النظر في الظلام” وجد ممنوع ينقذه المسرح / أبو بكر العيادي

المخرج نيلسون رفائيل ماديل عرف كيف يترك مناطق ظل في مسرحيته للمحافظة على نوع من الغموض، خصوصا ما يتعلق بالأدوار الملتبسة لبعض الشخصيات.

عن رواية “النظر في الظلام” للكاتب الجنوب أفريقي الراحل أندري برينك، استمدّ المارتينكي نيلسون رفائيل ماديل مسرحية بالعنوان نفسه، تعرض حاليا في مسرح “العاصفة” بباريس، تبيّن كيف كان نظام الأبارتهايد يحطم المصائر.

لم يحظ أندري برينك (1935-2015) بما حظي به بعض أدباء جنوب أفريقيا من اعتراف عالمي على غرار نادين غورديمر (نوبل 1991) وجون ماكسويل كويتزي (2003)، رغم أنه كان أغزر منهما إنتاجا وأعلى صوتا في مجابهة بني جلدته والتنديد بسياسة الميز العنصري التي تنتهجها بلاده منذ كتابه الأول “السفير”.

فهو من سلالة البوير، المستوطنين المسيحيين الهولنديين الذين احتلوا جانبا من جنوب أفريقيا في القرن السابع عشر، وعرفوا لاحقا بالأفريكانرز، وقاوموا الإنكليز بشراسة قبل أن يذعنوا للهزيمة.

وبرحيل الإنكليز عام 1948، حظر نظام بريتوريا سائر العلاقات السياسية بين الأعراق، التي يحددها لون البشرة، حرصا منه على نقاء النوع، تمثلا للمثل الأعلى الذي دعا إليه هندريك فرانش فيروورد (1901-1966) الأب المؤسس للأبارتهايد في جنوب أفريقيا.

ولكن برينك، الذي عاش خمسا وعشرين سنة من حياته في قرية معزولة بجنوب أفريقيا لم يكن يدرك تماما أيديولوجيا نظام بريتوريا، فكان يرى في تسخير السود لخدمة البيض أمرا من أمور الحياة المعتادة، ولم يع ذلك الوضع اللاإنساني الذي كان يعيشه السود إلاّ عندما قدم إلى باريس عام 1959 لمواصلة دراسته في الأدب المقارن.

هناك اكتشف معنى المساواة بين الأجناس، وغياب الفوارق بين أسود وأبيض، وهناك أيضا كتب روايته الأولى (1961-1963) التي تساءل فيها عن معنى الحرية، تلك الثيمة التي ستصبح قارة في رواياته، وفي نضاله السياسي دفاعا عن السود.

أندري برينك تجاسر على هتك المحظور، في بلد جعل الميز شرعة، إذ صور علاقة غرامية بين شاب أسود وامرأة بيضاء

ويقول في هذا الصدد “اكتشفت مروعا ما كان يفعله بنو جلدتي منذ زمن بعيد، وعلى أي فظاعات وانحرافات بنَت حضارتُنا البيضاءُ أسسَ أخلاقها وأنوارها المسيحية”.

ومن الطبيعي أن تقابل روايته الثانية “النظر في الظلام” (1973) بالمصادرة، وتعتبرها الرقابة رواية بورنوغرافية، ويوصَم صاحبها بتهمة الخيانة التي ظلت تلاحقه حتى إقرار المصالحة بين مانديلا ودو كليرك، فضلا عن التهديدات التي كانت تصله. كل ذلك لأنه تجاسر على هتك المحظور، في بلد جعل الميز شرعة، إذ صور علاقة غرامية بين شاب أسود وامرأة بيضاء.

والحكاية التي تخيّلها تدين مباشرة أيديولوجيا الأبارتهايد، إذ تروي مصير رجل أسود، جوزيف مالان، متهم بقتل جيسيكا، امرأة بيضاء كان يقيم معها علاقة غرامية سرية، تقع تحت طائلة قوانين الميز العنصري التي كانت شائعة في جنوب أفريقيا.

وبينما كان قابعا في السجن ينتظر محاكمته، ترتد به الذاكرة إلى فصول فارقة في حياته، طفولة فقيرة قرب أهله الذين يُسخّرون لخدمة الأسياد البيض، وتمرده على رغبة أمه في “أن يظل في مكانه” لا يريم عنه، واكتشافه المسرح، الذي سيغير مجرى حياته، فسافر من أجله إلى لندن، ليتمرس بأدوات هذا الفن، ويستفيد من تجارب المحترفين هناك.

ولما عاد إلى وطنه، أنشأ أول فرقة مسرحية للملونين في كاب تاون تتكون من ممثلين هواة، أرادها أداة لخدمة التزامه السياسي، وكان يجوب بها المدن ليحرّض أهاليها على التمرد الذي يغتلي كبركان يوشك على الانفجار، إلى أن فجّر الغضب في ضواحي سويتو.

تمرد على القوانين الجائرة
تمرد على القوانين الجائرة

وكانت فرقته قد حققت النجاح حيثما حلت، بعرض أعمال لكبار رجال المسرح قدامى ومحدثين، مثل “الحياة حلم” للإسباني بدرو كالديرون، و”أنتيغون” لسوفوكليس، و”هاملت” لشكسبير، و”العادلون” لألبير كامو، حاول المخرج الشاب من خلالها مجابهة المحظورات، والحصول على حرية تجهد السلطة السياسية، التي استولى عليها الأفريكانرز، لانتزاعها من الأهالي السود.

وفي تلك الأثناء يتعرف إلى جيسيكا، وهي امرأة بيضاء في مقتبل العمر سيعاشرها سرّا، وكلاهما يعلم أن تلك العلاقة طريقها مسدود، ولكنهما يتحديان المحظورات، ويفلتان من عيون البوليس، ويقاومان التحرشات العنصرية، ويستجيبان لتحريض السود على المضي قدما إلى أن وقعت الجريمة.

ويظل جوزيف وراء القضبان يتساءل ما إذا كانت الحتمية أو تعطشه للحرية أو تمرده على القوانين الجائرة أو حبه الولهان لامرأة بيضاء هي التي دفعته إلى حلكة الظلمات؟

الديكور مجرد أضواء كاشفة قريبة من الخشبة، لأن الجوهر يقع في الذاكرة وفي كلمات جوزيف مالان، رجل المسرح الذي ينتظر محاكمته، فيسرد حكايته وحكاية أجداده على ضوء آمال هشة.

والتشويقُ القائم على عقدةٍ غائبٌ، فلحظة الانفراج تبدّت منذ مطلع الفصل الأول بسرد سيرة البطل، ولكن المخرج المارتينيكي الشاب عرف كيف يترك مناطق ظل للمحافظة على نوع من الغموض، خصوصا ما يتعلق بالأدوار الملتبسة لبعض الشخصيات، وظروف المأساة، مثلما كبح العنف وإن ظل التوتر ملموسا، إذ محا مشاهد مرعبة من الرواية، ليركز على الوجد الممنوع والدور المنقذ للمسرح.

___________________

المصدر / العرب
موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *