الشارقة: عثمان حسن
هل هو نوع من الاحتجاج.. ضد السلعة، ضد التشيؤ، وضد كل مفاهيم الاستهلاك التي جلبتها العولمة وأفرزتها وسائل التكنولوجيا الحديثة، وصار استخدامها مجانياً في المسرح العالمي؟ ربما يكون ذلك كله من الأسباب التي حدت بالفنان البولندي جروتوفسكي (1933-1999)، إلى ابتداع ما سماه «المسرح الفقير»، متخلصاً من الوسائل والأدوات المسرحية المعروفة، من ملابس، وديكور، ومؤثرات صوتية، وغيرها، مركِّزاً جهوده على القدرة الأدائية للممثل.
أما عن دواعي جروتوفسكي لهذا الأسلوب، فيحمل نوعاً من النزعة الاحتجاجية على كافة أشكال البذخ في المسرح الحديث التي كان يرى أنها أساءت لحركة الفنون، فكان أول ما اهتم به، هو الاستفادة من قدرة وبراعة التمثيل، فدخل في ورش وتدريبات مكثفة لاستثمار الجانب الروحي والعقلي والجسدي للممثل.
قدم جروتوفسكي في مختبره مسرحاً متجرداً من كافة أشكال «البذخ» من وجهة نظره، من دون موسيقى وأزياء وديكورات ومؤثرات صوتية، فلا موسيقى سوى أصوات الممثلين، وحركاتهم، وتعبيرات أجسادهم، وانفعالاتهم المتناغمة مع اللحظة التي يعيشونها.
استعاض جروتوفسكي عن الإضاءة، واقتصر على أضواء الشموع والبروجيكتورات.. يقول في ذلك: «تنازلنا عن اللعب بالضوء، ومنحنا ذلك قدرات هائلة في مجال تطبيقات الممثل للضوء النابع من المكان الساكن، ووعي الممثل بالظل».
ومن وجهة نظره، كان الضوء ينبثق من ذلك التجلي، أو ذلك التفاعل الخلاق الذي ينشأ من كليهما «الممثل والجمهور».
وحول رؤيته للمكياج مثلاً فقد تنازل عن الأنوف المعدلة، والبطون المنتفخة، وأسند للممثل مهمة توظيف عضلات وجهه وقسمات محياه، تبعاً لانفعاله مع الدور الذي يؤديه.. فالديكور بالنسبة إليه، خشبة مسرحية يمكن أن تتحول إلى مائدة، وهكذا بالنسبة لكافة عناصر السينوغرافيا.
لقد قلب جروتوفسكي معايير المسرح الدارج في العالم؛ لأنه كان يرى أن ثمة عيوباً وولعاً باستثمار معارف أخرى لبناء مشاهد هجينة، يعوزها الصدق الفني للتعبير عن مشاعر الإنسان، وهنا ذهب إلى توثيق علاقة المسرح مع الجمهور، عائداً إلى البدايات، ولنقل إلى الأصول (أصول المسرح وأصول الإنسان)، هذا التأصيل مارسه بتأكيده لوجاهة العلاقات الإنسانية التي ميدانها عرض مسرحي أبطاله «الممثل والمتلقي، والنص، والمخرج»، وما عدا ذلك هو تزييف للوعي.
كان المسرح الفقير، قد وطد لعلاقة جديدة، أو مجابهة جديدة؛ علاقة حدودها النص كمفهوم أو موضوع يوحي بالفكرة أو بالرمز، والمجابهة بوصفها تحدياً يبرز قدرات الممثل على الإقناع، وهي علاقة تحتاج إلى ممثل جديد وموهوب يستثمر عقله وروحه، ويقنع جمهوره بما يود التعبير عنه.
هنا، لا التزام حرفياً بنص المؤلف؛ هنا يتصرف المخرج في العرض كما يحلو له، وبين الإيحاء الذي يمنحه النص وكيفية استثمار الممثل لرموزه وإيحاءاته، تتولد علاقات جديدة وتداعيات جديدة، ولنقل موسيقى إيقاعية أو لغوية، تكشف عن ماهية الإنسان؛ هي نتاج تلك الوحدة الموضوعية والنفسية التي تشكل خلاصة الإحساس بزمن الأداء، وما فيه من صور وخيالات ورموز.
لم يتم استثمار قوة وإيحاء المسرح الفقير في الوطن العربي، واقتصر وجوده على نوع فني يثير حالة من الجدل بين المشتغلين بالحقل المسرحي.
يمكن أن نشير على سبيل المثال إلى تجربة مسرحية عربية للمخرج الشاب إيهاب زاهدة؛ مخرج عرض «خيل تائهة» عن نص للكاتب السوري عدنان العودة، والتي فازت بجائزة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، كأفضل عرض في الدورة السابعة لمهرجان المسرح العربي الذي أقيم في الرباط، 2015. وقد اعتمد زاهدة مدرسة المسرح الفقير، مانحاً ممثلي عرضه فرصة تجسيد أدوارهم، باستثمار القوة التعبيرية لحركة المجاميع على الخشبة، مع ديكور ثابت طوال زمن العرض.
وهناك أيضاً عرض «رجال تحت الأرض» الذي شارك في موسم 2014 من مهرجان الشارقة للمسرحيات القصيرة بالمركز الثقافي في كلباء، وهو معد عن رواية فرانكشتاين ل«ماري شيللي»، وقدم العرض ثلاثة ممثلين، وهو من إخراج مهند كريم الذي اعتمد على موهبة بطله أحمد أبو عرادة، مع استخدام بسيط ومكثف لعناصر السينوغرافيا.
http://www.alkhaleej.ae