“المسرح القصير”: قصة صعود من الهامش

كيف نحدّد ماهية المسرحيات القصيرة؟ وهل يمكننا أن نعرض على الخشبة مسرحية تستمر ربع ساعة؟ وكيف يستقبل القارئ أو المُشاهد المسرحية القصيرة؟ بهذه الأسئلة، يفتتح الكاتب السوري، منتجب صقر، دراسته المطوّلة “المسرح القصير” ضمن العدد الأخير من سلسلة “المسرح العالمي”، معقباً إياها بأربعة أمثلة، على هذا النوع، من مسرحيات ترجمها؛ اثنتان للفرنسي فيليب منيانا، الثالثة للسويسري هيرفي بلوتش والأخيرة لجان لوك لاغارس. مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، دخلت أوروبا في مرحلة أطلق عليها الفيلسوف الألماني، إدموند هوسرل، أزمة الإنسانيّة الأوروبيّة، وكان المشتغلون في حقول المعرفة والفن يبحثون من جهتهم عن روح جديدة للأشكال التي تواجه أفقاً مسدوداً، وكان من بين هذه الحقول المسرح الذي صار يخرج عن أسس أرسطو ليتبع “ذوق وحاجات روح العصر الحديث”، بحسب تعبير الكاتب المسرحي السويدي أوغست ستريندبرغ. لم يكن للخروجات التي شهدها شكل المسرحية أن تأتي من بعيد، إذ كان الهامش الأوروبي يحتوي على ما يُعرف بالمسرحيات المختصرة، ذات الطابع الهزليّ والمكثف، التي كانت تعرض بين مَشاهد المسرحيات الطويلة القديمة أو قبلها للترفيه عن المشاهدين. هكذا، صعد شيء من الهامش إلى الخشبة، ثم سرعان ما تأكّد حضوره تحت مسمّى المسرحيات القصيرة أو ذات الحبكة الواحدة. وشيئاً فشيئاً، أخذ في طريق صعوده تشكيلات أخرى، لعلّ أبرزها السكيتش، ليتطوّر مع كثير من التكثيف والابتعاد عن الذهنيّة، مهتماً بالتشويق والإثارة والفذلكة تماشياً مع روح العصر الجديد. يتتبع صقر، بشكل موجز، بدايات تشكُّل هذا النوع من المسرحيات، وسماته التي بدأت تتحدّد وكان أبرزها الابتعاد عن تواتر الأحداث في المسرحية، إضافة إلى النقطة الأهم، وهي التنويع على انتظارات الجمهور؛ محاوِلة شدّ الانتباه منذ بداية العرض حتّى نهايته، ليشهد القرن العشرين ولادة نصوص مسرحية قصيرة أعطت تقنيات اختصار جديدة، منها ما اعتمد على قلة الكلام واستبداله بحركة الممثل الرمزية، أو إدخال عناصر جديدة كالموسيقى والإظهار على شاشة العرض. يذهب صقر إلى أنه وقبل نهاية القرن العشرين، بدأ الكتّاب الشباب بالاهتمام بهذا النوع من المسرحيات، وباتت المسرحية القصيرة، تماماً مثل الفيلم القصير، مرحلة يفترض المرور منها قبل خوض تجربة كتابة المسرحيات الطويلة. في مسرحية “الغرف” للكاتب المسرحي الفرنسي فيليب منيانا نجد ست عاملات فرنسيات في إحدى المصانع يظهرن على خشبة المسرح لتروي كل منهما قصصاً من تفاصيل حياتها، في عرض مسرحي يخلو من الأحداث، حيث يمثل الكلام الحدث الوحيد في هذا العمل، بتركيز واضح على فكرة حاجة أهل المدن للحكي. في المسرحية الثانية لمنيانا، المعنونة بـ “الممر” يعود “الدخيل” إلى عائلته بعد طول غياب، ليجد أن كل واحد منهم فقد شيئاً في حياته، فتدور الحوارات على فكرة الصور التي يُوجدها الإنسان في ذهنه عن الشيئ عند احتجابه. لا تبتعد كثيراً مسرحية السويسري هيرفي بلوتش المعنونة “أناتول فيلد” عن هذه الأجواء، إذ أن أحداثها كما السابقتين تدور في إحدى المدن داخل مكتب للعمل؛ موظفون يوافقون على رأي زميل لهم بأن العمل لهذه الساعات لم يعد يطاق، وقد آن الرحيل، إلّا أن الفكرة تبقى كما كل يوم حبيسة أحاديثهم إلى أن يأتي يوم ويقوم فيلد بالرحيل، لكن ليس من العمل، إنما من الحياة كلها، يصدم زملائه، وسرعان ما يعودون للحديث بأن ما فعله “شيء جميل” يستحسنون فكرة رحيل زميلهم لكنهم يبقون أسرى مكتب العمل إذ يجدون تسلية أخرى في المكتب، إلى أن يكتشف أمر الجثة ويغلق المكتب. في المسرحية الأخيرة، “قرطاج مرة أخرى”، لجان لوك لاغارس، تُظهر الصفحات الأولى الشخصيات التي لا تتغير وتبقى إلى نهاية العمل؛ امراتان ورجلان ومذياع، يسافرون في نزهة بخيالهم، يوظبون ملابس البحر، يتجهزون، ويثرثرون عن التفاصيل التي سيقومون بها في رحلتهم وهم جالسون، اقتراحات الفصول الأنسب، الأماكن الأجمل، لا يحدث شيئ. مقصورة القطار، مضيفات الطائرات، دراجات هوائية، ثم لا يحدث شيئ أيضاً، خلافات على الاقتراحات لن تتطور لعراك. يُسوى الأمر أيضاً، ثم العودة من جديد حين لا يحدث شيئ آخر نهاية الأمر. –

 

عمّار أحمد الشقيري

 

 

http://www.alaraby.co.uk/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *