المسرح التونسي.. مسارات حداثة / حسونة المصباحي

نشر / محمد سامي موقع الخشبة

خلال السنوات الماضية، دأب الباحث عبدالحليم المسعودي على إصدار العديد من الأبحاث والدراسات المتصلة بالمسرح التونسي في أغلب جوانبه. ويعدّ كتابه “بورقيبة والمسرح” مرجعا أساسيا في هذا المنحى. ومؤخرا أصدر عن الهيئة العربية للمسرح كتابا جديدا حمل عنوان “المسرح التونسي: مسارات حداثة”، وفي هذا الكتاب يتعرض لأهم المحطات التي مر بها المسرح التونسي منذ الستينات من القرن الماضي وحتى هذه الساعة.

معلوم أن بورقيبة كان قد ألقى خطابا في السابع من نوفمبر 1962، دعا فيه وزارة الشؤون الثقافية التي كان على رأسها آنذاك الأستاذ الشاذلي القليبي إلى ضرورة تشجيع المسرح لتوعية الشعب، وتثقيفه، ورفع مستواه لمواجهة تحديات مرحلة ما بعد الاستقلال. وعلى ضوء ذلك الخطاب التاريخي، بدأت البلاد تشهد انطلاقة مسرحية جديدة لمواكبة التحولات السياسية والاجتماعية في ظل نظام التعاضد الاشتراكي.

وفي تلك الفترة كان المخرج علي بن عياد، الذي توفي بالسكتة القلبية عام 1972، على رأس فرقة بلدية مدينة تونس. وبرعاية وتوجيه منه، قدّمت الفرقة المذكورة مسرحيات لشكسبير وموليير ومسرحيتين بالعربية الفصحى. الأولى من تأليف الأستاذ الحيبب بولاعراس مستوحاة من حياة الطاغية مراد الثالث الذي حكم تونس في أواخر القرن السابع عشر، مرتكبا جرائم ومجازر فظيعة. أما الثانية فكانت بعنوان “الطوفان”، وهي من تأليف مصطفى الفارسي، والتيجاني زليلة. كما قدمت الفرقة مسرحيات شعبية وفكاهية. إلاّ أن الانطلاقة الحقيقية للمسرح التونسي كانت مع “المسرح الجامعي”. فقد شكل بعض الطلبة المغرمين بالمسرح، والمفتونين بالتجارب الطلائعية في أوروبا، وفي فرنسا تحديدا، بتكوين فرقة أنتجت مسرحيات تنتقد أوضاعا سياسية واجتماعية كانت سائدة آنذاك في البلاد. وكان الهدف الأساسي من مسرحيات مثل “حين تحرق الشمس″ التي ألفها محمد إدريس، و”الريش والعروق” لرؤوف الباسطي هو القطع مع الطرق القديمة في الإخراج والتأليف. كما كان الهدف منها أن تكون النصوص المسرحية “مستلهمة من حياة الناس، ومنطلقة من نمط عيشهم المحلي من خلال تصوير صراع الناس البسطاء المحكومين بسلطة الإقطاع، وتصريف مظاهر هذا الصراع من خلال المظاهر الشخصية لكل فرد على خلفية الجهل والتخلف القبلي البالي وسطوة الذهنيّات التقليدية”. أما مسرحية “حديث الحجارة” التي ألفها الثنائي محمد الشعبوني وفرحات يامون وأخرجها علي الراضي، فتصوّر حياة الفلاحين الفقراء في الأرياف، ومواجهتهم المريرة لمصاعب الحياة، ولفصول الجفاف المديدة. كما تنتقد المسرحية أيضا الشعوذة الدينية التي تشل قدرة الناس وتجعلهم يتقبلون ما يسلط عليهم من مظالم وكأنها قضاء وقدر.

وفي فترة الستينات أيضا، أقدم مثقفون شبان، جلهم من الطلبة، على كتابة ما أصبح يسمى بـ”بيان الأحد عشر”. وفي هذا البيان، لم يتطرق الممضون عليه إلى المسرح فقط، بل تعدوا ذلك ليقدموا قراءة للواقع الثقافي الجديد في جميع جوانبه، مؤكدين على دور الثقافة في “بناء التونسي الجديد”، ومنحه القوة والقدرة على المساهمة الفعلية في عملية التقدم والرقي التي لم يكن بورقيبة يغفل عنها في جل خطبه الشبيهة بمونولوجات مسرحية مثيرة ومسلية وبيداغوجية. كما أكد أصحاب البيان المذكور على أن تكون الثقافة “ركنا من أركان النهضة الاجتماعية العامة”، بحيث لا يمكن النظر إليها بتلك النظرة القديمة التي “تجعل الثقافة حلية لقلة من المحظوظين”، بل تعتبر واجبا، و”دعامة للثورة الاجتماعية وشرطا من شروطها الأساسية”.

ويشير عبدالحليم المسعودي إلى أن الموقعين على “بيان الأحد عشر” كانوا على اطلاع على التجارب الأدبية والفنية في فرنسا. والبعض منهم كانوا قد حضروا تظاهرات ثقافية ومسرحية في باريس، وفي أفينيون، وفي نانسي. وجميعهم كانوا معجبين بمخرجين طلائعيين كبار أمثال روجيه بلانشون، وجان داستي، وأنتونان أرتو. لذا كانوا متحمسين للتغيير، والقطع مع الأنماط الكلاسيكية لا في المسرح فحسب، بل في جميع الجوانب الثقافية والإبداعية الأخرى كذلك.

وفي عقد الستينات أيضا، برزت للوجود ما أصبح يسمى بالفرق الجهوية. ومقرات هذه الفرق هي عاصمة الولاية. وكانت فرقة مدينة الكاف الواقعة على الحدود مع الجزائر، والتي أشرف على تكوينها الفنان المنصف السويسي، هي التي بادرت بتقديم أعمال لافته للانتباه. ومنذ البداية، سعت الفرقة إلى أن تكون مرتبطة بالمحيط الذي نشأت فيه، وبتقاليده، وفنونه الشعبية المتميزة. لذا خير المنصف السويسي أن يكون جل الممثلين من مدينة الكاف، أو من القرى والمدن التابعة لها. ورغم المصاعب الكأداء التي واجهها، تمكن المنصف السويسي من تكوين ن ممثلين سيكون لهم إشعاع كبير في ما بعد مثل عيسى حراث، والأمين النهدي، ومحمد بن عثمان وآخرين. كما تمكن من إنتاج مسرحيات لاقت رواجا جماهيريا كبيرا لطرافتها، وحسن إخراجها، وتطرقها إلى قضايا حارقة وموجعة كان المجتمع التونسي يعيشها في تلك الفترة. كما تميزت بالجرأة في تناول تلك القضايا رغم عصا الرقابة التي كانت قد بدأت تضرب على رؤوس المتمردين بين وقت وآخر.

وفي قفصة الواقعة في الجنوب الغربي من البلاد، أسست مجموعة من الشبان من الذين كانوا قد درسوا الفن المسرحي في اوروبا أمثال فاضل الجزيري، وفاضل الجعايبي فرقة مسرحية لم تلبث أن أصبح لها نفس الإشعاع الذي كانت تتمتع به فرقة الكاف. وقد أشرف على هذه الفرقة الفنان رجاء فرحات الذي درس المسرح في روما، وفي ميلانو، وعاد مفتونا بالمسرح الإيطالي. ولأن قفصة هي عاصمة منطقة تكثر فيها مناجم الفسفاط، فإن الفرقة خيّرت منذ البداية أن تكون المسرحيات التي تنتجها عاكسة لهموم العمال، ومعاناتهم الصعبة. وربما لهذا السبب اختارت أن تبدأ مسيرتها بمسرحية عن الزعيم النقابي محمد علي الحامي الذي كان أول من بعث قواعد نقابية للدفاع عن حقوق العمال التونسيين في مطلع العشرينات من القرن الماضي. وبسبب ذلك قامت السلطات الاستعمارية بمحاكمته ونفيه، وتكون وفاته إثر حادث سيارة بين مكة والمدينة. ولكن السلطات السياسية سارعت بمنع تلك المسرحية. مع ذلك واصل الشبان عملهم لينتجوا أعمالا مسرحية متميزة مثل “البرني والعطراء”، و”جحا والشرق الحائر”.

وفي قسم آخر من الكتاب، يتناول عبدالحليم المسعودي بالبحث موضوع المسرح التراثي الذي اشتهر به عزالدين المدني تحديدا. وقد حدد هذا الأخير الملامح الكبرى لهذا اللون من المسرح في كتابه “الأدب التجريبي” الذي انتصر فيه للحركات الطلائعية، مركزا على أن يكون التجديد ابتكارا ولا تقليدا. لذلك دعا عزالدين المدني إلى ضرورة العودة إلى التراث العربي القديم لقراءته مجددا على ضوء قضايا الحاضر. وفي مسرحياته مثل “صاحب الحمار”، و”ورسالة الغفران”، و”ثورة الزنج”، و”رسالة التربيع والتدوير” فقد أعاد صياغة أعمال وأحداث قديمة لتكون عاكسة لقضايا معاصرة تتصل بالدين وبالسياسة وبغيرهما.

وما يمكننا أن نستخلصه من كتاب الدكتور عبدالحليم المسعودي هو أن المسرح التونسي تمكّن من أن يتطور ويتقدم ويشعّ داخل البلاد وخارجها في غياب عصا الرقابة، أما في حضورها فقد شهد تراجعا وتدهورا سواء على مستوى النص أو على مستوى الإخراج. فلا مسرح إذن في غياب الحرية وانعدامها.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *