المسرح وتكفير التفكير..متى عرف الطغيان الحياة؟ قراءة في أوجه التكفير المتأججة/ أ‌.زهراء المنصور – البحرين

الكفر في سياق آخر

يرتبط مصطلح الكفر في الغالب بوقتنا الحالي تحديداً بمن يتراجع عن الدين الاسلامي، وتحديداً من الفرد الذي يكون غالباً مولوداً به, وليس مسلماً “مستجداً” أو أنه اختار الإسلام بديلاً عن دينه الأصلي. وقد يكون هذا الارتباط مبنياً على فتاوى واجتهادات التكفير التي طالت أشخاصاً معينين بسبب إعلان موقفهم من جزئية قد تتعارض مع آخرين يرتأون في أنفسهم وكلاء الدين الحقيقيين والغيورين عليه, فيحق لهم إلحاق تهم كبيرة بأضدادهم. وبينما تأخذ هذه التهمة تدرجات عدة في الدين – كما ينبغي لها – وكما يرى العلماء في منطق هذه الأمور عادة, فالكفر درجات. فهناك “كفر دون كفر”، أي بما يفسر بأنه كفر دون الخروج من الملة, وتكفير الفعل دون تكفير الفاعل, وأيضاً الضوابط التي على أساسها يقوم فعل التكفير، حيث إن له تبعاته. وفي الوقت الذي يحسم القرآن فيه “الكفر” عبر ذكره في سباقات مختلفة (كفر/كافرون/كفرة…)، يلتبس على البعض تعدد الدلالة، فيصير المعنى مغايراً – ربما – لما هو مقصود بالفعل في كتاب الله. فحسب معجم المعاني (1): كَفَرَ الرَّجُلُ: لم يؤمن بالوحدانيّة، أَو النبوَّة، أَو الشريعة، أَو بثلاثتها. ففي التنزيل العزيز (الممتحنة آية 10) (وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ). وكَفَرَ بهذا: تبرَّأَ منه وكَفَرَ الشيءَ. ولن نستفيض في شرح المصطلح المفهوم سلفاً, لكننا نريد تثبيت أن التكفير مصطلح معنيٌّ بالتبرأ/ الإقصاء/ إنكار الآخر, للخوض في غمار تكفير مغاير عن المفهوم العام له.

 

وطوِّع مصطلح التكفير لإقصاء الآخر تحت مظلة الإسلام, وحيث طبق هذا المعنى في فترة مبكرة منه, استمر مع تغير الزمان وثبات الدين الإسلامي في المنطقة. فكان هذا الإبعاد /الإقصاء لصالح الحكم, لذا كانت الفتوى حاضرة في خدمة رجل الدولة للتخلص من أعدائه ومعارضيه(2).  ولأنه الدين الذي يؤمن المسلمون فيه أن الدنيا مرحلة مؤقتة تحضيراً للآخرة, وكل عمل في الدنيا هو في صالح الحسنات/ السيئات التي يجازى بها بالجنة أو بالنار حسب أعماله, سيكون من الطبيعي أن يحظى القائمون على هذا الدين ممن يفترض أن يصلوا باجتهادهم ودراستهم إلى مكانة دينية كبيرة تسمح لهم بتسيير أمور العامة. وهذه عملية متجددة في كل الأديان؛ أن يقود الموجِّه الديني بطريقة عقلانية، باطنها عاطفي، إلى قتل التفكير واعتماده هو ومن بمكانته بمثابة العقل المفكر في المرجعيات والثوابت التي من الممكن أن يقررها أي عقل بشري خلقه الله، بدون الاتكال عليهم أو على غيرهم. فإن كانوا حقيقيين، فلن يقبلوا على ما يخالف مبادئ الدين ومنهجيته في العيش مع الآخرين بسلام في خلافهم الديني/ المذهبي/ الاجتماعي أو غيره, أما إذا كانوا تحت إمرة سلاطينهم وطوع توجيهاتهم، فلن يتوانى الفرد منهم عن تفصيل الفتوى بمقاس ولي أمره بحجة طاعة “ولي الأمر”.

 

ولو استطعنا حصر بعض أشكال التكفير ورفض الآخر في مجتمعنا, فلا بد أن يوصلنا هذا إلى سبب/ أسباب تكفير البعض حداً يتخطى المألوف من الدين, إلى الأعراف المجتمعية مثلاً المتعلقة بقناعات راسخة عمرها عشرات السنين وربما أكثر. في قضية اللون المختلف أو المذهب المغاير, أو غيرها عند غلاة التكفير، وهم من وجهة نظري الشخصية ينقسمون إلى نوعين: نوع نشأ وترعرع على هذه المفاهيم وآمن بشدة بما تلقنه من علوم ومفاهيم أسرية/ مجتمعية أنها الثوابت التي تحكم الكون ولا يمكن أن تتغير، خاصة إذا كانت في صالح وضعه الاجتماعي. أما النوع الآخر فهم من فئة الدينيين الذين أخذوا على عاتقهم استخدام الدين كذريعة لمآرب شخصية على مقاسات مختلفة تحتمل المواقف المتغيرة, ويمكن أن ينتمي هؤلاء- بحسب درجتهم الدينية و”المرونة” في تكييف الشرع لصالح ولي الأمر – كما أطلق عليهم علي الوردي في وقت سابق طويل مضى “وعاظ السلاطين”، وكأنه يستشرف المستقبل بما سيتفاقم عليه الوضع، كما هو الآن.

ولأن الفئتين تلحان على وتر الطاعة العمياء والتنفيذ بأمر الدين, فالكل ينفذ حسب مرجعيته الدينية للولي أو الشيخ, وما عدا ذلك سيكون مخالفاً وربما مرتداً، وربما تلصق به صفة “العلمانية” بوصفها مصطلحاً مرادفاً للكفر!!

ولا يخفى على أحد التفسيرات المختلفة للقرآن الكريم، والتي قد تتباعد بشكل كبير بين الطرفين, بشكل يوحي أن هناك أكثر من كتاب مقدس للمسلمين, وسبب ذلك: التأويلات التي تجر المعنى لصالح أحدهما, فيستند عليه ويؤيده تعزيزاً لمكانته الاجتماعية/ الدينية التي يبني عليها أكثر من منفعة عابرة، وهو ما يسمى عند البعض باجتزاء النصوص الظاهرية. وهذا نجده في موقف الشيخ سعيد الغبرا من الفن بشكل عام والمسرح بشكل خاص, فقد ذهب لإسطنبول من أجل تحريض السلطة الدينية المتمثلة بالسلطان عبدالحميد مناهضا تجربة القباني (1833-1903), وذهب بنفسه إلى السلطان لإيقاف ما وصفه بـ”الفسق والفجور”، فــ”هتكت الأعراض وماتت الفضيلة ووئد الشرف واختلط النساء بالرجال” (3). وأدى تحريضه هذا إلى حرق مسرح القباني ومغادرة الأخير من دمشق إلى مصر. وليس الغبرا إلا نموذجاً للعقلية الدينية الرجعية التي تقيس بمعيارها وتعمم. فيما يرى سعد الله ونوس أسباب هذه الحملة على القباني هو ظهور شخصية هارون الرشيد على المسرح, وهذا مدعاة للتفكير في إجهاض فكرة ثورة التغيير الاجتماعي آنذاك. (4). وهاهو الغبرا يأخذ أشكالاً مختلفة منذ ذاك الحين وحتى وقتنا هذا.

 

فإن كان كتاب الله مختلفاً تأويله في بعض الآيات التي يعتقدها أصحاب المذاهب سبباً مجدياً للخلاف “الجوهري”!! وسبباً وجيهاً للفرقة والقربة إلى الله بوصفهم “الفرقة” الناجية الموصوفة، فهم المصطفون من الله, وكل من لا يشبههم مقصيون/ مُبعدون, مما يصنع “هوية نرجسية استثنائية”، ومن شأن هذه الهوية المغلقة على ثوابتها ومحرماتها أن تقولب العقول لتصنع النموذج الأول للسلف الجامد بالمعنى السلبي, أي لا يتقبل التجديد المنطقي، لذلك خضعت أحكام عصرية لتغيير في القرار الذي حولته السلطة الدينية إلى قرار جمعي بمنطق التحريم, وسرعان ما تغير للعكس بفعل النظام الزمني والتغير الاجتماعي الكفيلين بتغيير الكثير من الفتاوى التي في مجملها محاربة وقلقة من الجديد القادم, ومحاولة لتضييق كل ما يمكن أن يفتح أفقاً أوسع للناس. فالتحريم الذي يجعل من الفتاوى وسيلة سهلة لإنهاء الجدال في موضوع ما, وإحكام السيطرة، يكشفه الزمن، ولنا في فتاوى تحريم: مدارس البنات/ كرةالقدم/ عباءة الكتف/ التصفيق!!/ مكبرات الصوت/ التصوير/ وليس انتهاء بتناول الطعام بالملعقة! (5)

 

 التكفير..الوجوه الأخرى

وبناء على ما تقدم من التعريف بمصطلحات الكفر والتكفير, لابد لنا من التعرف على المفاهيم الأخرى المترتبة على هذا منح اللقب، الذي يكاد أن يصبح “مجانياً” ومتاحاً لكل من لديه سلطة دينية، وربما غير ذلك, إطلاق هذه التهمة التي تحمل من التبعات ما لا يحتمل في بلادنا العربية. لذلك نرجع إلى الدين وتطبيقه كما ينبغي له, والتمسك بالأحكام التي قد تعني جوراً لآخرين يعيشون بنفس المجتمع ويخضعون لذات الأحكام التي تحكم المجتمع لسبب مقدر له لا خيار له فيه. فالمساواة لا تعني العدل دائماً, في الوقت الذي تدفع الأديان إلى مفهوم “الرضا” عن الرزق المرتبط بالنعم من الله/ الرب عز وجل, وضرورة الحمد والشكر لتدوم النعم، وتقديراً لنعم الله علينا.

لذلك فإن من الأمور الشائكة التي تثير الحيرة في الحياة الواقعية وعلى خشبة المسرح, التعرض للون الأسود المرتبط بالسلالات الزنجية، ومصدرها بعض مناطق القارة الأفريقية, على أساس أنه الطبقة الأقل المرتبطة بالعبيد والخدم والطبقة الوضيعة في المجتمع – كل مجتمع – فلا يرتبط هذا المفهوم عند العرب أو المسلمين، بل إنه يطال الغرب الذين تحرروا من الفوهة الضيقة بالنظر إليهم كملونين حتى 1862، كما أعلنها لينكولن وقتها. وعلى الرغم من القوانين التي تشرع الحق لكل مواطن بإنسانيته, تظل القوانين الشفهية- المجتمعية – هي الأقوى، وتستند غالباً على “جينات” التعامل مع أصحاب البشرة المختلفة, على تعامل من سبقوهم معهم. وقد تكون شخصية “عطيل” هي الأشهر أيقونياً عن صورة الأسود في المسرح, كالشجاعة والإقدام والبطولة، لكنها تذبل وتذوي لمجرد أنه من أصول مغربية وبشرته المختلفة، وهذا بحد ذاته سبب يكفي لازدرائه وإقصائه.

كذلك هي صورة الأسود في المسرح البحريني/ الخليجي التي تظهر فيها العبد الذي يسعى لنيل حريته في وقت الاستعمار، كما في مسرحية “مجاريح” من تأليف إسماعيل عبدالله واخراج ناصر عبدالرضا، ونرى فيها الممثل عبدالله سويد في حركة ملفتة توثق ليحصل على الصك الذي يحرره من واقعه, مع إقران ذلك بزمن المسرحية؛ بوقت الاستعمار وزمن الغوص واللؤلؤ. وفي سياق آخر، أظهرت رواية الكاتب البحريني الراحل خالد البسام (ثمن الملح) والمستمدة من وثائق التقارير الإنجليزية، التي عثر عليها في مكتب الهند بالمكتبة البريطانية في لندن، حول العبيد وأوضاعهم في الخليج. وكذلك كتاب “تجارة الرقيق في الشرق الأوسط” تأليف سين أوكلاغان, عن حياة “العبيد” في المجتمع البحريني, وعن طموحهم بالتحرر الذي يقود أو يؤكد نفس سياق عرض “مجاريح”, صك الاستعمار بالحرية, والذي يهدف قطعاً لمآرب أخرى تهدف إلى ترسيخ العرف والطبقية بحكم اللون في أبشع أشكالهما, دون أن يكون أكرمكم عند الله “أتقاهم” كما في القيم الإسلامية الأصيلة، ودون أن يكون البطل كما في “مجاريح” يمثل معاناة لونه, لا يحظى الممثلون ذوو البشرة السمراء/السوداء غالباً إلا بأدوار توظف لونهم لخلق كوميديا. أليس هذا تكفيراً للآخرين وجحدهم حقوقهم؟

وكما يعد اللون/ العبودية قالباً مغايراً عن الأغلبية المسيطرة، فحق لها أن تعامله بمغايرة أيضاً, يأتي الاختلاف/ الإنكار/ التكفير/ لأشخاص آخرين من نفس نسيج هذا المجتمع، وليس من الغرب الذين يطلق عليهم عامة الناس من الجهل والتصغير أنهم ببساطة “كفرة”! تأتي هذه الصفة للمختلفين في الدين/ المذهب, تأتي واضحة في الطبقة الاجتماعية التي أوردتها المجتمعات ذات الثراء البترولي، والتي حصدت مستواها الحالي بلا تدرج، وبشكل سريع، من النقيض للنقيض, مما عزز مفهوم الطبقية بشكله الفاحش غير المقبول لاعتبارات الثروة وما يليها من تبعات. أيضاً، من أشكال التكفير: القبليّة المتعصبة، كعادة العرب في الجاهلية في التفاخر المرعب بما فعله السلف وما ملكوه، وما تمتلكه الأجيال اللاحقة التي تتوارث التفاخر وحفظ الماضي، بلا فهم واعٍ لما اعتادوا أن يسمعوه ممن قبلهم. وهنا نسأل كيف اشتعلت فتنة التكفير؟

وفي الوقت الذي تصنف فيه أشكال التكفير السابقة تحت سقف عرف المجتمع وتقاليده, يشتغل هذه المصطلح بشكل واضح في التقسيم الديني والمذهبي تحديداً، الذي يجعل من تصنيف الهويات حسب الأسماء/ المناطق/ اللهجات أمراً محسوماً بمعنى الــ/مع والــ/ضد, ولكل ذريعته المبررة بالحرص على مظاهر الدين الإسلامي الذي تمثله طائفته بوصفها الطائفة “المختارة”، وفي المضمون أسباب أخرى غالباً ما تكون تأجيجاً سياسياً وتجييشاً دينياً يؤيده.. فكيف بدأ فتيل الفتنة؟

كل شيء لم يكن على ما يرام تماماً, وحتى لا ننطلق بصورة مثالية مبالغ فيها, كما في نشرات الأخبار الجامدة والتقارير المعلبة, كان هناك رفض/ إنكار للآخر (تكفير), لكنه قطعاً كان في تواقيت تاريخية معينة لها مقاصدها. فعلى سبيل المثال: تعرض اليهود البحرينيون إلى مضايقات أدت إلى رحيل أفراد منهم إلى خارج البلد, لأسباب متعددة مرتبطة بالهزيمة في 1967. وأيضاً في قضية الطائفية التي تثار منذ سنوات طويلة، والتي عمل الاستعمار على تأجيجها عملاً بسياسة (فرِّق تسُد)، والتي تستمد من مذكرات المستشار بلجريف بعضاً منها, وليشهد التاريخ على أن هؤلاء الناس لم يكن الخلاف المذهبي يوماً بينهم, فليسوا منزهين عن صفات إنسانية سلبية, لكن المناطق المشتركة تشهد أن الخلافات الشكلية التي حدثت كانت لأسباب بعيدة، لكن حشر “الاختلاف” ليكون ذريعة كافية لإذكاء الفتنة ليس إلا.

إنما كان التحول بالمنطقة في 1979، والمتعلق بالثورة الإسلامية الإيرانية، التي ألقت بظلالها على الشكل الديني لمتبعي المذهب الشيعي في الخليج, وهو ما جوبه بالتكثيف من الكفة الأخرى لمتبعي المذهب السني كنوع من التنافس لمن يمثل الدين منهما!!

وحول نماذج الاختلاف هذه, لم يعتبر المسرح البحريني/ الخليجي أنها قضية أو ظاهرة تستحق التصدر بمضمون عرض مسرحي، لذلك لم تأتِ مسرحيات تناقش المذهبية بشكل مباشر يشير إلى الجرح تماماً, إلا بعض العروض ما بعد أزمة 2011 كشكل من أشكال رأب الصدع, وإن لم تكن بالمستوى المطلوب من حيث المباشرة، وهو أمر لا يتناسب مع الفن والفن المسرحي تحديداً, لما يجب أن يقدمه من مضمون عالٍ ورسالة فنية مهمة في شكل فني ممتع.

ومن الأمور التي تحيلنا إليها القضايا المذهبية مسرحياً أيضاً, المسرح الحسيني/ الكربلائي الذي يقوم على مسرحة التعازي الحسينية, من بعد واقعة “الطف: والتي يقيمها المسلمون من الطائفة الشيعية في موسم شهري محرم وصفر من كل سنة, عبر المجالس التي تتم فيها قراءة الواقعة حسب الروايات والكتب, وهذا الشكل المستمر أدى إلى تفتق فكرة تجسيد الأحداث عبر الشكل المسرحي الحالي, مع الأخذ بالاعتبار أن العقلية الإسلامية حسمت موضوع الصراع وحرية التفكير بالشكل الذي عرف به المسرح الإغريقي (6), لذلك فإن الفكرة في أنه إن غاب الصراع فإن الدراما ستغيب تلقائياً, فلا دراما بلا صراع، الذي يعرفه الباحث شرجي “أنها قضية محسومة ربانياً في العقلية الإسلامية, هذه العقلية لم تستسغ فكرة الصراع, فقاد هذا إلى التخلي عن فكرة المسرح” (7). لذلك استمرت هذه الطائفة الشيعية بتقديم هذا الشكل الدرامي/ المسرحي لهذا الطقس الديني، مع مزج هذه العروض بما يتوافق عليه من مضامين سياسة أو اجتماعية, فتصنع منه شكلاً مذهبياً تراه الطائفة الأخرى متعارضاً مع مفهوم الأشياء لدى الطائفتين! كأن الكتاب المقدس لدى المسلمين قد نزل في نسختين لا تتشابهان ولن تتفقا! وكأن بالتاريخ المستمد من كتب تراثية واستقطاع النصوص التي تتكيف ومقاسات الطرفين ورواياتهم هي اليقين بذاته, دون التعرض لتحليل عقلاني أو التفكير فيما يوحد الكلمة، انتصاراً لما جبل عليه كل طرف بأنه الفرقة “المختارة”, كما يشير المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري أنه “ليس من طريق للتجديد إلا تمثل الفكر الإنساني قديمه وجديده، والاطلاع عليه بتعمق, مع دراسة مختلف تيارات التراث الإسلامي دراسة نقدية، وعدم الانحياز لتيار فيه ضد آخر. فلن يتم إحياء للتراث بتقطيع أوصاله وبتر أعضائه, فإما أن نحييه بحقيقته الكاملة القابلة للنقد, وإلا فدعوة إحياء التراث لن تحقق هدفها الحضاري..” (8). وما عدا هذا المنطق فلن نتقدم خطوة إلى الأمام ونحن نفضل بعضنا بالتمايز فيما لا فضل لنا فيه, ونستميت من أجل الدفاع عنه! وهنا نسأل: هل نحن طغاة؟ طائفيون؟ أم تكفيرون؟؟!!

 

متى عرف الطغيان الحياة؟

عندما نقارن الأسباب الشائكة غير المعلنة/ الشفهية الموجودة في الحياة اليومية, وقد يعالجها المسرح تعبيراً عن المقولة المألوفة، كونه “مرآة الواقع”، لو توفرت لهذا المسرح شروط العروض المستمرة والوعي لدى القائمين عليه, مما يجعل منه رسالة مهمة جداً, أمكن بها تغيير أي اعوجاج مجتمعي بطريقة يسيرة. فالمسرح للإنسانية لا يمكن بالصورة التي نأملها إلا حاملاً لقيم المحبة والسلام والجمال، ومعرياً لفكر الإرهاب والتطرف الذي طاله في المضمون سابقاً، من حيث اتهام القائمين عليه بـ”السفق والفجور وموت الفضيلة” كأن سلالة الشيخ الغبرا تتناسل فكريا وعقائديا, وإذا كان الغبرا ذهب إلى السلطات التركية مخاطبا, فهاهم أحفاده “المخلصين” يكملون مسيرته ويفجرون ففي 2015 مثلاً, تبنت الجهات الإرهابية عملاً إجرامياً بمسرح باتاكلان بفرنسا والذي أودى بحياة 129 شخصاً ومئات الجرحى أثناء إقامة حفل موسيقي. أيضاً استهدف المركز الثقافي اليمن, حيث أسفر التفجير الانتحاري عن سقوط 28 قتيلاً وأكثر من 60 جريحاً. وفي المسرح الوطني بمقديشو أسفر الانفجار عن مقتل عدد لم يؤكد أثناء مناسبة الاحتفال بالذكرى الأولى للتلفزيون الوطني الصومالي. وفي دولة قطر عام 2005، استهدف انتحاري المسرح التابع للمدرسة البريطانية وتسبب في مقتل بريطاني وإصابة مواطنين. أما في الجزائر، فقد أحبط الجيش محاولة تفجير مسرح عنابة قبل حفل موسيقي في 2015, ومثلها بمصر، حيث نجحت قوات الأمن في القبض على خلية إرهابية كانت تستهدف تفجير قاعة سيد درويش بمسرح البالون أثناء عرض مسرحي سياسي/كوميدي. وليست هذه إحصاءات دقيقة لندفع بلغة الأرقام الموثوقة/ الرصينة إلى المقدمة كي نستعرض دلائل ما, لكنها تصفح سريع/ دامٍ لا ينم إلا عن أفعال كارهي الحياة والإنسانية، وكيف يمكن لفرد/ لجماعات أن يكفر الآخر فيتجاسر ليحرم الحياة ممن يخالفه وهو من قبله لم يعش ولن يعيش، مهما صورت له أوهامه المريضة!!

وما سر هذا العداء للمسرح؟ هل يعي هؤلاء الإرهابيون قيمته وتأثيره على الناس, بشكل يستدعي تفجيرات وانتحاريين وتبني جهات متشددة, خوفاً من أن يبث هذا المنبر ما قد يمنح المتفرجين وعياً مختلفاً، وهم الذين جُبلوا على التفكير المقيد المرتبط بمراجعهم وأولي أمرهم لتقييد حركتهم أو تحديد خريطة سيرهم على أقصى تقدير؟ هل مناقشة الأمور التي تهم العامة بشكل نقدي/ عقلاني لا يقدر عليه كثير ممن يضعون الحلال والحرام بما يتوافق مع أهوائهم أو بما يوجّهون إليه؟ وهل من العدالة أن يقوم المسرحيون بالعرض الذي لابد من حمله قيماً إنسانية – غالباً – فيأتي من يسمع صدى صوته وصوت جماعته ولا يمكن أن يتحاور إلا بالتفجير من أجل ما يعتقد بيقين المجنون وحده أنه الحق؟! ومن يكفر من؟ الفكر أم التفكير أو لا هذا ولا ذاك, أو أنه مجتمع سلطوي مهد لكل ذلك من أجل فرض سلطته الأرضية بعصا إلهية؟

 

العروض المسرحية.. كل نقيض مخالف.. كل مخالف كافر.. وكل كافر….!

اشارت مسرحية “إكسكلوسف”، التي عرضت في مهرجان المسرح العربي 2015 من تأليف وإخراج العراقي حيدر منعثر, إلى نموذج الخطاب الأفقي, وبينت سيكولوجية الفرد الذي يتحول إلى متطرف وينضم إلى جماعات ارهابية ليفعل ما يظنه هؤلاء وعياً متقدماً وقربة إلى الله في قتل ممن لا يتوافق مع طريقته/ دينه/ مذهبه، فيستحق أن يموت, ليفسح مجالاً لقاتله أن يجاور الرسول (ص) ويحظى بالحور العين، مكافأة له على محاكمة الناس وقتل الأنفس البريئة. وقد أجابني هذا العرض شخصياً على ما احترت فيه عند قراءة الأخبار المشابهة التي تتصدر النشرات اليومية ووسائل الإعلام, من أن الأفراد الموكلين من قبل هذه الجماعات إنما هم أشخاص ناجحون مهنياً حسب تصنيف وظائفهم؛ مهندس/ طيار/ طبيب وغيرها, وكان التصور أن من ينساقون إلى هذه المنزلقات هم الجُهَّل/ أنصاف المتعلمين/ أو من البيئات الفقيرة التي تكون وجهات نظر معينة حول مفهوم العدالة نابعة من انحصار الأفكار من منبع واحد هو التطرف. فالعرض واجه الجمهور بالوجوه المتعددة لأشكال الإرهاب, فلا لحية طويلة غير مشذبة، ولا ثوب قصير، ولا وجه مكفهر، ولا أي صورة نمطية معتادة, ليقول العرض في رسالة مواكبة للأحداث: إن الإرهاب لا شكل له.. تخلصوا من الصورة الذهنية تلك!

وإذا كان “إكسكلوسف” قدم الحالة كما هي عليه في الواقع، نظراً لتسارع الأحداث في المنطقة بهذا الخصوص، وضرورة تقديم الحالة بشكل فني جميل يوصل الرسالة المطلوبة, فإن معظم العروض التي تتناول التكفير قد تأتي بصيغ مباشرة قد تفقد العمل متعته الحسية والبصرية أيضاً, لأنها قد تأتي بخطاب مباشر مما يؤدي إلى التسطيح غير المرغوب فيه في أي عمل فني كان. وقد يأتي عرض مسرحي مثل “تعالوا ننتظر”، من تأليف المسرحي البحريني خليفة العريفي وإخراج طاهر محسن، ليناقش قضية “المخلص” المنتظر دون تحديد زمان أو مكان ولا حتى أسماء للشخصيات التي بدت في انتظار مخلصها، دون الاحتفاظ حتى بصورة موحدة لصورته المتخيلة, ولا سبب يجعلهم ينتظرونه سوى التواكل وتفويض الأمر للقدر، مع إيمان كبير بقدومه يوماً ما بوقت ما! وهذه القضية قد تثير حفيظة المتطرفين/ أصحاب الرؤى، الذين لو التفتوا إلى المعنى بين الحوارات والأداء, لشاهدوا انعكاس شخصياتهم في الشخصيات المسرحية التي تفرعت أسبابها واتحدت رؤاها.

وتجسد الخطاب العمودي في عرض “يا رب”* الذي لم تتسنَّ لي مشاهدة إلا جزء بسيط منه عن طريق اليوتيوب, من تأليف المبدع علي الزيدي وإخراج ستار الركابي, في إثارة حفيظة الغلاة حين تصلهم فكرة العرض المبني على حوار رأسي بين الإنسان (الممثل في الأرملة والثكلى التي وكلتها بقية النساء الشبيهات بحالتها) وبين الله عز وجل, وهي حوارات استمدها المؤلف من التي وردت في القرآن بين الله والمخلوقات عن طريق الأنبياء, وترد في حوارات “يا رب” جرأة تحسب للقائمين على العرض، فتقول الأم مخاطبة الله في وادي طوى: “جئت إليك يا رب، وفي قلبي ألف دمعة وعتاب.. أعاتبك كأني أعاتب روحي.. وكيف لروحي ألا تستجيب لدعائي؟ أنا ضيفتك الآن يا رب, وتعلمت أن صاحب البيت يسمع حتى أنفاس ضيوفه.. فكيف يا رب إذا كنت ضيفة وأماً؟”. وهي مخاطبة غير معتادة من الإنسان لربه, فتبدو فيها نبرة التمهيد التي ستحتد عندما تبدأ في عرض الأمر الذي جاءت من أجله, “كلمني أرجوك مثلما كلمت موسى هنا في هذا الوادي”, “رُدَّ على قلب هذه الأم التي خسرت أولادها ولداً ولداً, قلباً قلباً وضحكة ضحكة”, والجملة الأخيرة توضح أنها تحملت عناء المجيء إلى طوى من أجل الاستجابة، أو بالأحرى الرد الصريح الذي تأمل أن تتلقفه وتذهب به إلى الأمهات الثكلى. فهي تدرك أن “قلب الأم يعادل ألف نبي”, وأنهم يعتنون بأولادهم حتى يكبروا على أمل أن تنتظرهن الحبيبات, لكن “العبوات الناسفة” أسرع إلى أرواحهم من ذلك، في إشارة لأولئك التكفيريين الذين امتلأت بهم أرض العراق التي أنهكها الحرب والاحتلال من قبل، والتكفيرين من قبل ومن بعد. ولأنها عددت ما يكفي من الأسباب لقدومها، تخاطب الله عز وجل: “… لابد أن تجد حلاً.. سأقول لك شيئاً مهماً.. باسمي وباسم كل الأمهات, سنعطيك مهلة يا رب, أربعاً وعشرين ساعة حتى تقول للشيء كن فيكون، أو أو أو نعلن إضرابنا جميعاً عن الصلاة والصيام.. نعم.. هكذا قررنا.. سنضرب عن الصلاة والصيام يا رب, ولن تجد أماً ترفع يدها للدعاء إليك, شروطنا واضحة.. أن توقف القتل الذي يفترس أولادنا…”. (9)

 أما العرض المجازي الذي وزّعه العرض على المتلقين، على أن يشاهد لاحقا, فهو يجري في عام 2026، ويروي المؤلف – بصوته البعيد غير الواضح – ما جرى في الماضي وقت العرض- 2016 – قبل التفجير “المتصور” الذي طال العرض، عبر وضع متفجرات تحت كراسي المتفرجين، مما أدى إلى غرقه! وكأنما يستشرف مصير العرض الذي يستفز التكفيريين ويثير حفيظتهم.

 

ولو كانت ظنون الزيدي في محلها, وحصل ما لا يحمد عقباه من تفجير يودي بأبرياء, ستكون المسارح مقاطعة بشكل أكبر من تلك التي نشتكي منها الآن, بسبب قيم التطرف التي لن يجازف أحد بالذهاب لعرض إشكالي يثير الجدل, تحت تهديد أو حتى حوادث شبيهة سابقة, وبالتالي لن يجد العاملون على مثل هذه العروض النوعية, الجدوى في الاستمرارية، إلا بشجاعة نادرة كالتي تحلى بها فريق “يا رب” وهم أعلم بظروف البلد ووجود المتشددين.

 

والسؤال الذي يفرض نفسه بعد كل النقاط التي حاولنا مناقشتها بوضوح مسموح هو: لِمَ لا نكفِّر التكفير، طالما هو السبب في جل ما نعانيه من مشاكل، تبدأ بالتكفير الديني، ولا تنتهي بالتكفير الاجتماعي والسياسي والفكري وغيره؟

والإجابة أيضاً في المتن الذي أشرنا إليه، حيث السلطة الدينية المتمكنة والواعية لسيكولوجية الشعوب العربية العاطفية، والتي نشأت على السمع والطاعة بلا جدال من أولي أمر الدينيين، وشعار (لعن الله الشاك) لدرء أي محاولة للنقاش والتحليل العقلاني, مما يؤدي إلى فقد هؤلاء لمكانتهم وسلطتهم, والصلاحيات التي تتيح لهم التحكم في الأمور الحياتية, والشئون الإبداعية والفنون التي ينضوي المسرح تحت طائلة التحريم عندها، إلا بملليمتر رضا لاهوتي مؤدلج!

 

 

 

مقاربات حلول مأمولة

  • تفعيل الحس النقدي والفكري في تحليل مضمون الخلافات الشكلية حول قضايا التكفير التي جلها اختلاف في عقيدة، وليس اختلافاً في الإنسانية، كما قال الإمام علي بن أبي طالب: “الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق”, وهي كفيلة بتحقيق موازين ترسي العلاقات الإنسانية بلا تمييز في الاختلاف أياً كان.
  • تنمية القدرات الإبداعية في المناهج الفنية التي يجب أن يعاد إقرارها في المدارس، حتى ولو بصفة اختيارية, تتيح للطالب التعبير بحرية واحترام خصوصية الآخرين, بشعور حقيقي أن المختلف مختلف، وهي طبيعة المجتمع، وليس مقصياً/ كافراً/ مزدرىً، وأن التسامح نابع من الاعتراف بالآخر، وليس بأن له قسطه من الحقيقة, وليس مجرد تساهل تجاهه كما يشير لذلك د.علي حرب, وسنضمن بذلك أن أي سياسة تلقين وتجييش لن تجدي نفعاً في جيل تربى على الاختلاف بوعي العارفين.
  • دعوة المختصين المحايدين إلى تفعيل أنشطة وبرامج مسرحية مكثفة, تكون نتائجها وتوصياتها قيد التنفيذ الإلزامي على مدد زمنية مدروسة، ولا تطلق للعبث الإداري أو لمزاجية المسئول الرسمي, فحاجة المجتمع أن يكون على تماسٍ مباشر بالمسرح أهم من توجه التعيينات الرسمية.
  • إتاحة الفرصة الكاملة أمام الأفكار الإبداعية، وتحسين الرسالة الإبداعية/ الإعلامية عبر ترك التشبث بالبيروقراطية والأساليب الكلاسيكية في الطرح، واستغلال سقف الحرية الممنوح لأقصى حد, من دون الدخول في المباشرة والتلقين اللذين ينقصان من أي عمل فني. *

 

 

 

 

 

المصادر والدوريات

  1. http://www.almaany.com/ar/dict/ar-en/%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%81%D8%B1/
  2. علي أحمد الديري, نصوص متوحشة: التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية, مركز أوال للدراسات والتوثيق, بيروت, الطبعة الأولى 2015. ص 23
  3. أحمد شرجي, المسرح العربي من الاستعارة إلى التقليد, دار ومكتبة عدنان, بغداد, 2013, ص 60
  4. نفس المصدر السابق, ص 60
  5. من تقرير مصور عرض في نشرة التاسعة على قناة MBC.
  6. أحمد شرجي, المسرح العربي من الاستعارة للتقليد, مصدر سابق ص 47
  7. نفس المصدر السابق, ص 55
  8. محمد جابر الأنصاري, مسئولية من تجديد الفكر العربي؟ ,مجلة البحرين الثقافية/العدد 30/ 2001. ص 144
  9. alnoor.se
  10. * مأخوذ من توصيات ورقتي المقدمة للندوة الفكرية بمهرجان الكويت المسرحي السادس عشر، ديسمبر 2015, والتي كانت بعنوان (دور المسرح في تعزيز الوحدة الوطنية: إعادة تفكيك السؤال في التجربة المسرحية البحرينية ما بعد 2011). وذلك لما لها من تماس مع محور هذه الندوة.

محمد سامي / موقع الخشبة

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *