«الملك يموت» و«مأساتي».. تظلّ التحف ممكنة/عباس بيضون

تدخل الملكة والملكة الأم ومن جهتين متعارضتين تستقطبان المسرح، يدخل الطبيب ويدخل الدوق ثم يعلن المنادي مقدم الملك ويدخل الملك وسط صراع الملكتين ويصعد إلى العرش، ومن فوق يلقي خطبة تقليدية من ضمن مربع يوضع أمامه، وسيكون المربع كاريكاتوراً احتفالياً. الكاريكاتور هو البارز فنحن على الخشبة داخل كاريكاتور العرش والخادمة لا تزال تكنس والملك يصل حافياً، وما ان يعلن انه يموت حتى تسقط أبّهته ويسقط صولجانه وثوبه المغطى بالأوسمة ويبقى في ثياب المرضى البيضاء. من اللحظة الأولى تبدأ المفارقات الساخرة. الملك يموت هذه بحد ذاتها مفارقة كبرى، المُلْك يتعارض مع الموت والموت الآتي ينخر ملكية الملك. فلا يبقى من الملك سوى الإنسان الساقط من ملكيته. الملكتان تستمران في الصراع، الزوجة تريد أن تنقذه لكن حبها الهزيل والركيك لا يكفي. الآخرون تمتلئ الخشبة بهم بدون أن تمتلئ، إنها تدور وتذهب يميناً وشمالاً، الجميع يتحركون، وحدها المربعات التي تطن عليها قبضة الملك أو يتقلب الملك فيها، وحدها المربعات تبدو كأنها تحمل إلى قاعة العرش، الذي لم يعد عرشاً، والملك الذي لم يعد ملكاً، الذكريات الاحتفالية. الجميع يتحركون بصوت، أو بلا صوت، لكن المسرح في دورة دائمة، الملكتان تتنازعان والملك يتهاوى ويقوم ليعود فيتهاوى إلى حد أن يتدحرج. ثمة دينامية كبيرة تحيط بنزاعه. موته المقبل لا يحدث بانطفاء تدريجي أو بذبول مستطرد أو بصمت لا يلبث أن يشمل الساحة. على العكس من ذلك. الموت يحدث بضجة وحركة متزايدة وسرعة تتفاقم كلما أخذ يدنو ويقترب. الموت الذي يتآكل الملك والذي يحمله الملك في داخله يبدو كأنه حُكم أو حتى مؤامرة يشترك فيها الجميع: الأم والطبيب والدوق، بل يبدو من بعيد أن الجمهور مشترك أيضاً. كل يموت وحده هذا ما تقوله الملكة الزوجة وهذا ما يقوله بوجين يونسكو، لكن موت الملك يتحول إلى لعبة الجميع، يتحول إلى سخرية من الملك، الملك أول المتورطين فيها، ومن حوله لا يقلون عنه تورطاً. موت الملك ينقلب من فصل تراجيدي إلى كوميديا تتعرى فيها ملوكيته وتغدو كاريكاتوراً بحتا، فيما يرى فيها الجميع انحطاطاً وتردياً يبعثان على الضحك. لم يكن موت الملك في إخراج فؤاد نعيم لمسرحية يونسكو سوى دينامية الحياة نفسها. لقد عج المسرح بحركة الممثلين الذين سيطروا على الخشبة كلها. كانت الحركة تتسارع مع الوقت وتزداد حيوية. لم تكن منازعة الملك احتضاراً كئيباً يائساً بل كانت فورانا واحتداماً وجيشانا وحركة متفاقمة. لم يكن من حول الملك ينعونه بل كانوا يلعبون حوله ويتابعون لعبهم. لقد استحال الموت إلى لعبة، استحال إلى توتر للحياة ولهو بها. استحال من احتفال جنائزي إلى لعبة احتفالية وإلى سخرية ضاحكة من الموت وانتصار للحياة نفسها.
ليست أول مرة يلعب فيها المسرح اللبناني «الملك يموت» ليوجين يونسكو، لقد لعبها من أكثر من خمسين عاماً منير أبو دبس الذي كان عرضه لها، المنافي لنظرياته في المسرح، أحد أفضل أعماله. وأيا كان مكانها من أعماله فقد كانت تحفة مسرحية. مهما خرج أبو دبس من نظرياته في المسرح فقد حافظ على الطابع الاحتفالي والطقوسي لموت الملك. يمكننا أن نجد في إخراج فؤاد نعيم للمسرحية رؤية معارضة ونسخة مختلفة. هنا لا يبقى من الاحتفالي والطقوسي سوى حطام يتعرض للسخرية. هنا لا يبقى للموت أي رهبة وأي جلال وأي احترام، بل يتحول إلى كاريكاتور وإلى سقوط وإلى صدام يائس وإلى سخف. لقد أحسن فؤاد نعيم استعمال الخشبة والاكسسوارات لمصلحة عمل عارم بالحياة والذي جعله قصره، الذي لم يزد على الأربعين دقيقة، يبدو كأنه شعلة متوقدة استهلكت نفسها في حركة دائمة وفوران ظل مندلعاً إلى أن لفظ أنفاسه.

رشاد زعيتر وعصام أبو خالد يتقاسمان مسرحية «مأساتي» لكن الاثنين لا يظهران. ما يظهر هو دمية صنعها كريم دكروب. الدمية هي بين الجرو والإنسان ويديرها رشاد زعيتر المختفي خلفها وإن يكن أعطاها يده. الدمية تتكلم طوال الوقت وتنزلق أحياناً إلى تحت الطاولة وما تقوله تداعيات ساخرة تتناول أموراً خاصة: الشعر والعمل والانتحار بقدر ما تتناول رموزاً وطنية تبدأها بـ «بعلبك، الروشة» وتنهيها بالتبولة. كان التجاوب كاملاً من اللحظة الأولى. لم تفقد اللعبة مفاجأتها وبقيت في كل أحوالها قادرة على شد الجمهور الذي انغمس فيها واستسلم لها. كان التيار موصولاً بين الاثنين وما يصل إلى الجمهور يقابله فوراً بردود جعلته طرفاً في العرض. أداء رشاد زعيتر المتعدد الطبقات والمتعدد الأصوات كان آسراً ووحده سيطر على الجو واحتواه. لم يكن ذلك حنيناً للدمى وللطفولة فمن اللحظة الأولى نجحت المسرحية في أن تبدو جديدة. كانت الدمية، وليس بكلامها وحده، ولكن أيضاً بأدائها ولعبها دمية للكبار. كانت هكذا مفاجأة مسرحية ولعبة مختلفة. كانت عملاً بحرفة عالية ومهارات رفيعة وقدرة على إنشاء تحفة مسرحية. لقد كسبت الجمهور من اللحظة الأولى. وما تبع ذلك كان تكراراً وتأكيداً. الجدة لها دورها ولكن البراعة كانت في المستوى. لم تنزل المسرحية عن لحظتها الأولى وبقيت تبني بجدارة على بدايتها. لقد وجدت ما استطاعت أن تستثمره كل دقيقة وما تؤكد كل لحظة جدارته ومفاجأته. بالطبع كان للنص الساخر من الخطابات اللبنانية «وطنية أو غير وطنية» مفاجأته. يمكننا هنا أن نتكلم عن جرأة هي بحد ذاتها جديدة وصادمة. وبالتأكيد اختلط الوطني بالجنسي بغيرهما في هذا الهزل الذي كانت تسيّره دمية. لقد أمكن أن ينشأ احتفال سقطت فيه الحدود بين النظارة واللاعبين ودخل الجميع في العرض نفسه، كان للدمية قدرة على التوحيد والجمع بحيث غاب الجمهور وبدا أنه صار رديفاً للعمل وللعرض.

المصدر/ السفير

محمد سامي / مجلة الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *