المسرح العراقي اليوم ينتمي للعصور الوسطى

يقوم المسرح على سياق من التكامل الإنساني والجمالي القائم على روح المشاركة الجماعية والتعاون، وتعميقهما لدى منظومتي الأداء الإبداعي والتلقي الواعي دون التورّط في عسكرة وعي المجتمع عقائدياً أو أدلجته، إلى جانب احترام العقل والفردية والاستقلالية في الخلق الفني من جهة، وتشكيل المعاني الإنسانية المستخلصة من العرض المسرحي من جهة ثانية. “العرب” التقت الأكاديمي المسرحي العراقي محمد صبري الصالحي في حديث عن حال المسرح العراقي اليوم.

تواجه الحركة المسرحية في العالم العربي اليوم تحديات جمّة ناتجة عن التقلبات السياسية والأمنية، والاختلالات الاقتصادية، والمخاضات الاجتماعية وتداعياتها المعطلة لتقدم الحياة الثقافية والفنية، إذ يتميّز النشاط المسرحي بحساسيته الشديدة للتوترات الاجتماعية، وهو ما يتجلّى في واقع المسرح العراقي اليوم الذي تضرر بالفوضى السياسية والاضطراب الاجتماعي، ما أعاق تطوّر الحس الثقافي والذائقة الفنية للمجتمع.

ويلفت الأكاديمي العراقي المتخصص في فنون المسرح محمد صبري الصالحي، وهو أستاذ الفنون المسرحية ورئيس قسم الدراما في جامعة دهوك بكردستان العراق، في مقابلة مع “العرب”، إلى أن خسارة المسرح العراقي، الذي يمثّل واحدة من أهم التجارب المسرحية العربية، كانت مزدوجة؛ فقد “خسر الجمهور الواسع بسبب الأوضاع الحالية، كما خسر فرصة الحفاظ على كيانه كفنٍ راقٍ يفترض ألّا ينجرف مع التيار السياسي المهيمن أو المزاج الشعبي المتقلب”.

المسرح والتنوير

يلمح الصالحي إلى تأثر المسرح العراقي بالفضاء السياسي العقائدي والأيديولوجي الضاغط، مشيرا إلى أن “المسرح العراقي صار يذكرنا بفترة العصور الوسطى، وكأننا إزاء المسرحيات الأخلاقية ومسرحيات الأسرار التي كانت سائدة آنذاك”، على الرغم من تقديم هذا المسرح لأعمال متميزة في السبعينات والتسعينات رغم الرقابة الفكرية الصارمة وقتها.

ويُذكر أن مسرحيات الأسرار أو المعجزات هي نمط من التمثيليات الدينية القروسطية التي كانت سائدة في أوروبا، وتستمد موضوعاتها من الكتب الدينية أو حياة القديسين.

أما بخصوص الأطر التنظيمية المحيطة بالمسرح العراقي وبنيته التحتية، فيؤكد الصالحي، وهو مؤلف ومخرج وممثل مسرحي أنجز أعمالاً عديدة في العراق وخارجه مثل “رقصة النار” و”زمن من زجاج”، أن “للدولة وسياستها وأسلوب إدارتها ومستوى دعمها المالي للحركة الفنية تأثيرا كبيرا على مسيرة المسرح في أي مجتمع، فلا أحد قادر على بناء صالة مسرح كبيرة بمواصفات فنية ومعمارية جيدة أو تنظيم المهرجانات غير الدولة”.

وينفي الصالحي إمكانية تطور فن المسرح في العراق تحت الظروف الراهنة، منتقداً تخريج الجامعات للآلاف من المتخصصين في الفنون المسرحية من دون حاجة فعلية، إذ يرى أن العبرة ليست بعدد الشهادات؛ فالمسرح العراقي كان أفضل حالاً قبل هذا العدد الهائل منها. ويُفيد بأن نشاط المسرح العراقي ينحصر حالياً في إنتاج أعمال محدودة تحصل على فرصة مشاركة خارجية.

محمد الصالحي: المسرح مؤسسة اجتماعية وثقافية تشترك في تنمية الذوق

يمكن للمسرح أن يؤدي دوراً في تعزيز قيم التسامح في المجتمعات التي تعاني من النزاعات الأهلية، وفي إطار يجمع بين الاحتراف والجمالية دون الانزلاق للأدلجة أو قولبة وعي المتلقي، ويطرحون في هذا السياق تجربة “المسرح التفاعلي” ذي النزعة التوجيهية التي تتمظهر عبر إشراك المتلقي في العرض المسرحي بحيث يتفاعل معه ويندمج فيه.

وفي هذا السياق يقول الصالحي، إن “فن المسرح منذ الإغريق وعبر مراحل تاريخه يمارس دوره في تلقين المجتمع الأفكار، ويلعب دور المنبّه والمحذّر من المخاطر، فضلاً عن قدرته على تشخيص الواقع وتفكيكه، وخلق الدوافع الاجتماعية نحو التغيير”، لكن الصالحي يشترط لنجاح المسرح في هذه المهمة الالتزام بحدود دوره “التنويري” وألّا يتحوّل إلى “مرشد أو مصلح اجتماعي”.

وفي ما يتعلق بالمسرح كتقنية تربوية، يؤاخذ الصالحي وزارة التربية العراقية على عدم إيمانها بأهمية مسرح الطفل والمسرح المدرسي إلا باعتبارهما من الأنشطة المُكمّلة التي توفر قدراً من التسلية للتلاميذ لا أكثر، بينما يتعدى دورهما الحقيقي باعتقاده هذه المهمة إلى التأثير الكبير على التنشئة والنمو النفسي والذهني والسلوكي للفرد، مطالباً بتغيير القناعات التقليدية التي تعيق أخذ المسرح لدوره الفعال في المجتمع.

ويتحفّظ ضيفنا، الحائز على عدة جوائز في الإبداع المسرحي، على ما يسمى بـ”المسرح التجاري”، معتبراً أن “هدفه الأساسي الربح المادي، فهو يسعى إلى كسب الجمهور بكل الأساليب، فغايته تجارية لأنه يأخذ من الناس ولا يعطيهم غير التسلية الرخيصة والكوميديا الفجة”. ويستثني الصالحي من هذا الوصف أعمالاً قليلة تستطيع برأيه خلق التوازن بين المتعة والمعرفة، والثقافة والترفيه.

فن للجميع

يتداول مثقفون وصناع قرار في العالم العربي مصطلح “الاستثمار الثقافي”، الذي يرى ضيفنا أنه “لا يعني تحويل فن المسرح إلى علامة تجارية، وإنما يكون لأغراض محدودة كالإعلان مثلاً، ودعم المهرجانات تحت رعاية الفاعلين الاقتصاديين وليس تسخيرها في خدمتهم”.

وتشهد الحياة المسرحية ما يوصف بالفجوة بين المسرحيات التي تتسم بالجماهيرية ومحاكاة الذائقة الشعبية غير المثقفة مسرحياً، وبين المسرحيات الجادة التي تقدّم من الرمزية والتجريد والفلسفة ما قد يستقطب متلقياً نخبوياً أو نوعياً لكنه يبقى مملاً للجمهور العام.

وتعليقاً على هذه المفارقة، يوضح الصالحي، وهو أيضاً أستاذ المذاهب المسرحية والمدارس النقدية والنظريات الدرامية في جامعتي بغداد وطرابلس الليبية، أن “المهرجانات الدولية تقتضي نمطاً من الأعمال تتصف بلغة فنية عالية، وليست بالضرورة رمزية، حتى في إطار بنية النص وتركيب الحكاية والثيمة التي تطرحها والوسائل الفنية وأسلوب التمثيل وغيرها، وطبعاً يكون هذا صعباً على الجمهور غير المحترف إذا صح التعبير، الذي اعتاد على لغة مبسطة وأساليب واضحة وكليشهات معتادة وواقعية ساذجة”، وهذا وفقاً للأكاديمي العراقي يسهم في خلق فجوة بين النمطين المسرحيين، الجاد والجماهيري.

المسرح يؤدي دورا في تعزيز قيم التسامح في المجتمعات شرط أن يجمع بين الاحتراف والجمالية دون أدلجة

كما ينحت في جمالية العرض المسرحي الجاد الإفراط أو التعسّف في الترميز، لذلك يُحمّل الصالحي، الحاصل على الدكتوراه في التأليف الدرامي من جامعة بغداد، البعض من تجارب المسرح الجاد المسؤولية عن صورته النمطية وعزلته الاجتماعية بسبب ما اعتبره “محاكاة الأعمال ذات الطراز الفني الرفيع بصورة سيئة، ومن دون دراية بأصول فن المسرح، فتكون المخرجات مفعمة بالغموض والتناقض والتداخل”.

ويعتقد الصالحي، وهو خبير في التدريب المسرحي أيضاً، أن انقسام الظاهرة المسرحية بين نخبوية وجماهيرية ليس جديداً، مشيراً إلى وجود “مسرحيات للجمهور المتذوّق ومسرحيات لجمهور شعبي في مختلف مراحل تاريخ المسرح، كما في المسرح اليوناني والروماني”.

ويؤكد الأكاديمي الذي نشر العديد من الدراسات منها “المسرح البابلي: تاريخه وطرازه وخصائصه” و”أهمية الفن في المجتمع”، أن “المسرح للجميع، ولكن العمل قد يستهدف هذا الجمهور أو ذاك”، مبيّناً إمكانية “تقديم أعمال ترضي أصناف التذوّق، كما فعل شكسبير من قبل عبر مشاهد كانت من أجل جمهور الباحة الوسطية”.

ويدعو الصالحي إلى إنعاش الحياة المسرحية عبر تطوير الذائقة الفنية للجمهور، ولكن هذه المهمة، من وجهة نظره، “لا تقع على عاتق المسرحيين فقط، فالمسرح مؤسسة اجتماعية وثقافية من ضمن مؤسسات أخرى، تعليمية وإعلامية ودينية وسياسية، كلها تشترك في تنمية الذوق وأصول الفرجة وآلية المشاهدة”، مؤكداً أن تنمية فضاءات وثقافة التلقي مسؤولية مشتركة بين فاعليات المجتمع، داعياً المؤسسة المسرحية لتطوير علاقتها مع الجمهور. كما يلفت الصالحي لدور المناخ الديمقراطي الحقيقي في منح كاتب النص والمخرج وجهات الإنتاج حرية أوسع واطمئناناً أكثر في العمل المسرحي، لكنه لا ينفي أهمية ما يسميه “الرقابة الجزئية” لتحديد الأطر والقيم الفنية التي يعمل المسرح من خلالها، فعند اليونان كانت هنالك شروط للمشاركة في المسابقات السنوية، والأكاديمية الفرنسية وضعت شروطها أيضاً.

————————————————————

المصدر : مجلة الفنون المسرحية – همام طه – العرب

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *