المسرح وبوح الذات .. بدايات وطريق طويلة 1/3

في عام 1956 عينت معلماً في ريف حلب وكان هذا قبل حصولي على الإجازة الجامعية، وحدث العدوان الثلاثي على مصر، وكنت أتابع بطولات الشعب المصري في بورسعيد، فكتبت أول مسرحية شعرية عن بورسعيد، لكنها ليست بذات قيمة فنية فأهملتها مع مخطوطات أخرى. اليوم وأنا أذكر أنني كنت في الابتدائية أكتب بعض المشاهد الطفولية الحوارية الساذجة، وتلك هي الشرارة الأولى وكان يشجعني ابن عمي شيخ الكتاب.. اليوم أدرك جيداً معنى قول الشاعر ” ومعظم النار من مستصغر الشرر”.. ولو كانت لدينا آليات علمية لاكتشاف مواهب طلابنا لكان لدينا الكثير من النوابغ.

كان علي في الطريق نحو الأدب عامة والمسرح خاصة القيام بخطوات عدة متزامنة ومتوازية: 1- حضور ما أمكن من العروض المسرحية 2- التزود بثقافة مسرحية حديثة من خلال الاطلاع على الكثير من النصوص والدراسات المسرحية 3 – التزود بثقافة عامة متينة لا تهمل حتى الأبحاث العلمية 4- تنمية الإحساس النقدي التقويمي والمقارن لديّ.

كان أبي عاملاً فقيراً بناء يعمل بالمياومة في بلدية حلب، ولعدم استطاعتي شراء الكتب فقد كنت زبوناً مداوماً على المكتبة الوطنية العامة، وبجانب المكتبة صاحب دكان يؤجر الكتب بالليلة مقابل قروش فكنت أستأجر كل ما تحويه مكتبته من أرسين لوبين إلى شرلوك هولمز إلى دواوين الشعراء إلى أمهات المراجع الأدبية. وألخص العديد منها في كراسات مازلت أحتفظ ببعضها إلى اليوم.

كان أبي العامل يعود في المساء متعباً، وكنت أنا وأخي الأكبر ندرس على ضوء لمبة الكاز، وكنت أخفض نورها ليستطيع أبي النوم، وكانت أمي (الوفائية)  الأمية اصطلاحاً، المثقفة عملياً، تشجعنا على الدراسة ولا تنام حتى ينام ولداها. وكنا ولقاء أجر زهيد جداً نقوم بحراسة ورشة بناء في الليل خارج حلب قاطعين أكثر من ثمانية كيلومترات على الأقدام لنؤمن مصروف دراستنا.

اليوم وأنا أحدث أولادي بذلك يقولون مبتسمين: لا نستطيع أن نكون مثلك يا بابا، أنتم جيل استثنائي.

في البداية كان الشعر، وكانت المسرحية الشعرية، وما زال لدي مخطوطات قديمة لمسرحيات شعرية مركونة في درج المكتبة مثل: الصعاليك، وليلى الأخيلية.

إذا تجاوزنا ما ذكرت كانت البداية على الخشبة ومسرحيات الفصل الثالث، صرخة في شريان مبتور، والدينار الأسود وقد قدمت على مسرح سوق الإنتاج بحلب، ومسرحية غابة غار، ومسرحية ثلاث صرخات، وقد توزعت هذه المسرحيات بين فرقة المسرح الشعبي التي ترأستها ومخرجها أحمد سيف، وفرقة إدلب ومخرجها مروان فنري. ومن أوائل النصوص التي طبعت ملحمتي الحوارية المسرحية مولد النور عام 1970 .

أما النقد والبحوث المسرحية فقد جاءت لاحقة، فعدا عن عشرات المقالات النقدية التي رصدت الحركة المسرحية في سورية وعروض المهرجانات : مهرجان دمشق المسرحي، مهرجان حماة، مهرجان حمص المسرحي، مهرجان الرقة المسرحي.. ومهرجانات عربية أخرى حضرتها مدعواً، هنالك عشرات البحوث المسرحية النظرية والتطبيقية وكتبي المسرحية: 1- مسرح الريادة 2- سِحْر المسرح 3- المسرح الحديث الخطاب المعرفي وجماليات التشكيل.

قلت: كان الشعر في البداية، ثم كان المسرح، ثم أصبحت الأجناس الأدبية الأخرى التي كتبت فيها متزامنة تجري معاً. لكنني ما كنت أبداً أكتب موضوعين في آن واحد، فعندما أكتب مسرحية أو بحثاً أو موضوعاً شعرياً فإنني أدخل لا شعورياً في طقس معين يستغرقني تماماً عن أي موضوع آخر، أعيش عوالمه وأبحر في لججه، وهكذا حتى أنتهي منه.  وفي جميع أو أغلب ما أكتب ثمة هدف رئيس لدي يمكن أن تعتبره العامل المشترك وهو : الإنسان. لقد نذرت قلمي لإعلاء شأن الإنسان والدفاع عن حريته وأمنه وكرامته ولقمة عيشه، وربطه بماضيه وحاضره وتطلعاته الطامحة، فالإنسان عندي أكرم ما في هذا الكون اللامتناهي، وخليفة الله، وأيقونة الوجود، وفيه ينطوي العالم الأكبر. هذا من غير أن أغفل في جميع ما أكتب الخطاب المعرفي وجماليات التشكيل، فالنص في النهاية عروس يجب أن تتجلى في أبهى صورة معبرة داخلياً وخارجياً.

عندما كتبت المسرح الطليعي –التجريبي لم يكن أحد يكتب فيه تقريباً؛ فقد كان الدارج آنذاك الكتابة على نمط مسرح بريخت، وضرورة أن يكون النص من الواقعية الاشتراكية، والبطل الإيجابي لازم في كل نص… والخروج عن ذلك يعتبر كفراً وخيانة قومية ، إنها المراهقة الإيديولوجية. كتبت العديد من النصوص وقدمت على المسرح منها: ثلاث صرخات، طفل زائد عن الحاجة، السيد، باب الفرج، وغيرها.ونشرت كتأكيد لهذا الاتجاه بحث المسرح الطليعي في مجلة الحياة المسرحية. من كانوا بالأمس يدينونني سارعوا فيما بعد لإنشاء المسرح التجريبي في مديرية المسارح، خطا خطوة أو خطوتين ثم توقف. اليوم رحلة المسرح في العالم تجاوزتنا إلى ما يسمى مسرح ما بعد التجريب أو الطليعية الجديدة، أو ما بعد الحداثة. أحد المسرحيين قال لي في مهرجان حمص: أنت الذي أفسدت الجيل بتعليمهم مسرح اللامعقول. لا بأس أنا راض بذلك، إنه إفساد جميل فقد علمتهم الحرية الفكرية والفنية، وعندما كنت أحضر في أي مهرجان محكماً يتنفس المغامرون الشباب الصعداء ويقولون: الآن جاء من يفهمنا ويقدر عملنا.

التجريب عمل شاق ، مغامر، حرية إلى أقصى الحدود ، يقوم على ركائز فلسفية في الوجود والحياة، وليس قائماً على الثرثرة اللفظية أو الحركية المجانية؛ ولهذا فالتجريب الحق يقوم به شيوخ المسرح.

يعبر مسرح اللامعقول-التجريبي عن الإحساس بالعزلة والقلق الوجودي، فشخصيات لعبة النهاية لبيكيت هم البقية الباقية من عالم تفسخ وتحلل وانقرض، وشخصيات يونسكو تعيش العزلة ولا ترغب في الاتصال وتؤمن بعدم جدوى اللغة في الاتصال، إنها بمثابة شخصيات آلية تردد شعارات توفر عليها مشقة التفكير. وقد اعتمد الطليعيون غالباً أسلوب الحلم للوصول إلى الحقائق، وبذلك حطموا نموذج الشخصية التقليدية. وهو في جوهره نقد سياسي واجتماعي، وكوميدي، يسخر بعنف من عبثية الحياة المفعمة بالكذب والنفاق، ويكشف ما يخفيه البشر من حيوانية مخيفة، ويقرر لا معقولية الوضع الإنساني، وباختصار جاء هذا المسرح عكسياً وانقلاباً كاملاً في الأعراف المسرحية شكلاً ومضموناً.

المسرح التجريبي، وما بعد التجريب، ليس واحداً وإنما هو اتجاهات وتجارب ونظريات متنوعة، منها مسرح الصورة، والهابننغ، والحي، والموت، والمهمشين..الخ حتى بريخت يعتبر تجريبياً . لقد بدأ التجريب مع تشيكوف ودراما الأعماق وما زال مستمراً. وبالنسبة لي فلي اتجاهي الخاص ، فالتجريب عندي مرتبط بالأصول والتراث والواقع، وأحرص على أن يكون جماهيرياً تمتزج فيه الكوميديا بتراجيديا الوجود الإنساني.

التجريب حرية مطلقة مبدعة فكرية وفنية، وبما أنه مرتبط بها صميمياً فإنه لم يأخذ موقعه الذي يستحق من المسرح السوري إلا لدى بعض الشباب المغامرين المبدعين الذين أفسدتهم كما يدعي بعض المسرحيين المحنَّطين. وقد قدم هؤلاء الشباب عروضاً باهرة. ولأن المسرح السوري لم ينهض بالجديد ، ويخشى من هذه الحرية فإنه تراجع، ثم جاءت الأزمة الحالية فتسارع تراجعه حتى أصبح مسرحاً معلّباً.

حلب
الكاتب:
عبد الفتاح قلعه جي
http://jamahir.alwehda.gov.sy/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *