المُقترَب الجمالي وجماليات المفهوم/ إشكالية التابو في خطاب المسرح العربي.بقلم/ د.نورس عادل

 

راوحت اشتغالات التابو بمستوياته المتعدد ولاسيما مستواه المتمثل بالذات الإلهية تحت وطأة المخرجات الاصطلاحية من جهة والمتشكلات المفهوماتية من جهة أخرى قروناً عدة،بصفتها مركباً قيمياً تنازعته المسافة الجمالية الفاصلة بين نظريات التفلسف وفرضيات الذائقة الاستطيقيا منذ بوادر تقويض الفكرة المسيحية ومحاولاتها في الهيمنة على شتى نواحي ومجريات الحياة الثقافية ومردوداتها اقتصادياً،اجتماعياً،سياسياً،..الخ.

مما دعا بالضرورة القائمين على رأس السلطة المعرفية إلى إعادة تدوير بنيات الخطاب الشمولي بحسب مقتضى الحقبة التي أخذت تبشر بعصر يركن إلى العقل وما يمكنه من تطوير اهتماماته الجديدة الناتجة عن مقولات معرفية بعينها.. حتى صيغت له بعض الاتفاقات المعيارية التي وصلت مراحلها المتقدمة، قرابة القرن الثامن عشر.. حيث عدة موضوعة التابو الإلهي واحدة من أهم المشاريع في السرديات الكبرى للحضارة الإنسانية حضوراً إشكالياً واستغراقاً معرفياً، وهو ما حتم مردوداته الحاصلة على شكل فعاليات تقدمية حاولت مرارا الحقول الفنية من الاضطلاع بصياغتها جمالياً.. بحسب نوع الممارسة الإبداعية لكل حقل من جهة وبحسب نسبية فاعليتها وتأثيراتها وخصوصية انتشارها ..من جهة أخرى.

وكذا بوسعنا الإتيان بأمثلة كثيرة لإثبات تسجيل الظاهرة المسرحية أرقاماً قياسية تُمكن البوح بمضمرات ذلك العالق المستمر وديمومته التي في اضعف مناطقها ميزت المسيرة المسرحية منذ انطلاقاتها الأولى إغريقياً عن باقي الظواهر الفنية الأخرى بوصفها المشتبك والمتعالق مبكراً مع المفاهيم التابوية بمستوياتها المتعدد ، ولاسيما المستوى الإلهي..بنسبة كثيرا ما استزادت حتى عن الحقول المعرفية المجاورة.

وقد يكون المرد الرئيس ذلك إلى نوازع السمة التحررية لفن المسرح بإزاء تعرضه للسلطة التي تفرزها معطيات التابو وبالتالي تعارضه مع الأبعاد الإجرائية وما تعززه من حدود مشروطة ومحاذير أحادية غير قابلة للتجاوز بل وحتى رافضة لسلمية التقابل طبقا لثقافات الانفكاك المعاصرة مثلاً، مما ألزم الخطاب المسرحي ضرورات تنظيرية مبكرة في تطبيع نوع العلاقة اللازمة عن طريق العقلنة الجمالية إتيانا ورصداً وتأويلاً وتفكيكاً وصولاً نحو فضاءات المقترح الذي يمثل جوهر الظاهرة المسرحية وميزتها التواصلية في إضفاء مفهوم الشرعنة لصناعة المقترب؟؟

وذلك الأخير هو ما تتبوصل فيه شتى المؤشرات التابعة لعبقرية الرؤية الإخراجية التي من شأنها أن تعصف بما تريد من وجهات نظر أو نظريات او مواقف فلسفية إنسانية سياسية فكرية ..الخ على أن تؤثث فضاءات جديدة تمكنها من استثمار الجمالي والفني في التمركز حول خطاب يتسق وحجم الخراب الناتج عن العصف بحيث يمكن للمتلقي أن يجول بنظره وعياً وذائقة بين ما اعتقده ثابتا وبين ما يراه متحرك بين معمارية كتل الخطاب القديم والفرضيات الهندسية لمعمارية الخطاب الجديد بكل إزاحاته وما استطاع إنتاجه عن طريق إعادة تدويره لعناصره وبنياته…تلك هي أوليات ذلك المقترب وتلك هي باختصار مائزات المسرح وظاهرته الكونية ومقدساته الرئيسة التي نرمم بها وعينا وحضورنا الدائب في ممرات الفكر والذاكرة والفعل..وهي اللذة العابرة لمجريات المعرفة منذ المتعارضات الأفلاطونية وحتى ما بعد ألان ، وهو السبب وراء ما يدعونا نحو حضور العروض المسرحية.

كلنا ننتمي إلى المسرح ..لكن البعض منا فقط ينتمي إلى جمالياته، وهو ما دعاني لوضع تلك المقدمة فمن يستطيع أن يراجع بعجالة أهم المنعطفات التي أسهمت في إعادة تشكلات شكل ومضمون خطاب المسرح العالمي فمن المؤكد أن تستوقفه مخلفات الحدث الكارثي وتوابع الارتدادات لتلك الهزات وانعكاسات شروخها العميقة داخل مساحات الفعل الثقافي والفني وما يتوافر بعدها من حراكات وتحركات في المتن المفاهيمي ولاسيما التابوي منها بغية إيجاد تفسيرات لاستيعاب الصدمة في اضعف مراجعاتها، وهو ما دعا الخطاب المسرحي العراقي/العربي بانتماءاته الكونية في اغلب عروضه ان ينحو الى إعادة قراءة تجتلب بين روابط سماتها مقومات الاقتران بالهاجس الشمولي نحو تلك المراجعات للاستبانة تارة من مديات فاعليتها ، وطرح الأسئلة تارة أخرى عن طريق صيغ الرفض والإنكار لجدوى هذه المفاهيم بإزاء عالمية الحدث واستمرارية ما يحدث.

وهذا النوع من الأشكال المسرحية لا حصر لها في المقاربة التاريخية لمثيلاتها، بدأ من ضفادع ارستوفانس مرورا بفاوست غوتة وصولاً لغودو بكت وتواصلاً مع ذباب سارتر الذي استخرج من تحت رماد الحروب مقولة معرفية ناهضت العرف السائد القيمي وتمردت انطلاقا من إعادة تشكيل الوجود بإزاء الماهيات.

ومع إن كل مخرجات هذا النوع من الطروحات لم تكن بالجديدة منذ ذاك على نواح الفكر أو وشائج الفلسفة إلا ان الإبداعي فيها جاء اثراً في الحالة المسرحية التي جاورت المستحيل وتجاوزت التصور الساذج في صناعة المقترب الجمالي داخل متن عروضها.. انطلاقا من مبدأ لحظة تأمل ممزوجة بالدهشة والانفتاح.. ومن ثم ترك الخلخلة تأتي بحتمية أسئلتها؟؟

وهو ما لم يتوافر إيجاده بين زحمة اغلب العروض المقدمة مؤخراً والتي اعتادة بفعل الراهن أن تتبنى هكذا مشاريع على مستوى المضمون وتخل بها على مستوى الشكل، فالتابو الإلهي على وجه الخصوص يماثل في بعده الفلسفي مفاهيم الجليل التي تستدعي استحضارها حالة من الفزع والدهشة، فهي تقع ضمن مناطق مفترضة تخارج الرؤية المسطحة والتصورات الساذجة وذلك”بسبب اقتران الجليل=التابو بالخوف حسب طروحات (بيرك)فمن اليسير تحديد خصائصه، بحيث ان كل ما يثير هلع الفرد بغض النظر عن طبيعة الحجم يمكن ان نصفه ب الجليل.. وعلى حد قوله ان بمجرد شعورنا بخطورة الشيء لا نستطيع تصوره تافها أو هين الشأن”() وهذا الطرح يستدعي لفت انتباه صناع تلك العروض في ذلك الهدر المؤسف لمجمل الطاقة الملقاة على خشبة المسرح، ممثل، إضاءة،ديكور،صوت، وحتى جمهور…الخ ودعوتهم لمراجعة ابسط المركبات المؤسسة في صياغات البؤر المشهدية مثل الزمن والتوتر والتواتر الداخلة في تكوينات البيئة المشهدية المنتجة لمدونات مفاهيمية من المفترض عليها مناطحة قيمة الكارثة جمالياً.. ناهيك عن ظاهرة تضائل الملفوظ النصي المتبنى في هكذا مشاريع دون ان يستطيع حتى الاحتفاء بنفسه بوصفه جنساً درامياً تستبق منطلقاته سمات تدعي الما بعد.. حداثوية على الأغلب، وهذا الأخير هو ما صارت تركن إليه اغلب العروض المسرحية في مخرجاتها وطرحها نتيجة استسهال الاعتقاد الخاطئ بفوضوية القاعدة وارتجالية الأسلوب… وهي العلة التي ضاع فيها معظم الوقت دون ما مقترب……؟؟؟

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *