الناقد و العرض المسرحي – العراق

عندما  يجلس ناقد مسرحي والى  جانبه متلقٍ عادي, وكلاهما  يشاهدان عرضا مسرحيا ,وما  أن  ينتهي العرض حتى  يتكلما فيجد  المتلقي  العادي  انه  لم  ينتبه  لكل  ما  يذكره  الناقد في العرض, بل  ويدهش  لطبيعة  ما  يسمعه ,وكأن  الناقد  يتحدث  عن  عرض  آخر, والحقيقة  هو  العرض  نفسه . وبطبيعة الحال فإن هناك  مواصفات  ينبغي  توافرها  لمن  يمارس  النقد وهي  بإيجاز :موسوعية المطالعة, المعرفة  الحرفية  بتقنيات  العرض , المتابعة المتواصلة  للعروض , تقصي  الظاهرة  المسرحية  عالميا, والوقوف عند  أهم  أقطابها والذين  شكلوا علامات  فارقة  بالخارطة  المسرحية  ,وأخيرا  , ان يكون ضليعا  بالنظريات  النقدية  الكبيرة , والاتجاهات المختلفة  وتياراته الجديدة.

إلا  أن  المسألة  أكثر  تعقيدا, فقد  يكون  رجل  ما , ملما  بكل  ما تم  ذكره, الا  انه  لا يستطيع  أن  يكون  ناقدا وعلى  حد  تعبير  رتشاردز  الذي  وصف الشعر بأنه (( نقد للحياة )) وبالمعنى  ذاته  يكون الفن نقدا للحياة أيضا  والنقد المسرحي  هو  نقد لنقد 

الحياة,الذي  يتطلب  مهارات وقدرات  في كيفية التعبير عن  المنجز  الجمالي  وفي  الوقت  عينه  تكون  الحياة نصب  عينيه.

ان  المبدع  ينجز  عمله,ولا ننتظر  منه  تفسيرا , وان  فعل فقد  أعلن  موت  منجزه, لأنه  يجيب  عن  التساؤلات , التي  ينبغي  أن  تكون  مقلقة ومحفزة  للاكتشاف  النقدي , والنفاذ والتغلغل وتخطي  كل  العلامات  التي  تحجب الرؤية  النقدية  الفذة .

إن  ستراتيجية  الناقد تنطلق  من  محاور أساسية, ومتعته  تختلف  عن  متعة  المتلقي العادي, لأنه  يرنو إلى اكتشاف أعماق  العرض,لا ترفاً  أو  نزقاً ,  فتلك  متعته النقدية , بالتوصل  إلى القيم  الجمالية  والأبعاد  الفنية , والصياغات  البارعة . لهذا  فان  أولى  المحاور  النشطة  من  وجهة  نظري هي: 

اولا: الشكل الفني

الذي  يعد علامة  من  علامات  العرض, وجمال  العرض  إنما  يكمن  بصياغة  الشكل, وان  كانت  المدارس  الإخراجية  والاتجاهات  المختلفة قد  حددت  تلك  الأشكال في  الخارطة  العالمية ,إلا  أن الناقد  يبحث عن الجديد المستنبط, أو  اللحظة التي  يبلورها  المخرج خارج  إطار  الشكل  المعروف. بكلمة  أخرى , إن  الناقد  يبحث  عن  الإبداع والتفرد الذي  يميز  هذا  المخرج  عن غيره, ولو  بلحظة واحدة, في بنية العرض وتعد  بحق  نواة  نص  المخرج ,التي  تميزه  عن غيره .

إن العرض  سينسى  لاحقا, بمرور  الأيام  وتراكم  العروض  وضجيج الحياة , والذي  يبقى  من  العرض  هو  تلك  اللحظة, عما مثلته وعبرت عنه, أي  عن القيمة  الفريدة التي  ترسخ  بقوة  بذاكرة الناقد / المتلقي, وان  لم  تكن  تلك اللحظة  موجودة  , سيسدل  الستار  عن  العرض ويقبر, ويبقى  رقما  في  سجل  أرشيف العروض, ليس  إلا.

إن الشكل  الفني , هو  نحت  لرؤية  المخرج الكونية , التي  يطل  من  خلالها  إلى  العالم , بصيغة  جمالية معبرة  عن  رهافة  الحس,وعمق  التفكير ورجاحته.

ثانيا: الموضوع

قد يكون  الموضوع  قديما  لنص  قديم ,وهنا  نتساءل:  كيف  تمت  معالجته,وماذا  كان  يقصد؟ أي  البحث  عن  الجديد  في  الموضوع  القديم- ومن  هنا  جاءت  وظيفة الدراماتورجي في  العروض- وقد  يكون  الموضوع معاصرا,ومع  هذا  يبقى  السؤال :  لم تم  اختيار هذا  الموضوع  دون  سواه؟ وكيف   تكون معالجته؟

إن  لاختيار  المخرج  لموضوع  ما ,سيبلور  لنا  طريقة  تفكيره, إلا أننا  هاهنا  ينبغي أن  ندرك  تماما, إن  المضامين  محددة , ولا أبالغ إن  قلت بأنها مطروقة, فالأقلام  البارعة  لم  تبق  شيئا  لم  تتطرق  إليه  عبر ثقافات حضارات  امتدت  إلى  ما قبل  التاريخ الميلادي. ان  حركة  الموضوع  تعكس  لنا  صورة  الحياة  كما  ينبغي ان  تكون  لا  كما  هي  عليها  الآن. والمقصود  بالحركة  هاهنا  ,نزوع الموضوع  ليكون  جديدا  وان  كان  قديما , أو نزوعه  نحو  السيرورة باستمرار وان  كان  الموضوع  معاصرا , فالحركة  هي  حركة فكر يتجدد, ولا تكون  المعالجات  طائشة ونزقة , بل  شعور  عال  بالمسؤولية  إزاءها , لأن  العالم-المتلقون- بحاجة  لفهم  الحياة وهي  في  أطوارها  متقلبة.ان  فهم  ديمومة الحركة بالموضوع , إنما  تشغيل  للعقل الإخراجي, الذي يؤسس  تصورات حول  الحياة ,فيغنيها ويغني فهمنا  إليها , وبذلك  نتلمس  التجديد, والشعور  كوننا  أحياء فيها .

ثالثا: الأسلوب

منذ عقود وطلبة  المعاهد والكليات  يخرجون عروضهم المسرحية في  داخل  الوطن, وفي خارجه, ومنذ قرون تقدم في  المسارح الجامعية وغيرها  آلاف العروض,وتطرح  أسماء  مخرجين  لا حصر  لهم ,والسؤال :  كم  بقى من الآلاف ؟  اين  ذهبوا ؟ الم  يكونوا فنانين  كبار ؟ لم  بقيت حفنة  من  الأسماء تذكر والبقية في  دائرة  النسيان؟ ترى ما  السبب ؟ أهو ضعف في  توثيق  الثقافة والنشاط المسرحي ؟ أم أن هناك  أسبابا أخرى؟.

خاصية  المسرح كونه  يخلد  الذين  أضافوا فقط لهذا  الميدان  الإبداعي الثر, فعندما  يذكر  اندريه  أنطوان  على سبيل  المثال , على الفور  يتذكر رجالات  المسرح ما  أضاف وشكل خطا  يتميز  به بالدقة  التاريخية  للعرض وتنظيم المجاميع والتدقيق  في  التمارين, وعند  ذكر العلامة قسطنطين  ستانسلافسكي,فهو  المعلم  الأول  في  فهم  الشخصية والتقمص في  الأداء  التمثيلي, وكذا  الحال  مع  مايرهولد  في البايوميكانيك, واخلبكوف,وفاختانكف ,كوردن كريك, برشت وبيتر بروك وآخرين لا يتجاوزون  الخمسين, هم  العلامات  الفارقة  في  الإبداع  الإخراجي  الأسلوبي, وكل  واحد  قد  أعطى عصارة إبداعه وقدم  أضافته  الجمالية والحرفية والفنية  ما  أغنى  عالم  المسرح وسحره. أما  رهط  المخرجين عبر القرون  وهم  بالآلاف, فليسوا أكثر من  مقلدين, لا  ولن  يصلوا  لتلك  القامات  الكبيرة .

إن  الأسلوب يعني:  تكرار اللسمات  والخصائص  للمخرج  نفسه. كما  هو  حال البولوني  كروتوفيسكي   الذي  يعتمد  على الجسد,أو  بروك  الانكليزي الذي  يعتمد  الطقوس. لهذا  فإن  المخرجين  التابعين  لا يشكلون  علامات, إنما  ينسخون  تجارب العمالقة, وبذلك  يشوه  الأسلوب  الأصل ,ويبقى  المقلد  قزما مهما  تطاول  لسانه.

إما  كثرة  المخرجين,  فتعود  للاستهلاك ,أو  لتبرير  الوجود  في  فضاء  الفن  المسرحي.

إن الناقد  يبحث  في  العروض  عن  نصه  الذي  يقرأه, ويتمتع  بقراءته, نص  يستقيه  من  العرض, ليكتمل  العرض  به.

وللمتلقي العادي نصه  أيضا من بنية  العرض,فالعرض  في  حقيقته  عدد  كبير من  النصوص ,نص  متلقٍ قد لا يفقه من العرض  غير قشرته  الخارجية  المتعلقة بقصة  الأحداث, .فقد  يغريه  الشكل الفني, ويظن  انه  آية من  الإبداع  من  غير  أن  يفكر لثانية واحدة , بأن  هذا  الشكل  , إنما  هو  مأخوذ أو  مسروق  من  عروض  أخرى. أو  يستهويه  الموضوع  ويتقبله  دون مقاومة  تذكر, أو  يرضى  بأسلوب  إخراج  العرض, لأن  خبرته  محدودة  وليس  بجعبته  تاريخ  مشاهدة  للعروض.  هذا  المتلقي  المتواضع  سيكون  له  نصه  , لكنه  نص  مخادع , يختلف نص  متلقٍ  آخر  يبحث  عن  تفسير  لما  يراه , ويطرح  تساؤلات مقلقة  وغير متلقٍ آخر  ينحت  تأويل  للعرض و استبطانه واكتشافه .لكل  هؤلاء  نصوصهم  بالعرض  الواحد  الذي  يشاهدونه, وكل  يرى  العرض  من  خلال  نظامه  الثقافي وذائقته  الجمالية , وان  أتفق  بعضهم  ان  العرض  مذهل  , فإن  لكل  منهم سببا  غير  سبب  الآخر .

إن  فضاء  المتلقي , واشتباكه مع  العرض, يفرض  بهذا  القدر  أو  ذاك  نصه, المعبر عن  بنية نظام   المتلقي.ويبقى نص  الناقد هو  أخطر وأروع  نصوص  المتلقين.

—————————————————————–
المصدر : مجلة الفنون المسرحية – منصور نعمان – المدى

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *