المسرح وسؤال الهوامش: مقاربة حرّة في “عنبر رقم 6”  لسموءل سخيّة حاتم التليلي

المسرح وسؤال الهوامش: مقاربة حرّة في “عنبر رقم 6”  لسموءل سخيّة

حاتم التليلي

  • تأصيل أسئلة الفاتحة

منذ أن حدّق السّوري بالخراب المحيط به، وهو يهاجر خارج حدود الوطن، كفّ عن كونه مواطنا يلعب دور الضحية، إذ تأكد له بعد عبور خرائط العالم أن بوسعه محاكمة هذا العالم نفسه، ذلك أن يعكّر صفو قبحه ويجد له المكانة التي تجعل من الآخرين ينبهرون بقدرته المدهشة على تقويض العجز، أو ربّما يقدم إلى الإنسانية ما لم يستطع غيره أن يفعل. إنّ هجرته تلك علّمته أن يكون عقلا حرا، عصيّا على الأنظمة، لا لاجئ يبحث عن مأوى، بينما لا يمتلك في هذا كلّه غير كبرياء عجزت عن إسقاطه الآلام والغوائل، وفي المقابل؛ هو الآن يكتسح عديد الميادين رغم علمه مسبّقا أنّ تجربته ستظلّ هامشيّة، ولكن ما الحاجة إلى المركز إذا كان عنوانا للخراب؟ أليس الهامشيّ أقرب إلى الحقيقة التي يراد طمسها من قبل ذلك المركز؟ لقد تمّ كنس القيم وشطبها من الوجود فتحوّل الجليل إلى بضاعة محض، وصار للمبتذل أن يغزو العالم، ما يعني لو نحن نشغّل الأسئلة المستحيلة لاستطعنا محاكمة هذا وربّما الزجّ به في متاحف الجريمة، إذ لم يعد ثمّة شكّ في أنّ المهمّش ليس مهمّشا بقدر ما تمّ وصفه كذلك وفقا لمعايير السائد من شطب القيم الانسانيّة. وحتّى أنّ التجربة بوصفها إقامة في ذلك الهامشيّ لا هدف يحرّكها غير انارة العتمة فإنّها تظلّ معبّرة عن جوهرنا الانسانيّ في أزمنة الفراغ الأنطولوجي.

أحد هؤلاء السوريين، “السينمائي سموءل سخية” القاطن في تونس، قدّم لنا عرضا مسرحيّا تحت عنوان “عنبر رقم 6” مستندا إلى الكاتب الرّوسي والعالمي “تشيخوف”، ورغم كون الساحة المسرحيّة تفتقر منذ فترة طويلة نسبيّا إلى عروض مسرحيّة جادّة ومتعطّشة بشكل موغل إلى عمل فنّي يغسل آثام تلك الأعمال التجاريّة، إلا أنّه بالكاد تمّ الانتباه إليه، أو حتّى الحضور لمتابعة عرضه. ولا نبتئس: فلقد تحالفت جميع الظروف السيّئة ضدّ هذا العرض التي وجد اشتغاله أثناء التمارين المسرحية والعرض في دهليز لا يمكن أن يشبه إلا مخابر التعذيب، وهو دهليز مكانه أسفل مبيت جامعيّ معدّ للطالبات في العاصمة التونسية بنهج مدريد، وإضافة إلى ذلك فإنّ السياسة الانتاجية التي اتبّعها مدير ذلك المبيت كانت محفوفة بغير قليل من السلوك الأمنيّ، على الرغم من أنّ ممثّلات العرض معظمهنّ طالبات يعشن هناك. وحتّى أنّ التجربة لم تمت وخرجت إلى النّور، لم يحدث أن تمّ تسليط الضوء عليها أو حتّى محاولة الانتباه إليها، وهذا سلوك طبيعيّ يتخذه “المركز” بتهميش التجارب الجادّة ومراكمة المبتذل، لأنّ المهمّش قد يحدث الفارق لو يخرج إلى الضوء. ولكن الهامشي، في أحيان كثيرة، يتوفّر على طاقة هائلة من أجل الصمود، وهذا ما حدث فعلا بعد أن عمد “سموءل سخيّة” إلى تصوير عرضه المسرحيّ والعمل على اخراجه في فيلم سينمائيّ، وبمجرّد النجاح في ذلك سيكون من الحتميّ، في ضوء عصر التقنيّة والوسائط الافتراضية، أن يكسر هذا العمل العزلة التي طوّقته.

أن نقرأ كبنيويين “عنبر رقم 6” لـ”سموءل سخيّة”، فهذا عنوان الجريمة ذاتها، إذ نهمل بهذا الشكل حجم الحيف الذي تعرّض له هذا المخرج وفريق العمل، كما إنّنا ننصّب أنفسنا نقّادا فنشطب الرّؤيا فينا وبالتالي لا نكمّل العرض بقدر ما نصطاده كطريدة ونضعه على طاولة التشريح بغاية تجزئته أو تفكيكه، بل والأمرّ من ذلك تجريده من رهاناته الانسانية وأبعاده ومنظوراته التي تسعى إلى تمعين وجودنا المرقّع بالخيبات والألم. أجل، ستتأكّد طيلة ثلاث ساعات متتالية، وأنت تشاهد مسرحيّة “عنبر رقم 6” ، أنّه من الحيف أن تظلّ ملتصقا بتلك الصفة التي تلاحقك، فبدل أن تكون ناقدا صار من الأجمل أن تكون رؤيويا، لأنّ الأساس الدراماتورجيّ لهذا العمل كان محفوفا بغير التأمل والرؤيا، فلم يستنسخ “تشيخوف” بقدر ما أعاد تشغيله، ولم يتهافت على روايته بقدر ما ذهب الى استنطاقها وإعادة نحت دلالاتها، وعليه أنت مدعو إلى شطب صفة الناقد عنك، وإلى  أن تكون رؤيويا لتبحث عن تلك اللحظات الزئبقية التي كوّنت ونحتت المجالات الدراماتورجية للعمل برمّته.

  • الكارثيّ: منطلقات تشغيل تشيخوف

أنت مشغول بترجمة شغفك إلى الفعل المسرحيّ يا صاحبي، ولكنّك تدرك أنّ الأفضيّة والقاعات والهيئات والهياكل المسرحيّة والفنّية ليست في متناولك، وإن أنت إقتربت منها أو طلبت الاشتغال في مداراتها فسيكلّفك ذلك أكثر من تنازل، أو ربّما يتمّ استثمارك ثمّ رميك خارجها، أنت فعلا تدرك أنّ المدن التي أنهكتها جراثيم التجّار لا تستقبل نبيّا مثلك. سيغضبهم طبعا أن نلصق تهمة النبوّة بك، ولكن أحدا لن ينتبه إلى أنّ صفة كهذه لا تجد اشتغالها في الحيّز الميتافيزيقيّ، إنّما هي وليدة الرّؤيا الجبرانيّة، حيث لا ثمّة غير الهوس والسؤال عن المغزى من الغريب في العالم.

قي النهاية، أنت تجد نفسك الآن خارج تلك المعادلة، فالفضاء الوحيد المتاح لك هو دهليز ينقسم تباعا إلى ممرّات مظلمة وينتهي في آخره إلى قاعة ظلماء، وليس ثمّة هناك غير الغبار والأوساخ والبكتيريا وقصور العناكب وفئران المجاري وبعض طاولات وكراسي مكسورة، وعليك معيّة جملة من الطالبات أن تفصح عن تجربتك، وأن تظلّ هناك طيلة فترة التمارين المسرحيّة مثل وحش برّي يخبر العدم بعدميّة ذلك الفضاء.

أنت أيضا مشغول بتشغيل الكارثة الانسانية فنّيا يا صاحبي، إذ ما الجدوى من عمل مسرحيّ لا يجد تخومه في تخومه الرّاهن الانسانيّ الحالي، حيث رقش الرؤوس وبيارق الله وتهميش الجليل وخيام الرّعب والأصوليات، وما الجدوى من عمل مسرحيّ لا يقول ذات المبدع وهواجسها ولا يكمّل جراحاتها ويرفعها إلى مقارعة المستحيل؟

أنت في كلّ هذا تجد في “تشيخوف” بدرجة أولى وفي “عنبر رقم 6” بدرجة ثانية طريدة مشتهاة لترضي الوحش الجائع في قلبك، ثمّ إنّك بشكل أو بآخر لا يرضيك اجتراره أو تقليده، إنّما أنت تحاوره، أو لنقل إنّك تسائل وجودك وألم عصرك بمساءلة ما تبقّى منه: أنت بهذا الشكل تعيد استنطاق “تشيخوف” وتبذّر المعنى في قلوب ممثّليك الذين كرّسوا جهودهم إلى ذلك، فما حرّكهم غير الصدق خارج نزعات البغيض من السائد عند الممثلين المحترفين، إذ لا محرّك غير الدخول في كهوف التجربة من باب المغامرة والارادة.

  • الاقامة في تخوم تشيخوف: حدود المؤتلف/المختلف

للوهلة الأولى وأنت تشاهد العرض، سيخيّل إليك أن فضاء اللعب قاعة صغيرة محض، ولكن سرعان ما ستتأكّد أنّ ذلك مجرّد وهم خالص، إذ ستقودك الممثّلات إلى قاعة ثانية ومن ثمّة تتشابك أصابعهنّ بأطراف يدك لتجد نفسك تعبر ممرّا ضيّقا فيما بعد يوصلك معهنّ إلى قاعة أكثر اتّساعا حيث تتسلّم مقعدك بينما ستتفطّن تدريجيّا إلى أن تلك القاعة قسّمت إلى أكثر من فضاء حيث ثمّة غرفة للنوم وأخرى خاصّة بالحارس وثالثة بإدارة المشفى، وفي ذلك كلّه تجري أحداث العرض الذي تؤديه إحدى عشر ممثّلة.

يضعك هذا الفضاء برمّته في “عنبر رقم 6″، وكأنّه مخصّص سلفا لذلك، إذ لا شيء يوحي لك به غير الموت والاختناق والعتمة والقلق والضجر وربّما الرّعب أو الخوف، حتّى أنّه يجعل منك عبارة عن خردة ملقاة هناك أو إحدى قطع الديكور المتناثرة بشكل مهمل، ما يشطب استقلاليتك عن العرض، أو أنت واحد من المرضى الذين تحدّث عنهم “تشيخوف”، ثمّ إنّ جميع ما حولك لا يوحي بغير الفوضى والاهمال، ففي الأعلى صليب تحيط به أنسجة العنكبوت، وفي الأسفل حشرات تمط أرجلها النحيلة، وعلى يمينك غرفة وأسرّة أشبه بأسرّة المساجين، بينما على يسارك مكتب رتّبت فيه كتب اللاهوت وأدوية وطاولة كسيحة، أمّا في الوسط فثمّة مختلف وسائل التعذيب المعدّة لتعذيب المرضى.

في المقابل، شطب “سموءل سخيّة” جنس الشخصيات كما غيّر في تسمياتها لكنّه لم يشطب أبعادها، فليس ثمّة في العرض ولا ممثّل واحد كالذي نعثر عليه ونحن نطالع “عنبر رقم 6” لتشيخوف، مثل الحارس “نيكيتا” أو الطبيب “أندريه راجيه” الذي حمل في العرض اسم “روجينا” أو “ايفان” وقد حمل اسم “ايفانا، إذ تمّ تجسيدها من قبل ممثّلات، بينما شهد النصّ أيضا تغييرات عديدة ، سواء كان ذلك من خلال التسجيلات الصوتية أو الملفوظ على ألسنة المؤدّيات. لم يكن هذا التغيير شكليّا كما سيبدو في نظر البعض، إذ بقدر ما كان ضروريّا هو لم يهدف إلى مسرحة نصّ “تشيخوف” بقدر ما أعاد استنطاقه في ضوء عمليّة مسرحيّة لها خصوصيتها وفرادتها هي الأخرى.

وجدت هذه العمليّة المسرحيّة اشتغالها ضن مسارين، الأوّل مسار جماليّ تحقّق من خلال زوايا مختلفة، منها حضور التقنيات السينمائية وأهمّها تقسيم فضاء اللعب، حيث كان بإمكاننا متابعة ثلاثة مشاهد في نفس اللحظة: ما يدور في مكتب الطبيبـ(ة) وغرفة الحارسـ(ة) وغرفة النوم التي تمّ زجّ المريضات فيها، إذ كثيرا ما كانت الأحداث تشتغل بالتوازي، مقوّضة بذلك الثالوث الأرسطيّ المحرّم بتفجيرها وحدة الزمان والمكان. ومنها أيضا توظيف “الخردة” كعامل رئيس في الديكور، والخيارات الموسيقية القائمة على الأصوات البشريّة، والانارة الخافتة. إضافة إلى ذلك، تمكنّت الممثّلات رغم عدم خبرتهنّ من تقمّص الأدوار  وكأنّهنّ عايشن محنة كلّ شخصيّة، سواء كان ذلك من حيث الحضور الجسدي طيلة ساعات ثلاث، أو من حيث الصدق كما قرأنا كثيرا مع “ستانسلافسكي”.

أمّا المسار الثاني، فقد تعلّق بالقضايا المطروحة التي حملها إلينا العرض، وهي تكاد تكون نفسها من “تشيخوف” إلى “سموءل سخيّة”، إذ وحّدها الألم الانساني بوصفه عنوان المشترك بين مجمل الثقافات وإن اختلفت الشروط السوسيوثقافية من حضارة إلى أخرى، فكهنة الأمس المسيحيين الذي لم يتورّعوا في زراعة الجهل والدجل والخرافة هم نفسهم اليوم الذين نراهم نحن في ثوب اسلاميّ يحاكمون العلم والأطباء والمثقفين، وفساد أجهزة الأمس الذين صبّ “تشيخوف” جام غضبه عليهم هم الذين يستوطنون أوطاننا الآن بشكل سافر ووقح، وأوضاع مستشفيات الأمس والثكنات بما تحمله من جرائم انسانية هي نفسها أيضا تشتغل اليوم. ولكنّ المختلف بين “تشيخوف” وما نراه في هذا العرض هو كيفيّة طرح هذه القضايا بما يجعلها تغادر صالوناتها القديمة وتتبلور أمامنا بوصفها أيضا عنوان مأساتنا الحاليّة، فأن يعذّب الحارس “نيكيتا” الممرضين ويجلد نفسه كما قرأنا في “عنبر رقم 6″، نشاهده الآن أيضا جلاد لضحاياه ولنفسه، ويتراءى لنا كما لو أنّه أحد “الشيعيين” في مشهد كربلائيّ إذ لا رضاء له عن نفسه ولا عن أعداءه: هو الضحيّة التي تتلذّذ بانفصامها وساديتها في آن اللحظة، وحتّى أنّنا نستغرق معه في مشهد الجلد سرعان ما يتراءى لنا مشهد الصليب عن طريق الاضاءة من فوق، وهنا فقط ننتبه إلى “المشترك” الانسانيّ، فكما يكون المرء المسيحيّ في جانب منه ضحيّة يكون أيضا هذا الشيعيّ، ولكنّه ضحيّة بائسة مثله مثل قربان، وأن نتساءل عن هذا المشترك فسنتأكّد بشكل مباشر أو غير مباشر من العمق الفكري والإيديولوجي والفلسفي الذي صاحب نص “تشيخوف” وألقى بأثقاله علينا من خلال هذا العرض: لقد حدث وأصبح انسان اليوم في مختلف أصقاع الأرض عرضة للجنون والعدميّة بعد أن تمّ خصي جانبه الانسانيّ.

  • خاتمة انفلات الهامشيّ: الهجرة إلى السينما

لم يكتف “سموءل سخيّة” بتلك العروض القليلة لـ”عنبر رقم 6″، وإنّما عمد مؤخّرا إلى نقل هذه التجربة سينمائيّا، ونشرها في الأوساط الافتراضية وشبكات التواصل الاجتماعي، محقّقا بذلك غايتين مهمّتين، الأولى تحيلنا إلى منظور فنّي يقول بزوال الأجناسية حيث تتشابك جل الفنون ويتناسج بعضها ببعض، فيتداخل المسرحيّ بالسينمائيّ ما يحيلنا بالضرورة إلى القول بأنّه ثمّة مسلك جماليّ عنوانه جماليّة التحويل، حيث نخرج من حريم “المثاقفة” ومغالطتها إلى ثقافة تناصيّة وانتشاريّة وأمميّة ومتعدّدة الفروع. أمّا الثانية فتحيلنا إلى أنّ هذه التجربة صار يمكنها الخروج إلى الضوء والوصول إلى أكثر من مشاهد متفرّج كما صار بوسعها أن تكسر الحصار اللامرئيّ الذي فرض حولها، ما يحيل إلى انتصار الهامشيّ رغم سلطويّة المركز.

تلك هي تجربة “سموءل سخيّة”، متوفّرة على مساحات كثيفة ومفتوحة على أكثر من قراءة، نعتقد أنّنا لم نعطها حقّها كما يجب في هذه الأسطر القليلة، إذ راهنت على الجليل من الفنّ خارج ما نعيشه من ابتذال تجاريّ صار يقدّم نفسه كونه الفنّ ذاته، ولا عجب في أن تهمّش تجربة من هذا القبيل، ولكن شكرا للسينما: كاسرة المركز وعابرة لخرائطه، وشكرا للهامشيّ الذي صار يغرينا أكثر.

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *