بحث تحليلي عن مسرحية ملحمة كلكامش والنصوص المسرحية السومرية والبابلية – د.راجي عبد الله

بحث تحليلي عن مسرحية ملحمة كلكامش والنصوص المسرحية السومرية والبابلية – د.راجي عبد الله

* عن دار قناديل للنشر في بغداد صدر لي قبل مدة هذا الكتاب يتضمن بالبحث والتحليل نشأة المسرح في بلاد ما بين النهرين قبل آلاف السنين . من مقدمة الكتاب أنشر هذا الجزء :

يمكن القول أن هذا النص المسرحي الجديد المأخوذ عن النص الأصلي من ملحمة كلكامش هو نص بالغ الأهمية , ليس لأنه يعيدنا إلى التجارب الأولى في عملية ظهور فن كتابة المسرحية منذ التاريخ , بل لأنه سيساهم في تغيير النظرة الخاطئة التي تم إعتمادها عالمياً من أن بدايات المسرح كانت يونانية النشأة . من جانب آخر فإن هذا النص بوضعه الأصلي السابق قد مهد لي الطريق في التعامل معه على أنه نص تم التعامل معه إبان المرحلة السومرية تعاملاً مسرحياً , إعتماداً على فن التمثيل الفردي ( الراوي ) أو الحكواتي أو مع مجموعة ممثلين يرافقونه في الأداء من مشهد إلى آخر ومن حالة درامية إلى أخرى .

وليس بالأمر البعيد عن الإعتقاد أن هذه الطريقة في كتابة فن المسرحية التي تعتمد على فن الرواية وفن التمثيل في آن واحد , كانت قائمة آنذاك بإعتبار أنهما مكملان لبعضهما بطريقة ملائمة للجمهور المسرحي وللممثلين , طبقاً لما هو متوفر من أدوات فنية بسيطة مكملة للعمل المسرحي , وطبقاً لعملية تقديمه وعرضه بطريقة سهلة وممتعة للجمهور في آن واحد . وهنا يمكن الذهاب إلى أن جميع البدايات الأولى للمسرح كانت تعتمد على فن الرواية وفن التمثيل , وإن هذه هي الطريقة السائدة التي كانت تتبع آنذاك في تقديم هذه العروض إبان المناسبات الدينية أو في مناسبات أعياد الربيع .

فإذا أخذنا ما هو متوفر من نصوص مسرحية معروفة ظهرت في عام 600 قبل الميلاد , ومنها مسرحيات أسخيلوس وحتى مسرحيات سوفوكليس ويوربيدوس , فإننا نجد أنها كانت تعتمد أيضاً على فن الرواية عن طريق ( الجوقة ) وكذلك عن طريق الأقتصاد الكامل في المنظر وفي وحدة المكان , والدليل على ذلك أن أحداثها كانت تمثل في مكان واحد على الرغم من تعديدية عامل الزمان وتنوعه من حالة زمنية إلى أخرى عن طريق الحوار الروائي على لسان الجوقة أو على لسان الشخصيات طيلة عرض مسرحية واحد من هذه العروض .

أضف إلى ذلك , إن هنالك العديد من المقارنات التي يمكن أن تعطيناً أدلة واضحة من أن نص ( كلكامش ) بوضعه القديم كان متفوقاً أصلاً على غيره من النصوص المسرحية التي ظهرت بعد قرون طوال , حيث أن هذا النص كان متحولاً من حالة إلى حالة وفقاً لنسيج درامي محكم , لكي يجعلنا متواصلين معه تواصلاً مؤثراً سواء من خلال قراءة النص أو مشاهدته أو من خلال تحليله تحليلاً موضوعياً , بالإعتماد على الادلة والبراهين التي تثبت هذا التفوق , ومنها تلك التي سينتهجها هذا البحث في أبوابه وفصوله .

ومن خلال هذه المقدمة الموجزة , أود التوضيح أن التغييرات التي أحدثتها عند تعاملي مع نص الملحمة كانت تغييرات دقيقة جداً دون حذف أو إضافة أو تغيير , ليس بسبب الحفاظ على نص ملحمي ذي قيمة إبداعية كبيرة طبقاً للأمانة الادبية والتاريخية , بل لأن هذا النص قد ساعدني كثيراً في إيجاد نوع من التواصل مع ضرورات وأسس فن تأليف النص المسرحي في العصر الراهن , حتى وإن كان هذا التواصل مع الطريقة المتبعة في فن كتابة المسرحية الكلاسيكية , على الرغم من وجود صعوبة كبيرة في التعامل مع المشاهد التي تعتمد على الظواهر والأشياء المختلفة ومنها الظواهر الطبيعية .

كما تجدر الإشارة , أن العديد من الباحثين كتبوا عن ملحمة كلكامش الكثير من البحوث منذ اكتشاف الألواح التي دونت عليها في مناطق مختلفة من بلاد الرافدين والبلدان المجاورة لحد الآن , فمنهم من تناول الملحمة على أنها إرث تاريخي بالغ الأهمية , لأنها تعطينا صورة واضحة عن حياة السومريين والبابليين وطرق تفكيرهم ومعتقداتهم وسبل عيشهم , ومنهم من تناولها بطريقة مغايرة كلياً لمن سبقوهم , وهنالك فريق آخر تناول الجوانب الإنسانية فيها معتبراً إياها إرثاً إنسانياً مليئاً بالصراعات الكثيرة التي عاشها الإنسان السومري والبابلي في تلك الحقبة من الزمان.

وكذلك تمت ترجمة الملحمة للعديد من اللغات بعد اكتشافها , وكتبت عنها البحوث الكثيرة كما ذكرت , لكن الجديد في هذا البحث هو التركيز على العناصر الدرامية في الملحمة وعلى أسلوب كتابتها وعلى قيمتها الأدبية والفنية وإعطاء المثال الواضح على أنها نص مسرحي , أكثر من تركيزها على الجوانب الأخرى العامة التي لا بد لأي بحث التطرق إليها , لأنها جوانب مكملة له في عمومياتها , و لأنها تعطي فكرة عامة عن الملحمة وعن المراحل التاريخية التي مرت بها عبر الرواية الشفوية قبل التدوين , وعن انتشارها في العالم القديم وتأثيرها الأدبي على بقية الشعوب في الحضارات القديمة على أكثر تقدير .

وعلى الرغم من أن هنالك الكثير من البحوث التي تناولت الملحمة على أنها عمل له علاقة بفن صياغة الملاحم , لم نجد من الباحثين من تعامل مع نص الملحمة تعاملاً مسرحياً , من أنها نص مسرحي بالغ في القدم أكثر من غيره بآلاف السنين , ربما يعود ذلك إلى وجود نوع من عدم التكامل في الرؤية التحليلية بين فن كتابة الملحمة أو الرواية أو فن كتابة المسرحية , عند بعض الباحثين , ذلك الذي ظهر طبقاً لظهور النص المسرحي في اليونان القديم دون غيره وبقى سائداً عند البعض منهم .

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه : لماذا تم التركيز هنا في هذا البحث على ما هو متوفر من عناصر درامية للملحمة وعلى قيمتها الأدبية والفنية في هذا البحث دون غيرها ؟

للجواب على هذا السؤال , يمكن القول أن أي تقييم لأي عمل إبداعي مهما كان العمل قديماً أو حديثاً , سيعطي فكرة واضحة عن قيمته ومقدار تأثيره على الحياة بشكل عام . إذ أن قيمة الأعمال الفنية تكمن في تأثير هذه الأعمال على الواقع وعلى التراث الإنساني بكامله فقط . ولولا هذا لما إستطاعت أن تمهد لي الطريق في أن أقدم دليلاً جديداً هاماً في هذا البحث من أن المسرح في سومر وبابل عميق الجذور أكثر من غيره .

كما إن ملحمة كلكامش لم تكن أثراً مثل بقية الآثار التي تركها لنا الإنسان القديم , وهي لم تكن أيضاً حكاية من الحكايات القديمة التي تحكى على مسامع الناس باعتبارها عملاً روائياً مرحلياً , كما أنها ليست كتاباً يقرأ لمرة واحدة ومن ثم تكتمل معانيه وأفكاره ومدلولاته , بل أنها ملحمة متجددة حتى وإن كتبت قبل آلاف السنين , وإن معانيها البليغة كثيرة جداً و قابلة لتفسيرات شتى , سواء تلك التي تناولتها البحوث السابقة أو تلك التي ستتناولها البحوث الجديدة . وليس بعيداً عن هذا الموضوع يستوجب علي القول بأن المعاني البليغة لهذا النص وقوة الرمز فيه , وأسلوب كتابته أو تجميعه وكتابته على شكل رقم كانت مفقودة ثم وجدت على يد العديد من الآثاريين على الرغم من الكسور الكثيرة فيها , هو الذي دعاني للبحث و الإكتشاف على أن الملحمة هي نص مسرحي بطريقة كتابة كانت متبعة على هذا الشكل سبقاً , إعتماداً على الكثير من أدلتها التي سأتناولها عند تحليلي النص الملحمي القديم ومقارنته بالنص المسرحي الجديد .

أضف إلى ذلك أن هذا النص المسرحي الجديد هو في الحقيقة ينتمي إلى نصوص الأدب المسرحي – المتحول – من مرحلة إلى أخرى ومن حالة قديمة إلى حالة متجددة إذا صح التعبير وكما ذكرت , وليس كغيره من النصوص التي تنتمي فقط إلى فترة زمنية دون غيرها , لأنه ليست له علاقة بحدود الزمان والمكان , ولا بنمطية التفكير في الوجود , بل بشمولية التفكير ونوعيته وتأثيره على الوجود وليس التوقف عند نقطة واحدة فيه .

نعم . إن هذا النص سيطرح الكثير من الأسئلة ولم يترك هذه الأسئلة دون إجابة واضحة , و لم يعط إجابة ضبابية الملامح عن مجمل الأسئلة الصعبة التي طرحها , بل أن جميع المشاهد فيه قد إعدت و كتبت بطريقة دقيقة جداً لا مجال فيها للأفكار الزائدة ولا للصور أو المفردات السطحية , التي يمكن أن تؤثر تأثيراً سلبياً على المادة الدرامية الأصلية فيه مهما كانت صعوبة ذلك .

و مع أن هنالك العديد من الرقم الكثيرة المكسورة الأجزاء التي أثرت نوعاً ما على تسلسل الحكاية وتدرجها الزمني , وعلى الأفعال الإخبارية وتسلسلها الدرامي في بعض فصولها . فإنني حاولت جاهداً أن ألملم تلك الأجزاء المكسورة من خلال تتبعي للترجمات الكثيرة ومنها الترجمات باللغة الألمانية والإنكليزية لأتأكد من موضعها الصحيح , فوجدت كذلك أن أهم الترجمات التي تعاملت مع هذا الإرث الإنساني الكبير كانت ترجمة الأستاذ الراحل د . طه باقر حسب رأيي التي إعتمدت عليها في هذا النص المسرحي , لأنه تعامل مع جميع المفردات والجمل الشعرية وكذلك مع التواصل الفني بين حدث وآخر , بطريقة لغوية عالية المستوى وبليغة التأثير وضعت كل شيء بموضعه الصحيح بإسلوب لغوي رفيع , وكأن النص بكامله عبارة عن قصيدة شعرية بالغة الروعة في نظمها .

ولأن هذا البحث وهذه المسرحية وكذلك القطع المسرحية السومرية والبابلية الأخرى التي سأرفقها للتأكيد أيضاً على أن السومريين والبابليين عرفوا فن المسرح وتعاملوا معه , هي أمور تطرح أفكاراً وحقائق وتحليلات جديدة , فإنه سيتناول في فصوله أهم النقاط التي يمكن من خلالها تسليط الأضواء على الملحمة وفن كتابة المسرحية فيها وعلى جوانبها الفنية , وكذلك على القطع الأخرى التي وردتنا من فترات متفاوتة تاريخياً وكذلك في دراستها والتعمق فيها , لمعرفة تأثيرها المتبادل على بعضها ضمن تطورها اللاحق .

في ختام هذه المقدمة الموجزة , آمل أن يحقق هذا البحث الآمال المرجوة التي كتب من أجله , بكل ما يحتويه من نص مسرحي ( كلكامش ) الذي إنبثق من الملحمة وكذلك بقية النصوص , في أن يكونوا عبارة عن محاولات جادة مدروسة لتغيير مسار ما هو مطروح من آراء عامة في فن المسرح , تضاف إلى الدراسات والبحوث الكثيرة التي قد تتناول ما كتب هنا بطرق وأساليب مختلفة في المستقبل .

د.راجي عبد الله

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش