المونودراما بين الفعل المسرحي المكتمل والمنقوص – عواد علي #المغرب

 

“المونودراما” في أبسط تعريف لها هي مسرحية ذات شخصية واحدة يؤديها ممثل واحد، أو ممثلة واحدة. لكن تعريفاتها، نقديا ومعجميا، تعددت، حالها حال أي شكل أدبي أو فني، وواجهت اعتراضا أو رفضا من بعض الدارسين والنقاد، انطلاقا من أنها لا تحتوي إلاّ على شخصية واحدة، تملؤها بأهوائها وتحييها ببلاغتها، وفيها تطغى المناجاة (المونولوج) على الحوار، ولا شيء أشدّ منها معارضة لروح الفن المسرحي الحقيقية. ولذلك ستبقى فنا دراميا ناقصا حيث تفتقد وبشدة لعنصر الحدث الحي، وتنحصر دائما وأبدا في أشكالها السردية رغم محاولة معظم العاملين فيها استخدام العناصر المساعدة.

ولم يسلم مصطلح “المونودراما” من الاعتراض أيضا، فقد رأى بعضهم أنه مصطلح غير دقيق، وأن المصطلح الصحيح والمنتشر هو المسرح الأحادي. ومنذ منتصف سبعينات القرن الماضي أطلق المسرحي المغربي عبدالحق الزروالي على عروض “المونودراما”، التي تخصّص فيها، مصطلح “المسرح الفردي”.

ويمكن إيجاز أبرز الملامح الأساسية للمونودراما بأن أغلب حواراتها يقوم على السرد المباشر بضمير المتكلم، وفي أحيان قليلة تتحاور الشخصية مع شخصيات وهمية أو مع المتلقين. وقد ابتكر كتّاب المونودراما مجموعة من الوسائل الفنية لجعل السرد ذا زخم درامي منها: وسائل سمعية (الموسيقى والمؤثرات الصوتية الخارجية)، وسائل تقنية مسرحية (أقنعة، ملابس ودمى)، الإكسسوارات والسينوغرافيا (صور ساعات وشرائح فلمية)، والهاتف بوصفه حضورا (تمثيلا للآخر المغيّب).

كما أنها تركز على الفرد (الشخصية) أكثر من الحدث، وهذا منظور تنعدم فيه فرصة الجدل عن طريق التنوع، ومن ثم ينعدم الحوار، وتقيم الشخصية الجدل مع نفسها لأنها تعيش في عزلة، وتتشبث بما جرى لها في الماضي، من ناحية، والحلم من ناحية أخرى، بحيث تعتمد الحركة الدرامية في تطورها على الصراع النفسي المركّز بين ما كان وما كان يمكن أن يكون، وبين التوقّع والتحقيق، وغالبا ما تتمتّع بالكثافة الشعورية النابعة من تركيز الحدث في شخصية واحدة تلحّ على وجدان المتلقي، وتحمل في طياتها رسالة خفية تضع الخلاص الفردي فوق الخلاص الجماعي، وتنقل بؤرة التركيز من الجدل بين الفرد والجماعة إلى النفس في انغلاقها على ذاتها، وتستعيد بعض الصور، أو المواقف الماضية، التي تركت في بطانتها بعضا من الغضاضة، أو الضيق والحزن، أو شيئا من سرور مبهم لأمل متوهّم متوقّع التحقّق، وتتداخل تلك الصور وتتقاطع وتتواصل بعملية شبيهة بعملية المونتاج، ذلك أن استرجاعها يجري بانتقائية ذهنية.

وتفتقر المونودراما إلى العنصر النقدي في تناولها لمادتها، مهما حاول المؤلف تأكيد هذا العنصر، لأن إلحاح الشخصية الواحدة والمنظور الواحد على وجدان المتلقي، طوال العرض، يخلق نوعا من التعاطف ينتفي في إطاره النقد.

تاريخيا، لم تظهر “المونودراما” إلاّ في القرن الثامن عشر، ويرجّح بعض الباحثين أن تكون مسرحية “بغماليون”، التي كتبها جان جاك روسو، هي البداية الحقيقية لهذا الشكل. ثم ظهر بعده الممثل والكاتب المسرحي الألماني جوهان كريستيان براندز، الذي كتب نصوصا مونودرامية قصيرة بين 1775 – 1780. لكن نجاحها سرعان ما تراجع، أو قل الاهتمام بها من قبل النقاد والدارسين، ما جعل بعضهم يعتقد بأن ذلك يعود إلى إخفاقها فنيا.

وبعد هذا الازدهار المؤقت توارت “المونودراما” عن خشبة المسرح إبان القرن التاسع عشر، لكن في نهاية ذلك القرن وبداية القرن العشرين، ومع الصحوة الرومانسية التي بلغت أوجها في المسرح على أيدي التعبيريين في ألمانيا، بدأت “المونودراما” تعود إلى خشبة المسرح، ومن أبرز نماذجها “ضرر التبغ” و“أغنية التم” لتشيخوف، و“قبل الإفطار” ليوجين أونيل، و“الصوت الإنساني” لجان كوكتو، و“أيدي يوريديس” للبرازيلي بدرو بلوخ.

وبرزت “المونودراما” في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وأسهمت مدرسة التحليل النفسي (سيغموند فرويد ومن تلاه)، في ترسيخها بالتركيز على الأمراض الشخصية والعصبية والنفسية للإنسان، حيث صار بعض كتّاب المسرح يأخذ مادته من الحياة ليضعها في نهاية الأمر، بأمراضها وانفصامها ووحدانيتها، على خشبة خالية تبحث عن مخلص، أو من يستمع إليها.

أما في المسرح العربي، فإن الشاعر المصري أحمد زكي أبوشادي يُعدّ أول من كتب “المونودراما” من خلال نصه “ابن زيدون في سجنه” عام 1954. وإذا كان بعض الباحثين يعتقد بأن مسرحية الكاتب المسرحي العراقي يوسف العاني “مجنون يتحدى القدر”، المكتوبة عام 1949، نص مونودرامي، فإني أختلف معه، لأن المسرحية تحتوي على صوت ثانٍ إلى جانب شخصية “المجنون”، هو صوت القدر الذي يتحاور معه طوال الوقت، من دون أن يظهر على المسرح.

لكن التجارب المسرحية المونودرامية في العالم العربي لم تبدأ بالتنامي إلاّ في سبعينات القرن الماضي، وقد تفاوت ذلك، زمنيا، من بلد عربي إلى آخر. وأخذت تزدهر، وازداد إقبال الكتّاب والمخرجين والممثلين عليها مع إقامة عدد من المهرجانات الخاصة بها، بل لم يعد أي مهرجان مسرحي عربي يخلو من عروضها، وأحيانا تكون لها الغلبة عدديا كما في مهرجان “عشيات طقوس المسرحية” الثاني عشر في الأردن الذي أقيم هذا العام.

وقد شاب العديد منها خلل في التجنيس أو التصنيف، فأُطلق على عروض ما يُعرف بـ“الوان مان شو” أو “الوان وومن شو”، وهما لونان يؤدي فيهما الممثل أو الممثلة أكثر من شخصية، تسمية “مونودراما”، كما هي الحال في عرض “قهوة زعترة” الفلسطيني الذي قُدم في مهرجان “عشيات طقوس المسرحية” ذاته، وأدى فيه الممثل حسام أبوعيشة خمس شخصيات.

إن أبرز مواطن الضعف الفنية التي عانت منها عروض “المونودراما” في المسرح العربي، وما زالت تعاني، إضافة إلى خلل التجنيس أو التصنيف، هو طغيان المناجاة على حواراتها، والخلط بين الراوي أو الشاهد على التجربة، فأغلب المؤدين في هذه العروض يتوشّح بإهاب الراوي، رغم أنه “الفاعل” المجسّد للفعل الدرامي، حيث تظل هذه الصيغة الحكواتية مهيمنة على أدائه، في حين يفترض به أن يكون ذا حضور يقوم على التشخيص أو التقمّص، إلاّ إذا تعمّد أن ينحو منحى بريشتيا في أدائه.

 

https://alarab.co.uk

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش