الممثل القربان في مسرح السعداوي – يوسف الحمدان

الممثل القربان في مسرح السعداوي

يوسف الحمدان

البروفة في مسرح المخرج عبد الله السعداوي تعني أقصى حالات إعداد الممثل، معه السعداوي يكون أو لا يكون، يذهب إليه وكأن مصيره مقترن به، يوليه أقصى طاقته ليرى الكون متجسدا فيه، يؤمن بأن الخلق يبدأ حين تزفر خلايا الجسد عرق الاختناق، معه تذَكَّر دائما بأنك نذرت نفسك قربانا للمسرح.

هذا الممثل القربان سيكون مع عبدالله السعداوي في مواجهة زمن تدريبي قاسٍ غالبا ما يكون غير محدد ، ودائما يتجاوز السبعة أشهر ، زمن يختبر صبر الممثل حد الضجر أو الحب ، زمن يقف في وجه الشهرة والثروة معا ، معه أنت تجدف في جسدك لتبحر فيه وليس لك غيره ، ولأن السعداوي يبحر في لجة غير العادة ، لا يطاله الممثل ذي الصبر المحدود أو الدخل الموفور، ولأنه كذلك فإنه يعرف أي الممثلين الذين ينبغي التوجه إليهم ، أو ينبغي توريطهم ، وأغلب الممثلين الذين أبحروا معه في لجته كانوا من تكوينه هو ، حيث لم يذهب إليهم كمواهب تم اكتشافهم ، ولم يؤمن قط بأن الممثل موهبة بالضرورة ، إنه يذهب إليهم باعتبارهم أصدقاء يطارحونه ولعه وجنونه في المسرح ، ولعل المعايشة المشتركة المتواصلة المهووسة معه جعلتهم ممثلين ـ كما يبدو ـ موهوبين من النوع المتميز جدا ، بالرغم من أن بعضهم لم لم يخطر على باله قط التمثيل أو المسرح قبل أن يتعرف على السعداوي .

وإذا كانت غالبية المخرجين يحددون بالشكل وبالإسم أي الممثلين قادرين على أداء هذه الأدوار بعد قراءتهم النص، فإن السعداوي لا يعنيه ذلك إطلاقا، يعنيه بدرجة أساس كيفية أداء هذا الدور، يعنيه صبر وطاقة الممثل، فليست لدى السعداوي مشكلة في أن يؤدي الممثل دور رجل بدين وهو ضعيف البنية، أو أن يؤدي الممثل دورا صعبا مركبا يتطلب جهدا غير اعتيادي وهو الذي يمثل للمرة الأولى في حياته.

أحيانا أخال السعداوي ما إن ينتهي من قراءة نص ويقرر إخراجه، يختار أول من تقع عليه عيناه من الممثلين، وهو حين يفعل ذلك يدرك بأن المسرح هو مسئولية الخلق وليس مكانا لجاهزية الأفكار والحركة التي يعول عليها بعض المخرجين في نجاح عروضهم نتيجة استئلاف الجمهور لها واعتيادهم عليها.

إن مسألة نجاح العرض أو فشله فنيا أو جماهيريا، لم ترد في ذهن السعداوي بقدر ما يكون المعمل صنو التجربة أولها وآخرها، ودائما ما يردد أثناء البروفة هذه العبارة ” هيء نفسك، انشغل بدورك، لا تفكر في شيء آخر، لا نعرف هل ستقدم المسرحية أم لا، هل سيأتينا جمهور أم لا، هيا اعمل “.

وحين يبدأ العمل تبدأ المواجهة الرحيمة الحادة المشاكسة بين السعداوي وممثليه ، والسعداوي لا يعرف الاسترخاء على كرسي خلف طاولة كعادة أغلب المخرجين ، وإن حدث وهيء له ذلك ، زجّه بوعي أو دون وعي في بروفته ، إنه يتحرك مع الممثل ، يمثل معه ، يراقب مناطق التوتر في جسده ، يداعبها منبها إياه بأنامله ، يدعوه للتحرر من خجله ، لإبراز صوته ، لتدريب عضلات وجهه ، لتكسير حالات الأداء المألوفة، للجوء إليها وتجاوزها بشكل فني أجمل ، يدعوه للتجرد أحيانا من كل شيء ، صوتا مجردا ، حركات مجردة، وإذا بدا على الممثل بعض الإجهاد ، استنفر طاقته محفزا إياه بغية أداء أصعب ، فمن العسر يذهب السعداوي ـ كما يذهب ممثل الكابوكي ـ إلى اليسر ، وحين يحقق الممثل بعضا مما يصبوا إليه السعداوي في تدريباته ، يدعوه للاسترخاء قليلا ومن ثم يعاود العمل معه وهو يراقبه وكما لو أنه يعمل تدريباته وحده دون مشاركة السعداوي مباشرة له ، ولكن في الوقت نفسه تشعر بحضور السعداوي من خلال أداء هذا الممثل ، وكما لو أنه يتوقع في كل لحظة ملاحظة ما تصدر عن السعداوي إزاء أدائه ، وعليه ينبغي الانتباه لمواطن الإشكال في أدائه .

إن السعداوي يدفع بممثله إلى تحمل المسئولية الذاتية واعتبارها ركنا أساسيا في حياته المسرحية ، دونها ، دونه ، لا يمكن أن يكون هذا الممثل منتميا للمسرح ، وإذا حدث وأن لاحظ السعداوي ممثله في اليوم التالي لم يغير شيئا في أدائه ، أو بدا عليه بعض الإجهاد والكسل أو عاد لمواطن الإشكال ذاتها ، إذا حدث مثل هذا ، طلب منه الارتخاء على مقعد كبقية المشاهدين ومحاسبة ذاته ، وغالبا ما يكون ممثل السعداوي يؤثر الوقوف في حلقة التدريب عوضا عن الجلوس على مقعد ، تلاحظه محرجا ، يستمع إلى عتب السعداوي وتوجيهاته دون مرافضة أو محاججة، والسعداوي في عتبه يستعرض تاريخ المسرح والتزام محبيه به حد الجنون والموت ، ودائما ما يسأل : ” كيف نكون ممثلين ، نصنع مسرحا مغايرا ونحن ننسى المسرح بمجرد انتهاء البروفة وخروجنا من حلقة التدريب ؟ “.

ولأن السعداوي يبحر في اللا مستقر، دائما ما يطالب ممثله بالبحث في أدائه ومغايرته بغية اكتشاف وعثر أكثر تخلقا ، وكلما تمكن هذا الممثل من تدريب جسده وعضلة مخيلته جيدا ، استطاع اكتشاف طرق وآفاق جديدة في أدائه وفي عالم المسرح واتجاهاته ، وكلما تحقق ذلك أو بعضه في أداء الممثل ،صار السعداوي أكثر وهجا وحماسا وجنونا في مواجهة هذا الممثل ، يضيف إليه ، يشاكسه ، يصرخ معه ، تدب في وجوده حيوية يغار منها أحيانا شاب في زهو اليفاعة والعنفوان ، ودائما ما يلهج حين ينتشي بهذه العبارة : “أحب الممثل الذي يتحداني”، وهو بهذه الحيوية يسجل حضورا تمثيليا ملفتا أكثر من الممثل الذي يتدرب معه أو يؤدي أحيانا، واليوم الذي يتأخر فيه ممثل عن الموعد المحدد لإجراء البروفة، تلحظ السعداوي هامدا على أحد الكراسي، وجهه منطفيء، أحيانا تشرد عيناه، وأحيانا تشعر وكما لو أن نعاسا داهم عينيه فجأة، وأحيانا تتسمر حدقتاه في ساعة الحائط، وإذا مل الانتظار انصرف إلى قراءة كتاب بمكتبة المسرح حتى يقتل الانتظار بوهج الكلمات، وحين يقضي بعض الوقت مع الكتاب يعود ثانية ليسأل بقلق أحد الموجودين بقاعة المقر وكما لو أنه يريد أن يحتمي بإجابة تخفف عنه وطأة ثقل هذا القلق “لماذا تأخروا؟ “، وغالبا ما تكون الإجابة: “ربما لم يتوفروا على سيارة تقلهم إلى المسرح”، والسعداوي أيضا يجيب: “وربما لا يكون هذا عذرا “، ثم يسترخي على مقعده، وما إن يقتحم المقر أحدهم مسرعا مقدما اعتذاره عن التأخير، حتى يتهيأ له السعداوي بمقولته المعهودة التي يعشقها: ” الإنسان زمن، للزمن قيمة مهمة، علينا أن نحترمه، لا حظوا اليابان والدول المتقدمة، لماذا سبقونا؟ لماذا تطوروا؟ لأن شعوبهم تقدس الزمن، والزمن بالنسبة إليهم مسألة مقدسة وخاصة اليابانيين”.

وأذكر كيف استشاط السعداوي غضبا حين تأخر ممثلوه عن موعد حضورهم لبروفات مسرحية (الكمامة) في القاهرة ساعة واحدة، حيث ظل بعدها ساعة واحدة يحاضر في المسرح والمسئولية والزمن، والممثلين واقفين واجمين وكما لو أنهم تماثيل لا روح فيها، بعدها بدأ البروفة بحيوية مضاعفة تشعر وكما لو أن هؤلاء الممثلين بعد هذه المحاضرة قد استجمعوا أقصى ما لديهم من طاقة لتحقيق مسعى السعداوي ولإثبات أنهم مهيأون فعلا لإجراء البروفة، ولإزاحة الإحساس بالذنب وتقديم العذر مسبوقا بالطاقة لمخرجهم.

 والمعروف عن السعداوي بأنه مسكون بالمسرح حد المستحيل ، حد الجنون ، فهو لا يسبق ممثليه بساعة أو نصف ساعة قبل موعد البروفة، كما نلحظ هذه العادة لدى كثير من المخرجين ، وإنما يقطن في مكان البروفة غالبا ، فالمسرح بيته وعالمه ، يغادر مكان عمله ليستقر بعد وجبة عابرة في المسرح ، وإذا كان مجازا يعمل منذ الصباح وحتى آخر المساء ، وإذا استبد به الاجهاد نام في المسرح أو ظل يقظا يقضي بعض وقته او ساعات الليل المتأخرة مع القراءة أو الكتابة أو مراجعة رؤيته للنص الذي يتصدى لإخراجه ، فما بالكم بحال السعداوي بعد تفريغه وتقاعده ؟ .

ولأن للزمن قيمة أساسية لدى السعداوي ، فهو يتحمل في كل بروفاته المسرحية مسئولية مزدوجة صعبة يندر تجسدها ، إذ يكون في مواجهة ممثل يعمل للمرة الأولى معه ، وهذا بطبيعة الحال يقتضي جهدا غير اعتيادي لتشكيله ولتقريبه من معطى رؤيته الإخراجية ، ويكون في مواجهة ممثل عمل معه في مسرحية سابقة وتلبسه الدور حد التقمص ، إذ كيف يخلصه من هذا الدور وينقله إلى دور جديد بأداء مختلف وفي حالات مختلفة وبيئة مختلفة ، إنه يعمل مع الإثنين بنفس الطاقة وبأقصى جهد فيها برغم ازدواجها ، حالة تتطلب خلقا جديدا وحالة تستدعي تنقية أو فلترة حتى تتهيأ للخلق ، ولا سبيل لتحقق حالة الخلق المشتركة إلا بالزمن المكثف الطويل أو بالعمل مع كل ممثل على حده .

والسعداوي كعادته لا يفض البروفة إذا نقص عدد من الممثلين ، إنه يعمل حتى لو توفر على واحد وبنفس الطاقة الجهد التي يبذلها مع المجموعة ، وحتى لو حدث أي إرباك لعرض المجموعة قبل تقديمه بيوم ، فإنه قادر على قراءة عرضه من جديد وتقديمه دون أحد الممثلين ، كما قد كان سيحدث في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي عام 94 حين عرض (الكمامة) لولا التئام الأمور، وتجاوز الإشكال، إذ أن الممثل الذي يفترضه السعداوي يجب أن يتمتع ـ كما أسلفنا ـ بصبر وطاقة احتمال وتكريس جهد كبير للمسرح، لدوره، ولأن السعداوي مخرج لا يعنى كثيرا بتجميل الممثل أو بطلاء الوسخ المخفف على وجهه أو جسده، بقدر ما يعنيه استعداد الممثل لتقبل أصعب الحالات في دوره دون تجميل أو ماكياج أو طلاء ، لأنه كذلك، انسحب بعض الممثلين عن أدوارهم من المسرحيات التي يخرجها ، والبديل هو من يُكتب له أن يكون قربانا في مسرحه ، وإذا تحقق له ذلك في عرضين على الأقل ، يزداد إيمان السعداوي بالمسرح ويوقن بأن هذا القربان الاستثنائي إغواء نادرا اختراقيا لقرابين ستأتي عاجلا أم آجلا ، ولأن هذه القرابين في حضرة الإغواء ، فإن السعداوي يدفع بأقصى حالات التخيل ـ باعتبارها واقعية أو حقيقة ـ في مخيلة ممثله حتى يتوحد وإغوائه، معرجا به نحو تجارب مسرح الكابوكي تارة وفن الكاتاكالي لدى أريان نوشكين تارة أخرى ، وسحر المسرح في الشرق وكيف جُن به أنتونين أرتو وولع به بيتر بروك ، والجسد في ذرى تشكلاته الطاقوية لدى غروتوفسكي، ضاربا له أمثلة عظيمة تجسدت في مؤديهم وفي رؤاهم باتبارها خلقا خالصا أحيانا ، وباعتبارها طاعونا أرتوديا أحيانا أخرى ، معززا إياها بكذب محرض يدعو لاستنفار خلايا المخيلة والجسد .

والسعداوي حين يستضيف بعض معطيات الكابوكي أو الكاتاكالي التجسيدية في مسرحه، لا يذهب إليها مباشرة ولكن بوفق مقتضى حالة الخلق اليومية في تدريباته المسرحية والورشية ، وعلى الممثل حينها أن يمارس جهدا جسديا أكثر قسوة وصعوبة، وطاقة صوتية مجردة ينبغي أن تكون كما لو أنها لغة لها مفرداتها وتحس وإن تغايرت مع المعطى الواقعي للغة، فالسعداوي يصل الأمر به أحيانا في تدريباته إلى أن يعتاد الممثل المشي على أصابع قدميه وانحناء وركيه لمدة لا تقل عن الساعة أو أقل منها بقليل، أو أن يؤدي دوره وهو مغمض العينين كالكفيف تماما، أم أن يبلغ أداء صوتيا وهو في هيئة المروحة، أو أن يخضع جسده لتحولات زمنية سريعة متقافزة، ولعلنا نلحظ هذه الحالات إلى حد كبير في أداء خالد الرويعي ومحمد حداد وياسر القرمزي وسلمان العريبي وحسين الرفاعي الذين كانوا معه في أهم تجاربه المسرحية .

وكلما أمعن السعداوي في قراءة تفاصيل جسد الممثل، اتجه أكثر لقراءة العلاقة، الدلالة، وحاول عبرها قراءة تفاصيل أكثر دقة في جسده، محاولة لاكتشاف ممكنات أكثر قابلية للتجسد، وكلما تمكن من تحقيق بعض هذه الممكنات، أكد على ضرورة تدريب الممثل لنفسه، لجسده، حتى يتمكن من تجاوز إي إشكال يعيق أدائه، وحتى يتمكن من التبليغ بشكل اختراقي مؤثر.

ولدى السعداوي مثل مهم يضربه لممثله حول التبليغ وضرورته، يقول: “مرة سأل بيتر بروك ممثليه: كيف تحاكون الأطفال؟ فأجاب بعضهم: عبر الحبو، وآخر عبر النغنغة، وآخر عبر التبول، إلا أن زنجي، وهو أحد ممثلي بيتر بروك، جلس في مكانه وحاول ـ باعتباره طفلا غير قادر على النهوض ـ طلب من الآخرين مساعدته، هذه الحالة تدعو الآخر للتواصل معك ” كما يؤكد عليها السعداوي الذي سأل بدوره ممثليه ولم يتلقى أي إجابة منهم غير التي ذكرها ممثلو بروك باستثناء الزنجي.

إن السعداوي يدعو ممثله للتواصل النابع من معطيات تجسيدية معززة بدربة جسدية مستمرة وبمخيلة اختبارية لمحيطها وما يتجاوزه، ودائما ما يردد هذه العبارة: ” انتبه.. إن للمتفرج عين خبيثة لاقطة ، لا تعتقد أنه سوف يتجاوزك أو يتجاهلك ، احذر وكثف قدرتك على اختراقه بممكناتك الفنية التي تتملكها عبر التدريب “، ولأن السعداوي يعنى بأهمية التواصل ، نراه غالبا ما يخضع تدريباته لعين بعض الحضور في قاعة التدريب، ويجعل منها طقسا مشتركا ، وكلما لاحظ تقصيرا ما في أداء هذه المهمة ، أمعن في إجهاد ممثله حتى يتمكن من توصيل أقل قدر ممكن مما يفترضه فيه ، وعندما يلاحظ أن ممثله قد تمكن من أداء مهمته في البروفة من خلال حفظ دوره، يأتيه ليؤكد له بأن هذا الإنجاز سيسبب لنا مشكلة ” فالحفظ يأخذنا نحو تكراره دون الوقوف عند الإحساس به، إذ علينا أن نكرر لضبط إحساسنا ولقيادة هذا الإحساس سفينتنا نحو مناطق أخرى، فالأحاسيس هي التي توجهنا نحو الإيقاع والتواصل مع المتفرج ، علينا إذن أن ننزع الكلام من داخلنا ونضع مكانه أو نخلق مكانه وجود ، كينونة ، حضور ، دون ذلك لا يمكننا تحقيق التفكير بجسدنا ولا يمكننا التواصل مع المتفرج “.

والسعداوي في مسرحه يهيء جسد ممثله لبيئات مختلفة غير مستقرة في مكان كما هو المعتاد لدى بعض مخرجينا ، حيث الصالة والخشبة من البروفات إلى العرض ، إنه يفتض المكان ، معه الممثل يؤدي في حجرة وفي قاعة صغيرة وفي مكان مفتوح كالسواحل والمتنزهات وفي البيوت القديمة والقلاع ألأثرية ، في هذه الأماكن يختبر صوته وجسده واستعداداته النفسية وقدرته على التواصل ، وخلق شيء حي قادر على التشكل بفعالية مع محيطه ، حين يعاين مكان البروفة أو العرض ينتظر مسئول المكان من السعداوي رأيا فيه قبل الشروع في التدريبات ، فيباغته السعداوي بدعوة ممثله لتهيئة نفسه والعمل في الساحة الخارجية مثلا عوضا عن القاعة المعاينة ، في البداية يستغرب مسئول المكان هذا التصرف ولكنه بعد دقائق يكون أحد المتفرجين المنجذبين لتدريباته مع الممثل ، يواجه هذا الممثل بعض الصعوبات في بداية الأمر ، خصوصا ما إذا كانت الأرض التي يعمل عليها أو يشغل جسده فوقها ، خشنة او متربة إلى حد ما ولكن يضطر للتكيف معها، ذلك أنه قرر أن يكون قربانا وعليه أن يتحمل كل ما قد يصادفه في هذا المكان ، أو يؤذيه أو يحرجه ، وكلما استألف الممثل المكان كلما تمكن من تفادي إشكاليته وأصبح قادرا على تطويعه وعلى اختزانه في جسده .

إن السعداوي وهو يختبر ممثله في هذه البيئات المختلفة ، عينه دائما على البيئة الأساس ، لذا نجده غالبا ما يسترجع هذه البيئة في بروفاته مع ممثله ، ويتصور حالته وحركته وفعله فيها ، وذلك إمعانا في شحذ عضلة مخيلته والذهاب بها نحو القراءة التصورية التجسدية لهذه البيئة ، لذا غالبا ما نجد ممثله على قدر كبير من الاستعداد النفسي والجسدي حين ينتقل إلى بيئة العرض ، نجده وكما لو أنه قد ألِفَها وتجسد فيها منذ زمن يتجاوز زمن البروفات فيها ، والسعداوي وهو يدرب ممثله وينتقل به من بيئة إلى أخرى ، يهيئه للارتجال ويقترح عليه دائما أكثر من تصور للأداء ، والممثل الذي يضيف تصورا إلى تصوراته المقترحة ، هو الممثل الذي يستوعبه وهو المهيأ لأن يكون ممثلا مرتجلا بوعي وبجدارة في المستقبل، والارتجال الذي يذهب إليه السعداوي هو الذي ينبغي أن يصدر عن التجربة ذاتها ، ويصدر عن معطيات مختبر الجسد وعن محصلة الممثل الثقافية والميدانية ، ولا يعنى به ذلك الارتجال العفوي اللفظي او الحركي الذي يصدر عن عامية شبه مطلقة في فهم واستيعاب المسرح ، إنه يذهب للارتجال الذي يعمق التجربة ويؤسس الرؤية الإخراجية للعرض المسرحي ، ويحفز المخيلة على استثارة دلالات فنية تثري التجربة ، ولعل هذا الارتجال بدا جليا في مسرحياته ( اسكوريال والكمامة والقربان والكارثة ) التي ارتجل فيها السعداوي نفسه بجانب ممثليه ، ودعا المتفرجين للارتجال معه ومع ممثليه فيها ، إذ يبدو السعداوي من خلال ارتجاله في هذه التجارب وكما لو أنه يبحث عن عالم أوسع من المسرح ن أو كما لو أنه يبحث عن متخيل لم يتحقق بعد في مسرحه ، وهذا ما يدعوه لقول طرفته المعهودة قبل كل عرض: ” هذه آخر مسرحية أخرجها في حياتي ، بعدها أتزوج وأترك التمثيل والإخراج “، ولكن كما يبدو أن حلم السعداوي (الآرتودي) في المسرح لم يتحقق بعد ، وإن تجلت بعض مظاهره فيمن ذكرت من ممثليه ، وللسعداوي طموح اكبر مما رأيت في ممثليه ، فالجن الساكن فيه لم يتوغل بعد في جسد ممثله ، وهي اللحظة التي يصل فيها الممثل حد الموت كي يكون بعدها مهيأ لمواجهته كند قوي لا الاستسلام له كخصم ضعيف .

هذا هو الممثل (الكن ـ فو) الذي يطمح إليه السعداوي، أي القادر على التحمل والمقاومة والتضحية، ومزيدا لتحقيق ذلك الطموح، على الممثل أن يقطع اتصالاته بكل أجهزة الاتصال الإلكترونية، بالذات في البروفة، وأن يركز معه على كل صغيرة وكل شاردة وواردة تحدث أثناء البروفة، وأن يتخلى تماما عن سرد مشكلاته الخاصة في المسرح، وأن يتواصل مع المسرح في وقت البروفة أو التدريب وفترة تواجده خارج المسرح، ويكف عن عاداته اليومية الآلية، ويكون مهيأ لكل تحول طاريء في المسرح.

السعداوي.. معه المسرح يبدأ ولا ينتهي.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش