“المسرح في التاريخ” تنقيب أركيولوجي في تقاليد الشعوب وثقافاتها من فصل إلى آخر صـوت حكواتـي معتّق في خوابي المسرح

مي منسى 

كمن تتطلّع إلى قمة جبل من سفح وادٍ، وترسم في فكرها الوسيلة الأمتع لتسلّقه. هكذا بدأتُ من الغلاف الأزرق، مغامرتي المثيرة مع كتاب روجيه عسّاف الصادر عن دار “لوريان دي ليفر”. كمن تدخل في مرآة سحرية حيث تجد نفسها تائهة في بلاد العجائب، تجوب مشارق الأزمنة ومغاربها، وتنزل ضيفة على حضارات غابرة ومتقدّمة العهود، جعلت من المسرح إكسيراً سحريّاً يدجّن بربرية البشر ويؤنسنها. المسرح الذي تجرأ على الموت وكذّبه، جاعلاً من الإنسان شبه إله، دعانا روجيه عسّاف إليه منذ البداية تحت عنوان لافت على الغلاف “المسرح في التاريخ/ المسرح بين الآلهة والبشر”.

من أي جهة أشرقت شمس روجيه عسّاف حتى على نورها مضى باحثاً ومنقّباً في تاريخ المسرح المديد؟ علماً ان الكتاب الجاهز للمعرفة اليوم، ما هو سوى الجزء الأول من رحلة سندباد المسرح، إلى أقاصي العالم. أمّا طموح هذا المثقّف الذي يعتبر من أوائل بنّائي المسرح المعاصر في بيروت، فكان في هذا العمل الجبّار، إغناء الذاكرة العالمية بأنطولوجيا تحرّك رماد النسيان وتكون للباحثين مرجعاً.

في البدء مدخل إلى مسرح لا تاريخ له: “علّمتنا ثقافتنا أن لظاهرة المسرح تأريخا ومكان ولادة، اليونان في القرن السادس قبل الميلاد، ابتكرها رجال عرفوا بانتماءتهم إلى هويّة ومجتمع وثقافة صنّفت بالديموقراطية الأثينية. بيد أن أشكالاً من النسق الدرامي كان لها موقع في بابيلونيا ومصر الفراعنة على أسس من الديموقراطية، في المدن السومرية والفينيقية، من غير أن تضاهي المسرح اليوناني في أهمّيته التاريخيّة، هذا المسرح الذي استملّك بوهجه فكر الغرب الأوروبي وظلّ ينعشه ويرويه ألف سنة بعد زواله”.

كيف نقرأ “تاريخ المسرح” في كتاب روجيه عسّاف؟ إذا بأحرف الأبجدية يدلّنا القاموس على الكلمة ومعناها، فبالتقسيم الزمني والجغرافي نستدل في هذا الكتاب على المرجع المطلوب، وقد يغرينا الأسلوب السلس الذي صاغ به المؤلّف، حكاية تاريخية، أدبية، فنيّة من حكايات الشعوب، فنستهل مطالعته من الجزء الأوّل، “العصور القديمة في الشرق”، حيث الحدث التاريخي ينقّب أوّل ما ينقّب، في آثار بلاد ما بين النهرين والمملكتين في مصر. الكتابة مسمارية في بابل، هيروغليفية في مصر. وتتوالى الأزمنة إلى ما بعد الطوفان وظهور بوادر الأدب المصري، وحكم جلجامش في أوروك. التنقيبات في أرض مصر أخرجت الكسارات الأولى للفن الدرامي، فيما ظهرت من زمن الأمبراطورية البابيلونيّة، قصيدة الخليقة وملحمة جلجامش وقانون حمورابي. بعدها بمئة عام ظهرت الحكايات المصرية بوحي من زمن العبرانيين في مصر، وفي عهد أمينوفيس الرابع أخناتون، كان إصلاح المعتقدات الدينية الموحّدة.

من هذه اللوحة التذكارية لأهم الحوادث التاريخية والثقافية التي جرت في الشرق، ندخل في جوهر الكتاب: المسرح. فماذا تروي لنا الآثار الهيروغليفية عن ثقافة القدامى المصريين؟ بعض الوثائق المحفورة على الحجر أو المخطوطة على ورق البردى، تنتمي إلى طقوس دينية أو تصف مشاهد إستعراضية لطقوس تقام في المعابد والقصور مصحوبة بالموسيقى والرقص. أما الوثيقة التي اكتشفت في إدفو، العائدة إلى العام 1600 قبل الميلاد، فتلك التي عثر عليها العام 1922 محفورة على ضريح شخص يدعى إمهيب، تقول: “أنا ذلك الذي رافق معلّمه في تنقلاته، شريكاً معه في الألقاء، هو إله وأنا ملك، وحين يقتل أنتعش”، وثيقة تؤكّد وجود ممثلين في ذلك الوقت، محترفين جوّالين.

أما إتيان دريوتون، العالم الشهير بالآثار المصرية، فكان أوّل من دافع عن المسرح المصري، والملف الذي خصّصه لهذا الشأن تضمّن نصوصا عدة متعلّقة بالأدب الدرامي. من بينها ما يعود إلى العهد البتوليمي في القرن الثاني قبل الميلاد، وهو كناية عن حوارات، مقاطع، مصحوبة بفقرات سرديّة مبنيّة على أسس سيناريو دراماتيكي.

ينسب إتيان دريوتون هذه النصوص إلى شدائد العائلة الإلهية التي سبّبها هوروس إبن إيزيس وأوزيريس، كما الصراعات التي دارت بين أوزيريس وسيت شقيقه الشرّير الذي قتله وبعثر جسمانه في أقطار الدنيا، إلى أن جمعتها إيزيس وأعادت إليه الحياة. هذه الأسطورة هي نواة الروحانية المصرية القائمة على نهج دورة الحياة والموت والقيامة.

الرسوم المزوّقة كل حضارة، تضاهي العناوين تعبيراً. النصوص البابلية رفعت رمزين أساسيين، أنكيدو وجلجامش. شعوب بلاد ما بين النهرين توارت في الصمت قروناً إلى أن أنعش ذكراها، منقّب الآثار الألماني غروتفند، في تفكيكه الكتابة المسمارية وتحليلها. التنقيبات الأثرية كشفت عن موارد ثقافية وأدبية مدهشة كانت محفوظة في مكتبة أشوربانيبال. فما سبق عهد المسرح عرف بقصائد لأصوات وحوارات هجائية أو فلسفية، منها “حوار التشاؤم” بين ملك وخادمه. نتبع المسار المشوّق لنستمع إلى روجيه عسّاف يحكي لنا عن اللوحات البابلية حيث توارى منها حضور الآلهة إلى وجود الإنسان متحرّراً من المقدّس. نتقدم في الزمن مع التراجيديا اليونانية، أشيل، سوفوكل، انتيغون، أوديب ملكاً، الطرواديات، إلى زمن الفلاسفة. فروما القديمة مع فيرجيل وسينيك وهوراس والتراجيديا اللاتينية.

في الجزء الثاني من الكتاب، توزّعت مسارح آسيا بين الهند والعالم العربي والصين واليابان. من الهند ذكر روجيه عسّاف، بوذا والمهاباراتا والرمايانا والمسرح السنسكريتي. من الصين لاوتسو وكونفوشيوس ومسرح الزاجو والأوبرا الصينيّة ومسرح يوان. من اليابان الكاغورا والجنجي والنو والكابوكي وغيرها. وصولا إلى الحكواتية العرب، والتعزية والف ليلة وليلة ومسرح الظل والكراكوز ومسرح “عاشوراء”.

في زمن النهضة، حكى المؤلّف عن الكوميديا الإيطالية منذ القرون الوسطى وصولاً إلى القرن السابع عشر والمسرح الإليزابيتي. وفي الجزء الثالث ولادة المسرح الأوروبي.

———————————————————–

المصدر : مجلة الفنون المسرحية –  النهار

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *