المسرح في زمن “كورونا” .. هشاشة ورفض للرهان على “أونلاين” #المغرب

 

بعد الهجرة الجبريّة التي أبعدت المسرحيّين والشّغوفين بالمسرح عن فضاءاته شهورا، توقّف مبدعون من مختلف أنحاء الوطن العربيّ عن تقليب أيديهم بحثا عن العالَمِ الذي تفلّت فجأة مِنها، ليجلِسوا إلى أفكارهم، بعد جزع، متأمّلين وضع أبي الفنون، ومستشرفين مستقبله.

وعبر أزيد من ثلاثين شهادة، وثّقت الهيئة العربية للمسرح آراء مسرحيّين بارزين، في شجون أبي الفنون، وآلام فراقه وآمال لقائه، انتخبَت منها جريدة هسبريس الإلكترونية ما يمكنه أن يرسم صورة وافية عن النقاش المسرحيّ في العالم العربي اليوم، خلال زمن “كورونا”.

ومن فلسطين يقابل المسرحيّ عدنان طرابشة بين وجهَين لانعكاسات الجائحة: رغم خسارات مسرحه “مرايا”، ربِح كتابا خطَّه عن مسرح فلسطين بعدما نبش “عظامَ” الماضي، ومسرحيّة غنائيّة بدأ العمل على كتابة ألحانِها، وظفر بالعودة إلى ذاته، ليجدّد الانطلاق من الكلمة بعدما شوّشَتِ الرّويةُ الإدراك.

أمّا الكاتب المسرحي المغربي محمد بهجاجي فينقل ما لمسه خلال الجائحة من هشاشة المسرح بشكل مضاعف، بعد تجدّد حرمانه من الفرجة ولو اختلف السّبب؛ فمن إضرابات قانون التقاعد بباريس، إلى جائحة كورونا التي ألزمته بيته ليستمتع بمسرحيات مغربية وعربية وعالمية عبر الشاشة. ولقّنته دروس واجب التمرّن على قَبول واقع جديد، فيه حاجة فعليّة إلى تدخّل الوساطات التكنولوجية، لإنقاذ الفرجات الحية على المسارح، حتى لا تظلّ موقوفة التنفيذ، مع سبق الإصرار، وهو ما بشّر معه بالمسرح “المنقول” حلّا، من بين الحلول الممكنة لمواصلة الاستمتاع بالمسرح “كلّما تعذّرت إمكانيات التواصل الطبيعي”.

ويتحدّث المسرحي اللبناني عبيدو باشا عن كره المسرحِ، مثل أمِّهِ الأرضِ، الصّوت الواحد، والتّكرار، والعادة. ويزيد سابرا ما في العادة من عقبة في وجه التطور، وما تمثّله من دورة عنف مكتوبة، لم يستطع المسرح بسببها التقدّم إلى الأمام، بعدما ظلّ المسرحيّون يحفرون في تربته بطريقة واحدة، وهو ما يجعله يرى في “الفيروس” فرصة لكسر العلاقة القديمة، والانتصار على العادة، وانتقاما للمسرح من المسرحيّين؛ ليروه كما هو: مسرحا متمرّدا على عادتهم وتعاملهم معه، وشعلة عليهم حفظُها من الانطفاء.

ويصدح المخرج المغربي بوسلهام الضّعيف ضدّ ما أسماع “بلاغة المنافقين”، قائلا: “يمارَس المسرح فوق الخشبة، لا في وسائط أخرى”، ثم يسترسل شارحا: منذ قرون ونحن نتحدّث عن أنّ المسرح فنّ جسديّ، فن اللقاء المباشر والتجمّع البشريّ الهائل، والحوار المباشر بين الخشبة والجمهور. ثّم تأتي كورونا لتُحَوِّلَنا بكلّ بساطة إلى جبناء، فنغيّر كلّ كلامنا، ونتحدّث عن “مسرح البعد” (…) والمهرجانات المسرحية على النتّ، والمسرح البديل، علما أنّ “لا مسرح خارج الخشبة، ولا مسرح في النتّ”، وكورونا وباء مثل باقي الأوبئة “ستدمّر ما ستدمّر وستمرّ، لتعود الحياة إلى إيقاعِها”.

من جهتها، تتذكّر الممثّلة الأردنية أسماء مصطفى دقّات القلب الثلاث التي توحّدها مع الخشبة، وتنتشي بها روحها شغِفَة فرحة عند انتهاء العرض، ويحسّها المتلقّي قبل العرض وبعده، وتسجّل استحالة الشّعور بها في فضاء افتراضي جامد، لا نشوة ولا شغف فيه، ولا حياة؛ لأن “الخشبة حيّة وتتنفّس”، وكلّما استمرّ التباعد الجسديّ، تُفقَد حميمية العناق قبل وبعد العرض، ولن يكون المسرح بخير.

ومن مصر، يكتب الناقد المسرحي محمد الروبي عن الفُرصة التي أتاحتها له “كورونا” لمشاهدة العروض التي لم يسعف ضيق الوقت من قبل مشاهدتها، رغم اعتباره إيّاها عروضا ناقصة دون المشاهدة الحيّة، وما أثارته من نقاش حول المسرح، وتأمّل ومراجعة الأفكار المسرحية، قبل أن يستدرك منتقدا نقاش الـ”مهرجانات أون لاين”، من منطلق طبيعة المسرح التي تُضرَب في مقتل عند المشاهدة عن بُعد، ومبدأ كونِ “التطوير والتّجديد لا يمكن أن يمسّا أسس الطبيعة التي يختصّ بها عالَم العرض المسرحيّ، وإلا تحوَّل إلى فنّ آخر غير المسرح”.

وبعيدا عن تجارب العرض المباشر للمسرحيّات، يراهن الناقد المسرحي العراقي يوسف رشيد، بدوره، على التواصل الميداني والروحي، في فضاء التلقي الساخن في الانفعال، الذي يمكّن من معانقة انفعال الممثّلين، نافيا إمكان عيش المسرح في كنف العزلة الاجتماعية، لكونه “لعبة جماعية”، و”ورطة عذبة”.

وينزع المسرحيّ اللبناني فائق حميصي عمامة التبصّر عن الأطاريح التي استشرفت تغيير الجائحة طابع المسرح؛ مستشهدا بناموسه المرتكز على العلاقة الحسية والمحسوسة بين عنصرَي عمليّة العرض، وحاجة النّاس إلى التّلاقي والتّشارك في عيش الانفعالات والمناقشات، الذي لولاهُ لغيّرته التحديات السابقة من سينما وتلفزيون وحروب عالمية ومحلية، في حين “لا مسرح بدون سماع خطوات الممثلين، وسماع أنفاسهم تخرج مع حواراتهم، ولا مسرح بدون عيش الجمهور اللحظة السحرية التي يتحرر فيها الممثل من انفعالات كانت تحتشد داخله، ولا مسرح بدون سماع شهقات الجمهور وتصفيقه، ولا مسرح بدون إيحاء وردّ إيحاء حسيّين ومحسوسَين”.

وإلى جانب ما شكّلته الجائحة من فرصة ليستريح المسرح ويجدّد أدواته، وما ستسهِم فيه من إبداع متجدّد يُستمَدّ من هذه المعاناة البشرية، تطرّق المسرحيّ والنقابي المغربي مسعود بوحسين إلى دروس كورونا، التي تخاطب المسرحيّين قائلة إنّ “مثالية الفنّ لا تبرّر إهمالهم لواقعهم الاجتماعية، وطبيعة فنّهم الاقتصادية”.

فيما يكتُب النّاقد المسرحيّ المصري خالد رسلان متيّقنا من عودة الحياة، يوما ما، إلى مجاريها: “سنلتقي في الأسواق، والاحتفالات الموسمية، سنصل أرحامنا، ونبتهج بحفلات الزواج والميلاد، ونواسي بعضنا في المآتم، سنحب ونكره، نضحك ونبكي، وسنلتقي في المسرح لنعبر عن كل ذلك، فالزمن لا يدوم والأوبئة لا تدوم والحروب لا تدوم”.

ويراهن الكاتب المسرحيّ المغربي عبد الكريم برشيد على يوم اللقاء هذا، ولا يريده أن يكون كباقي الأيّام؛ بل “يوما ثامنا للأسبوع”: يوم المسرح.

ويفنّد برشيد مجموعة من الأطاريح الطّافية على سطح النقاش المسرحي، في العالم العربي، قائلا: “ليس من المنطقي أن نبني اليوم تصورا جديدا، وأن نؤسس فنونا أخرى، بناء فقط، على حالات شاذة واستثنائية وعابرة”، كما يجيب عن الرّهان على المسرح عن بعد، متسائلا: “متى كانت صور الأشياء تغني عن وجودها بشكل حسيّ ومادّيّ حقيقيّ؟”، قبل أن يسترسل مجيبا: “ليس بالصور وحدها يحيا الإنسان، ولكنه يحيا بملامسة الواقع والوقائع، وبالمعاناة اليومية الحقيقية”.

ويذكر المنظِّر المسرحي أنّ المسرح ليس هو أن نرى فقط، ولا أن نسمع فقط؛ بل أن “نحيا، والأخطر في هذا الفعل هو أن يرانا الآخرون أيضا، ونحن فيه لا نتفرج على الحياة عن بعد، ولكننا نحيا الحياة، ونعيش مع الأحياء، ونتذوق لذة الحياة”؛ لأنّ أهم شروط هذا المسرح اللقاء، والحضور، والتفاعل، والمشاركة، والمناخ المسرحي، والطقس المسرحي، والعيد المسرحي، “الذي هو اليوم الثامن في الأسبوع”.

وينتصب عبد الكريم برشيد خطيبا في هذا العالَم الذي هجَرَ “المسرح”: “من حقنا أن نعيش هذا اليوم الإضافي في روتين حياتنا اليومية، وأن نخرج من العادي ومن المعروف ومن المألوف، وندرك شعرية الأيام المسرحية الجميلة، ونصل إلى درجتها العالية والسامية”؛ لأنّ “لا شيء يمكن أن يعوّض المسرح إلا المسرح، ولا شيء يمكن أن يتحدى المسرح إلا المسرح، أي ذلك المسرح الآخر الممكن الوجود، الذي يمكن أن يكون، أو ينبغي أن يكون، اليوم أو غدا، أكثر حقيقة، وأكثر جمالا، وأكثر إقناعا، وأكثر إمتاعا، وأكثر سحرا، وأكثر إدهاشا، وأكثر إنسانية، وأكثر مدنية، وأكثر حيوية، وأكثر عفوية، وأكثر قربا من حياة الناس ومن أسئلة وقضايا الناس”.

 

هسبريس – وائل بورشاشن – المغرب

https://www.almesasports.com/

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش