المسرح يعيد إنتاج الكلمات واللغة بأجساد الممثلين

 

 

المسرح ليس نصا وإخراجا وتمثيلا وخشبة فقط، إنه أبعد من ذلك حيث هناك عناصر أخرى تعتبر من ركائز العمل المسرحي، مثل الإضاءة والموسيقى وغيرهما من الفنون. إن العرض المسرحي إذن تشكيلة من فنون مختلفة تبدأ من النص عبورا بالرؤية الإخراجية إلى أداء الممثل وسط السينوغرافيا المنجزة للعرض والإضاءة والموسيقى والأزياء، تتكامل كل هذه العناصر لتخلق لغة العرض المسرحي وإيقاعه الخاص، وهي لغة تتجاوز النص المكتوب، لغة ينحتها جسد الممثل في تواصله مع الجمهور، لغة جديدة وتتجدد في كل مرة.

العرض المسرحي الذي يُشاهد أو يُرى، مركب من عدة عناصر أو من عدة فنون، لكن هذا التركيب متناغم، بل إن توازنه ينهض على الانحلال، أي انحلال كل عنصر “فن” وذوبانه، ليشكل في النهاية مع بقية العناصر “الفنون” كلا واحدا، وإذ يتحول النص مثلا إلى العرض، فإنه يتخذ وظيفة وشكلا مختلفين، وعندما يقدم فإنه يغدو جزءا من كيان مادي ملموس، فالعرض يتعدى النص، معدلا أو مكيفا، أو طارحا أو مضيفا، والبحث عن المعنى “الخفي” للنص، قد يقع خارج الحوار.

ويمكن الحديث أيضا عن العناصر المكونة للعرض المسرحي كلغة أو لغات غير منطوقة، طالما أنها تملك دلالات يتلقاها المتفرج ويتمثلها ويتفاعل معها.

انطلاقا من هذه الرؤية قدم الباحث والناقد السوري الراحل نديم معلا في كتابه “لغة العرض المسرحي” قراءة متعمقة للعرض المسرحي، بعد تفكيكه إلى عناصره، وإضاءة ما قد يعتقده البعض هامشيا أو غير فعال من تلك العناصر.

الممثل واللغة المتجددة

الكتاب محاولة للوقوف على مكونات الصورة وإزاحة ما قد يبدو ملتبسا وغامضا، والتوكيد على ما هو بصري ومشهدي

يرى معلا في كتابه أن بعض من يكتبون عن المسرح يتجاهلون العرض، ويختزلون الفن المسرحي في النص، وفي أفضل الأحوال قد يلامسون هذا الجانب أو ذاك، ملامسة خارجية وعابرة، وكأن العرض لغز أو بعض لغز. ويستوى في ذلك بعض الدارسين، والذين لم يدرسوا أو يعاينوا المسرح من قريب أو بعيد. وإنتاج المعنى لا يمكن أن يتكفل به النص وحده ولا يمكن، بالقدر نفسه، إسقاط الفرجة أو الطاقة البصرية للعرض، وما فيها من إشارات، لا يستقيم المعنى من دونها، لمجرد جهل عناصر العرض وتجلياتها وخصائصها.

هكذا يشكل كتاب معلا، الصادر عن دار المدى، محاولة للوقوف على مكونات الصورة وإزاحة ما قد يبدو ملتبسا وغامضا، والتوكيد على ما هو بصري ومشهدي، من أجل قراءة متوازنة للعرض المسرحي.

يشير الباحث إلى أن العرض المسرحي يتخطى النص، يخرج عليه، في كثير من الأحيان، يصل إلى مساحات الصمت، التي تشكل من خلال الحركة والإيماءة والفضاء، ولهذا يصعب القول ببناء كلامي مطلق للنص، وهذا الأخير يتحول إلى جزء من تجربة جماعية، تضيع رؤيا الكاتب الفردية في تضاعيفها، ولا يمكن الحديث في وضع كهذا عن لغة تنفرد بدلالاتها، وتطغى على الأنساق الأخرى التي يتكون فيها العرض المسرحي.

ويتابع: الفن المسرحي، فن دلالي، ينهض على نظام تعددي، كأنه يخاطب المتلقي بأصوات متعددة، وهذه الأصوات المتعددة ليست متقابلة أو متنافرة، وإلا تحولت إلى ضجيج، وإنما متناغمة، ووفرة الدلالات تعني أن كل عرض مسرحي، كما يقول بارت، فعل دلالي شديد الكثافة يفوق نظام اللغة، الذي يتقوقع على رموزه، ويمشي على مسار أحادي أفقي. إن المسرح يعيد إنتاج الكلمة “اللغة” يثريها بالدلالات البصرية، ويحفزها إلى النأي عن التكرار “تكرار المعنى”، فالصورة تفسر ذاتها وقد تؤول ذاتها.

ويرى معلا أن المتصفح لتاريخ المسرح، يلاحظ أن التغيير طال كل مكوناته وعناصره كلها وأن الممثل، رغم ذلك، ظل القابض على جوهر الفن المسرحي، واحتفظ بالهيمنة والسطوة، بل كان قلب هذا التغيير، ويذهب السيميولوجيون إلى القول إنه، أي الممثل، يمكن بأفعاله أن يحل محل حوامل العلاقات، أو ناقل الخطاب المسرحي كله، فالنص المسرحي يمر من خلاله، ويمكن أن نعطف على ذلك ما قاله مايكل كوين “ثمة رابط بين الممثل والمتفرج بعيد عن الشخصية الدرامية”.

 ويستطيع المرء أن يسوق أمثلة تطبيقية كثيرة على هذا القول؛ فدريد لحام أو عادل إمام، يطبع الشخصية التي يجسدها بطابعه، وفي مثل هذه الحالة نجد أن المتفرج لا يبدو معنيا بالدور، قدر كونه معنيا بما يمثله النجم. النجم إذن علامة تفك شفيرة الدور من خلاله. وليس صحيحا أن الممثل مجرد وعاء يملأ بأفكار الكاتب المسرحي، صحيح أنه ناقل الخطاب المسرحي إلا أنه ليس أداة نقل صماء.

ويوضح أن الممثل يعيد إنتاج ما ينقله، يتحسسه، يشعر به بل يفكر فيه، وقد يصل إلى مرحلة التأمل كما يفعل الممثلون المبدعون ويكفي أن نشير إلى أن نص العرض “نص الممثل” يختلف عن النص الأدبي، نص الكاتب.

ثمة كتابة يمارسها على خشبة المسرح تختلف عن كتابة النص، ومن الغبن أن يلغي أحدهما الآخر، فكلاهما لا يقوى على الوقوف وحيدا، لا بد للمخرج من أن يعود إلى نص الكاتب، ولذلك لا يستطيع إلغاءه، والنص المكتوب، نص الكاتب، لا يفصح أو يكشف عن جانبه الفرعي أو قسمه البصري، إلا من خلال التجسيد “العرض” واندماج النصين وتولد دلالات ثرية، من هذا الاندماج، إنما يتم بوساطة الممثل، وهكذا يكون نواة تقاطع أنساق العلامات أو الإشارات المختلفة التي يحفل بها العرض المسرحي.

وإذا عاينا نصا واحدا وعلاقته بأكثر من ممثل، فاللافت أن الكلمات تختلف باختلاف قائليها: النبرة، النغمة، طبيعة الصوت، التشديد على حرف أو كلمة معينة، لإعطاء دلالة أو معنى محدد، هاملت الروسي سمكتونوفسكي، غير هاملت الإنجليزي أولييفيه، القراءة مختلفة، المدخل إلى فهم الشخصية مختلف.. لعل إبقاء المتفرج مشدودا إلى كرسيه مسألة فنية قبل كل شيء والممثل مهما تتعدد الوسائل التعبيرية، هو من يشكل هذه المسألة الفنية، فإذا كان النص مفككا ضعيفا، أو أن الشخصية الرئيسية مسطحة وبناؤها غير مقنع لهشاشته وتلفيقه، فإن بوسع الممثل الموهوب أن يفعل شيئا في بعض الأحيان.

السينوغراف صانع المكان

 

جسد الممثل هو القابض على جوهر الفن المسرحي
جسد الممثل هو القابض على جوهر الفن المسرحي

يلفت معلا إلى أن السينوغرافيا هي التجلي المادي للصورة المسرحية. وفيها يتداخل الفن بالتقنية، والعلاقة بين المخرج والسينوغراف يمكن أن تكون ملتبسة، كما هي العلاقة بين الأول والممثل، وإن بدت هذه العلاقة أقل توترا من تلك التي وسمت العلاقة بين الأول المخرج والممثل، باعتبار أن إبداع المكان الذي قد يضع الكاتب لبناته الأولى، عبر الإشارات المسرحية بتكيف مع حركة الممثل.

 وبصرف النظر عن المفاضلة أو غيرها، التي تقلل من شأن الإرادة الإبداعية الواحدة، وهي هنا خلق عمل موحد لا فجوات فيه، فإن إنتاج العلاقات المكانية وتأطير مساحات الأداء والحذق في تعيين دلالات الأزياء واستخدام الإضاءة، كأداة للكشف، كل ذلك بنضوي تحت لواء السينوغرافيا.

ثمة من يتحدث عن دور منافس للمخرج، عن سينوغراف بات يتحكم بمناطق لم تكن له علاقة مباشرة بها، بيد أن السينوغراف ليس مخرجا في كل الأحوال، أي أنه جزء من الرؤية، وليس الرؤية كلها، إنه المعنى باتساق الرؤية الإخراجية، أو بعبارة أخرى ليس له أن يتخطى الوحدة الفنية، وهو يعبر عن رأيه بصورة مستقلة، الجدل مع المخرج هدفه إثراء الخطة العامة وليس تقويضها.

لكل منهما إذن موقعه كما أن الممثل يجادل المخرج، بحثا عن صورة أفضل للعرض، لا تغيب أناه الإبداعية أو تغيّب عنها، فإن السينوغراف يملك الحق ذاته. السينوغراف لا يقف في الجهة الأخرى، مقابلا للمخرج، وإنما يصطف إلى جانبه وأمامهما الممثل وبقية الفريق كله، هدف واحد: العمل الفني.

الإيقاع المسرحي

يشير معلا إلى أن كثيرا من المخرجين تأثروا بلغة الجسد حتى قبل أن يصبح صوت السياسة خفيضا، في العقد الأخير من القرن الماضي، وكلنا يعرف كيف امتطت المسرح العربي في الستينات والسبعينات موجة اللغة، الخطاب واللغة ـ الوسيلة، ورغم ذلك فإن المخرج السوري مانويل جيجي كان يبحث في النص عن الحركة، عن اللغة ـ الإيماءة، مؤمنا أنه لا جدوى من توازي الكلمة الإيماءة في الوضع الواحد أو الموقف الواحد.، لأن مثل هذا التوازي كتفسير الماء بعد الجهد بالماء.

 كذلك فعل فواز الساجر في آخر عروضه المسرحية، وقبيل رحيله “سكان الكهف” فلم يجد أبلغ من لغة الجسد في بعض المشاهد، حين تتشابك الأيدي وتلتحم الأجساد في حركة دائرية، لإنتاج دلالة الهم الواحد، والجمعية في أنصع تجلياتها.

أما المخرج السوري الذي يعيش في باريس وليد القوتلي فقد أطلق على عرضه الأخير في دمشق عنوان “بلا كلام” وقبل ذلك بسنوات كان رياض عصمت قد أسس في دمشق مركز الإيماء وقدم عروضا إيمائية متواضعة.

ولم يجد جواد الأسدي وهو المغرم باللغة وبالصورة الشعرية، بدأ من الانفتاح على لغة الجسد، وكأنه أراد أن ينقل مركز التماهي باللغة من المفردة اللغوية إلى الإيماءة الجسدية، وبدا سعدالله ونوس في الطرف الآخر، أي ككاتب مسرحي، شغوفا بهذه اللغة وإن كان موضوع الجسد هو الذي شغفه، ولنقل بتحديد أكثر: موضوع الجسد ـ السجن. لكن الجسد هنا في هذا السياق ينتج دلالات تشكل أنساقا تمكن القارئ والمتفرج من قراءة الأفعال والحركة الإنسانية، كمنظومة لغوية تظهر الانفعالات الداخلية. في مسرحية “طقوس الإشارات والتحولات” “ينبئ الجسد ـ المظهر عن المخبر ـ جسد ألماسة ـ يتكلم، يتدفق، يتماوج، يضحك، يشهق، بهز الجدران”.

 

نديم معلا: لغة الجسد تحديث للمسرح العربي يمليه منطق التطور
نديم معلا: لغة الجسد تحديث للمسرح العربي يمليه منطق التطور

 

ويؤكد الباحث أن أهم ما أنجزته لغة الجسد عربيا، هو أنها خلخلت الإنشاء والهذر اللغويين، وعمقت المشهدية، بل لعلها قاربت مفهوم المسرح، أي ذلك الذي ينعتق من هيمنة الكلمة البليغة، ويتقدم نحو لغته الخاصة به. ربما تكون لغة الجسد ورياحها التي تهب من الجهات كلها تحديثا للمسرح العربي تمليه الضرورة الجمالية ومنطق التطور.

يضيف معلا بشأن الأزياء في العرض المسرحي أنه في كثير من العروض المسرحية العربية، ليس للملابس إلا وظيفة واحدة: استعمالية، بمعنى أنها تستر العري، ولعل تجاهل درامية الملابس وجمالياتها يعزى إلى التسليم بدور الكلمة وإطلاق النص إلى أقصى مداه، فما ينبغي أن يرى، يقال، البنية السمعية، لا تعبأ بالدلالات البصرية، البحث في العرض المسرحي، عن إنتاج المعنى، لا يقرب سوى الكلام.

وهكذا نستطيع القول إن ظاهرة الملابس المتشابهة في العروض المسرحية، أو معظمها على الأقل، مردها النظر إلى الكلمة، باعتبارها قادرة على الأدوار كلها. إن وظيفة الملابس معرفية جمالية، ولكنها ليست منفصلة عن معرفيتها، لأنها جزء من نسيج شامل هو العرض المسرحي، فلا تقصد لذاتها، وإنما لما تمثله من دلالات تتقاطع مع دلالات أخرى لعناصر العرض، لتشكل في النهاية ذلك التكامل الذي يصوغ المعنى.

ويرى أن العرض المسرحي في إيقاعه، قد يكرر النص أو يعيد إنتاجه، أو قد يخلق رؤية خاصة، بصرية لها إيقاعها، كل ذلك يتوقف على علاقة المخرج بالنص. وفي الأحوال العادية، أي عندما يكون للنص حضوره التقليدي، يستنبط الإيقاع منه، لاسيما ما يسمى بالإيقاع الداخلي للشخصية الدرامية، الذي يعبر تعبيرا دقيقا عن الوسط الذي تتحرك فيه هذه الشخصية، أي عن الواقع المعبر عنه، ومدى صدقية التعبير ومعقوليته.

إن أهمية الإيقاع تكمن في انعكاسه على صنوه الخارجي، والإيقاع المسرحي الداخلي يحدد الحقيقة النفسية العميقة، رغم ما يقال عن نسبية هذه الحقيقة. كما أن سلطة الإيقاع لا تميز بين عرض يتوسل الجسد لغة، تزيح الكلام، وآخر لا يجد سوى هذا الأخير متكأ، وفي المسرح الراديكالي كما في التقليدي، الحاجة ماسة إلى الإيقاع ولقد أدرك صاحب المسرح الملحمي برتولد برشت أهمية الغناء في مسرحه، بل جعله عنصرا أساسيا من عناصر التغريب، ومعروف أن الصوت يفعل في عملية الغناء لغة وإيقاعا ونغما.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش