية الموجودة في هذا الطقس الذي يذكرنا ببعض الطقوس التراجيدية البابلية أو اليونانية القديمة.

وتعتبر هذه الطقوس وخاصة خيال الظل، تعبيرا ديناميكيا عن طبيعة الحياة الاجتماعية والسياسية في المجتمع الإسلامي القديم، لأنها تعكس الواقع بكل قسوته، وتشير إلى المشاكل السياسية والاجتماعية مما يُغني ويحفز الرغبات الداخلية المشحونة بالمواقف النقدية التي يتبناها الإنسان في علاقته بالسلطة، لكن من خلال التركيز على الجانب ألا متاعي والترفيهي والذي يعد تذوقا جماليا متماشيا مع مقاييس المجتمع القديم .وبالتأكيد فإن هذا هو السبب الأساسي لديمومتها في حياة المجتمع الشرقي بالرغم من تعرض القائمين عليها لأشكال مختلفة من الاضطهاد والمنع .

وبتأثير المفاهيم البرشتية للمسرح الملحمي الهادف للمتعة والمعرفة ،أمكننا اكتشاف هذه الوسائل الملحمية بجذورها البدائية في الاشكال التراثية الماقبل المسرحية في التراث العربي، وبهذا فان برشت منح الفنان العربي كيفية البحث في اشكاله التراثية من اجل خلق خصوصية مسرحه المعاصر حيث ومن خلال هذه المفاهيم البرشتية بدأنا البحث عن القيم الدرامية في تراثنا وعن الحكواتي / الراوي و الكوال والاغنية الدرامية والرقص التعبيري وغيرها .. يمكن تحديد اتجاهين في المسرح العربي المعاصر:

1 ) المسرح التراثي

وضع الفنان العربي أمامه مهمة اكتشاف وتحديد المفاهيم والأشكال المسرحية التي تخدم أفكاره الفنية من أجل معالجة مشاكل مجتمعه ، وقد حتم هذا الرجوع إلى التراث القديم مع أهمية الاستفادة من كل تطورات الفن المسرحي الأوربي ، من اجل الوصول إلى أشكال مسرحية بعيدة عن المفهوم الأوربي الغربي . وبما إن المسرح يفترض الروح الجماعية في تحقيق المعرفة واكتشاف الجمال ، لذلك فان الفنان عمد إلى إرجاع المسرح إلى كونه ظاهرة احتفالية شعبية وطقوس يمكن أن تقام في كل مكان ، وحتم هذا أيضا تغير شكل العرض أي استخدام شكل العرض المسرحي المفتوح ، وبالتأكيد فان هذا يتطلب تغير مفاهيم التأليف المسرحي “المعتمدة على مفاهيم أر سطو ” .أي تغيير علاقة المؤلف بفضاء النص وبنيتة والمواضيع التي يعالجها وفرض هذا تغيير علاقة المسرح بالجمهور. وبالرغم من أهمية رفض ( مسرح العلبة المغلقة حسب مفهوم المسرح الأوربي ) إلا أن الضرورة تفرض الاستفادة من أشكال المسرح الأوربي وخاصة مسرح برشت الملحمي .

2ـ العرض التراثي الشعبي وافهومة برشت 

تأثر المسرح العربي المعاصر بالكثير من اتجاهات الفكر والمسرح الأوربي وخاصة مسرح اللامعقول

Absurd Theatre في فترة الستينات من هذا القرن كمسرح يونسكو ، بيكيت ، آدا موف مما فرض مفاهيم جديدة على الجمهور العربي ، فقد كتب توفيق الحكيم مسرحية ياطلع الشجرة ،ومسرحية الفرافير والمهزلة

الأرضية ليوسف إدريس و مسرحية الوافد ، والخطاب لميخائيل رومان ، وبالرغم من وجود بعض المعقولية

في الأحداث وعلاقات الشخصيات الا أن هذه المسرحيات كانت تحاول التعبير عن عبثية الحياة بمفهومها الغربي (حسب د. حياة جاسم – الدراماالتجريبية في مصر )

ولكن سرعان ماإنحسرت هذه المفاهيم ، لأنها كانت غريبة عن الهموم الحقيقية للإنسان العربي المبتلى بمشاكله الاقتصادية والسياسية والفكرية وأنظمته الدكتاتورية التي تحرمه حريته وحقوقه . فعبثية الحياة العربية متأتية من الخلل في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية وشيزوفرينيا الذات العربية ، وليس هنالك غربة حقيقية بالمفهوم الأوربي في المجتمع العربي .

وضمن التزام المؤلف العربي بمعالجة مشاكل مجتمعه انطلاقا من واقعه ، واستخداما لتراثه الغني مع التطبيق التقليدي للمفاهيم البرشتية أدى في فرض الالتزام السياسي ـ الاديولوجي في الكثير من المعالجات لدرجة وصف فيها المؤلف المصري الفرد فرج بانه كاتب برشتي ، ويمكن ملاحظة الكثير من التأثيرات البرشتية عليه وخاصة في مسرحية ( علي جناح التبريزي وتابعه قفا ) واتهمها الكثير من النقاد بانها اقتباسا من مسرحية (السيد بونتلا وتابعه ماتي ) . وتؤكد د. لميس العماري بان موضوع وهدف مسرحية المؤلف الفرد فرج ليس بعيد عن مسرحية برشت ( بونتلا ) ولكنها ليست اقتباسا لها . لهذا يمكن اعتبارها مسرحية عربية تراثية تستخدم بعض مقومات الكتابة المسرحية البرختية .

ثانيا :في فضاء الكتابة و العرض المسرحي 

امتلك فن الاخراج المسرحي أهميته في القرن العشرين ، حتى بات يطلق على المخرج ، بانه الخالق والمبدع لقوانين العرض المسرحي ، والواعي لتطور الطبيعة والمجتمع . وبات المخرج يفرض وجوده على كل العناصر الفنية الاخرى التي تدخل ضمن العملية الابداعية للعرض ، بما فيها النص ايضا . ومن المنطقي القول بان لكل عصر مؤلفه الواعي ، فكذلك يمكن القول بان المخرج يمكن ان يكون مؤلفا ثانيا للنص . من خلال استخدامه للوسائل الفنية الاخرى في العرض ، وقد حتم هذا اهمية مسرح برخت الملحمي وبالذات مبدأ التغريب في المسرح للتعبير عن مشاكل الانسان العربي المعاصر.

وفي الوطن العربي يمكن القول بانه في ثلاثينيات وأربعينيات هذا القرن بدأ الاخراج المسرحي في المسارح العربية يتحول الى مهنة تتطلب ثقافة خاصة وتجربة غنية . 

وفي كل بلد عربي هنالك اتجاهين في الاخراج المسرحي : الاول ، نقل لربرتوار المسرح الغربي وعرض مسرحيات اوربية ذات طابع انساني شمولي ، تبدو بعيدة عن مشكلات المسرح العربي الذي مازال بعيدا عن الاغتراب في المجتمع الاوربي . والاتجاه الثاني: استخدام الاشكال التراثية والفلوكلورية العربية والشرقية واشكال ماقبل المسرح في محاولة لتأصيل المسرح 

(لكن التعرف الحقيقي على برشت والمسرح الملحمي من قبل الفنان العربي كانت في فترة الستينات من القرن الماضي، وجرت اولى التجارب لتقديم المسرح البرختي في مصر من خلال نص دائرة الطباشير القوقازية الذي اعده صلاح جاهين . وكان سعد اردش من الاسماء الاولى في اخراج بعض مسرحيات برشت .) 

وبتاثير المسرح السياسي والمسرح الملحمي البرشتي استخدم المخرج العربي الكثير من الوسائل التي تخلق العلاقة بين المتفرج والعرض المسرحي : كالمسرح داخل المسرح . او توزيع الممثلون في الصالة وجعلهم جزءا من سينوغرافيا العرض المسرحي حيث يجلس الجمهور حول خشبة المسرح ويصبح العرض دائريا ، كما في مسرحية” المهرج ” للسيد الشوربجي والفرافير ليوسف ادريس . وبعد ان يموت الملك لصلاح عبد الصبور . ومسرحية الليلة نضحك لميخائيل رومان . وامتد هذا التاثير كذلك على تجارب المخرج العربي مثل الطيب الصديقي ونجيب سرور وكرم مطاوع وابراهيم جلال ، سامي عبد الحميد ود.صلاح القصب و د.فاضل خليل وفاضل سوداني وسهام ناصر ويعقوب شدراوي وريمون جباره ونضال الاشقر وقاسم محمد وعز الدين قنون وفاضل الجعايبي ومحمد ادريس وصقر الرشود . ولم يقتصر التاثير على المسرح المشرقي وانما كان له تاثيره في المغرب العربي ايضا .

فمن المتاثرين ببرشت في المسرح الجزائري الروائي والمؤلف المسرحي كاتب ياسين الذي عاش في فرنسا ابان الاحتلال الفرنسي لبلاده وساهم هناك في الدفاع عن قضية شعبة أمام القارئ الفرنسي من خلال رواياته الشهيرة مثل رواية” نجمة “التي حاز عليها عدة جوائز وكذلك مسرحياته كمسرحية :الاجداد يزدادون شراسة. ومسرحية مسحوق الذكاء . والجثة المطوقة ، التي تناقش عنها مع برشت عند زيارة البرلين انسامبل الى باريس عام 1955 . وبعد التحرير أصبحت نظرته كوسموبولوتية (عالمية ) وبدأ في الكتابة التي تخدم نضال الانسان عموما كما في مسرحية ” الرجل ذو الحذاء المطاطي ” التي كتبها عن نضال الشعب الفيتنامي انذاك . وقد انتقل للعيش في بلاده نهائيا وترك الكتابة بالفرنسية واستقر بين الجماهير الفقير ة في الريف وبدأ بالكتابة عن همومها ( حتى وفاته ) . ومشاكلها وخاصة قدرية التخلف المتأتي من التزمت الديني السلفي وأثره في المجتمع الجزائري بعد الاستقلال . وقد استفاد كاتب ياسين من المسرح البرشتي ، لانه يعتبر برشت فنانا ديالكتيكيا واعطى اهمية كبيرة لاستخدامه في المسرح الجزائري والمسرح العربي لكن بشئ من الحذر .( غير ان مبدأ التغريب الذائع الصيت لايمكن الاستفادة منه في ظروف الجزائر ، لان الجمهور في بلادنا ـ خلافا للجمهور البرجوازي الالماني الذي صاغ برخت هذا المبدأ من اجله ـ لم يتشوه بعادة الاندماجEmpathy مع الحدث او الشخصية . ان هذة العدة لاتشكل خطورة بالنسبة لنا .ولهذا فنحن نحذفها من قائمة استفادتنا من مسرح برخت الملحمي )

ان هدف التغريب لايعني فقط الحيلولة دون حدوث الاندماج بين الشخصية والجمهور . التغريب هو جزء عضوي من نظرة ديالكتيكية للعالم ، وهذه النظرة هي التي تتحكم في عملية الخلق الفني برمتها . انه في الواقع موقف من الحياة .(كما كتبت د. لميس العماري )

وبالرغم من اهمية عنصر التغريب في المفاهيم البرشتية وتكيفها لتنسجم مع الكثير من الثقافات والمسارح لمختلف البلدان ، إلا ان اطروحة كاتب ياسين وحذره من استخدام التغريب في المسرح الجزائري لها اهميتها 

في الوقت الحاضر وتمتلك مكانتها في المناقشات عند ما تحتم الضرورة اعادة صياغة المفاهيم المسرحية الجديدة للمسرح العربي . 

ويعتبر المؤلف والمخرج المسرحي عبدالقادر علولة ( اغتيل في الجزائر دفاعا عن حرية الفن والديمقراطيةوضد الظلامية ) واحد من اهم المخرجين العرب والجزائريين الذين يعملون على تكييف افكار برخت وانجازات المسرح الملحمي للجمهور الجزائري من خلال ربطها مع المخزون الهائل من التراث والثقافة العربية . معتمدا على أهم وسائل التوصيل التي تحقق العلاقة الفعالة بين الفنان والمشاهد . ولهذا فانه يبحث في التراث الجزائري والعربي عن تلك الاشكال الماقبل المسرحية او المسرحية وربطها بمفاهيم المسرح الملحمي التي تنسجم مع متطلبات عرض مسرحي لجمهور ومجتمع ليس اوربيا . وقام علولة باحلال وظيفة الكوال بدل الراوي البرختية وهي شخصية يمكن ان نجدها في التراث الشعبي العربي وتراث المغرب العربي بالتحديد . ومهمة هذه الشخصية هي رواية وتمثيل الاحداث والقصص التاريخية التي لها مكانتها في الذاكرة الشعبية وكذلك الاحداث المعاصرة في الاسواق والساحات العامة وا ماكن تجمع الناس الذين يشكلون جمهوره عادة . و يمكن حتى يومنا هذا مصادفة الكوال في اسواق المغرب العربي الشعبية وهو يقص على الجمهور حكاياتة التاريخية او المعاصرة مازجا اياها ببعض المشاكل السياسية التي تثير جماهير السوق .. وبهذا فان الممثل في مسرحيات هذا المخرج اصبح كوالا ووظيفته ” كراوية ” اصبحت اكثر تأثيرا ، عندما امتزجت بتقنية التجربة العالمية ، بحيث اصبح الكوال يلعب الدور الاساسي في الحدث.واصبح العرض المسرحي سرديا وبهذا فانه اقترب من المسرح الملحمي البرختي. فيقوم الراوي ( الكوال ) بكسر مجرى الاحداث ليس في النص فحسب ( ان المخرج علولة هو الذي يكتب ويعد مسرحياته عادة ) وانما في الاداء والعرض . ولهذا فان الممثلين هم رواة اوكوالون ، اضافة الى كونهم يؤدون اكثر من دور . ( ويعتبر هذا تحولا جديدا في المسرح الجزائري والعربي عموما) ومن اجل التأكيد على كسر الايهام في الحدث والاداء ، فان علولة يمزج في عروضه بين ماهو واقعي وماهو رمزي ، بحيث يتم التاكيد للجمهور بانهم في مسرح وان هنالك ممثلون على الخشبة يروون حكايةما .فالمسرح لايكتفي بالسرد من قبل الراوية وانما يجب ان يخضع كل شئ لمتطلبات اللغة المسرحية بحيث يخدم المشكلة الاجتماعية . وبغية الوصول الى تغريب الحدث والشخصية فان المخرج الجزائري يعمد الى خلق تلك المسافة بين الممثل والشخصية باستخدام صيغة الشخص الثالث كما هو الحال لدى برخت . أي ان الممثل يمثل الشخصية ويستعرضها بشكل مبدع وليس بشكل ميكانيكي . وبهذا فان الجمهور يمتلك تصوره عن الشخصية . واستمر التأثير الكبير للمسرح البرشتي على الفنان العربي وجمهوره ايضا نتيجة لطموحات هذا المسرح الفكرية والسياسية في العمل على تغير وعي الإنسان وعلاقاته بالمجتمع ، وقد تأثر الكثير من المؤلفين المسرحيين بأفكار برشت بهدف كتابة مسرحية للكشف عن طبيعة المشاكل الاجتماعية والسياسية التي تعاني منها مجتمعاتهم مثل سعد الله ونوس ،نجيب سرور ، يوسف إدريس يوسف العاني قاسم محمد الطيب الصديقي ومحمود دياب جلال خوري و الفريد فرج ، عزالدين المدني و عبد الكريم بورشيد ، عبد العزيز السريع ، نو الدين فارس وعادل كاظم وغيرهم . مما ادى هذا الى تشكيل ملامح عرض مسرحي عربي بتأثير التغريب البرختي في ربرتوار المخرج العربي . ومازالت الكثير من العروض العربية تنهل من المفاهيم البرشتية سواء كان ذلك في الاسلوب الملحمي للكتابة اوالفكر الاخراجي لصورة العرض المسرحي .

—————————————————-

المصدر : مجلة الفنون المسرحية

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *