«المسرح الافتراضي» «لاعب احتياط» لا تقوده روح الإبداع

 

تسللت التكنولوجيا بأسلاكها، إلى خلف أبواب حياتنا، ولم تترك جانباً إلا استوطنت فيه، حتى باتت «الرقمنة» شعاراً نردده في كل وقت وحين، وننسج عليه مشاريعنا وخطواتنا وأعمالنا، وحتى فنوننا الإنسانية، التي طالما أقامت أسسها على تدفق المشاعر والعاطفة والوجدان، تلك هي ميزة الفنون على اختلافها، وعلى رأسها «أبو الفنون»، الذي لا يزال يتمسك بـ «خشبته»، وبعطائه المجرد من «الرقمنة»، التي لا تزال تحاول اقتحام عروضه، وإن كانت قد نجحت في ذلك على استحياء.

انعكاس التطور التكنولوجي على حياتنا، تجلى بوضوح، مع بدء تمدد جائحة «كوفيد 19» على الأرض، حيث جاءت لتخلق واقعاً جديداً، باعدت فيه بين «الأجساد»، بعد أن أدخلت العالم لوهلة من الزمن في «عزلة»، أوقف معها وتيرة أنشطته الفنية، أسكت معها آلاته الموسيقية، واضطر لإغلاق متاحفه ومراسمه، ودور عرضه السينمائية، كما أسدل الستائر على مسارحه، ليغرقها في «الظلمة»، ليتحول البعض نحو درب «العروض الافتراضية»، التي اعتبرها «حلاً مؤقتاً»، ريثما تنجلي «غيوم الجائحة»، وتعود سماء الدنيا إلى صفائها المعتاد. مضيّ البعض في هذا الطريق، جاء من باب إبقاء الحياة متدفقة في «عروق» الفنون، على اختلافها وتوجهاتها.

فغربياً، سلك المسرح درب «العروض الافتراضية»، وإن كان ذلك على «سبيل التجربة»، ولا يعرف ما إن كتب لها «النجاح من عدمه»، بينما عربياً ومحلياً، فقد ظل «أبو الفنون» والمشتغلون فيه، متمسكين بـ «كلاسيكية المسرح»، فلم يركبوا «موجة العروض الافتراضية»، إلا ما ندر، إيماناً منهم بأن «الرقمنة»، وما تتضمنه من «عروض افتراضية»، تفقد «أبو الفنون» سحره وحيويته، وتسلخه عن جمهوره، الذي يمثل «ركنه الأساسي الثالث»، بعد النص والممثل.

ورغم ذاك التغلغل في حياتنا، إلا أن أهل المسرح، لم يؤمنوا، ولم يأمنوا لـ «الرقمنة»، التي اقتصر دورها فقط على مستوى «السينوغرافيا»، وبعض الاستخدامات الأخرى المتعلقة بالإضاءة والصوت، وهو ما يشرع أمامنا سيلاً من الأسئلة العريضة، التي تدور حول قدرة المسرح المحلي على تطويع «الرقمنة» بكل أشكالها ودرجاتها، وإدراجها تحت عباءته الكبيرة، وأيضاً حول مدى قدرة «العروض الافتراضية»، على المساهمة في إيصال العروض المسرحية إلى الناس، في ظل تطبيق سياسة «التباعد الاجتماعي»، وإلغاء كافة المهرجانات المسرحية المتخصصة، التي طالما وجد فيها الممثل متنفساً لتقديم إبداعاته على خشبة «أبو الفنون»، طارقاً من خلالها بعض قضايا المجتمع، وهل يؤمن أبناء المسرح بفكرة «العروض الافتراضية»، وإمكانية تطبيقها محلياً، كحل لإخراج المسرح من «عزلته»، التي يعيش فيها حالياً.

تلك الأسئلة حملناها ووضعناها أمام عدد من نجوم المسرح المحلي، الذين أظهروا «اتفاقاً» عاماً في ما بينهم، بأنه «لا غنى عن أبي الفنون، بغض النظر عن الحقبة الزمنية التي نعيشها»، مؤكدين أن «لحظة الإبداع تتجلى على الخشبة»، وأن «العروض الافتراضية، تفقد المسرح حيويته وتواصله مع الجمهور»، لا سيما أن ضرورة المسرح، تكمن في قدرته على «تشريح» قضايا المجتمع، وطرحها ومناقشتها.

وسائل تواصل

يشير الفنان الدكتور حبيب غلوم، إلى أن فكرة «العروض الافتراضية»، موجودة عالمياً، قبل انتشار جائحة «كورونا المستجد»، وقال: «قد تكون «العروض الافتراضية»، إحدى الحلول التي يمكن أن تتناسب مع طبيعة الظروف التي نعيشها حالياً، ويجب أن ندرك بداية، أنه حتى الآن، لم نلمس أي استخدام حقيقي لـ «العروض الافتراضية»، على ساحتنا الثقافية والفنية المحلية، ويمكننا القول إنها موجودة، ولكن على استحياء»، وأشار غلوم إلى أن الفكرة ذاتها، استخدمت سابقاً، حيث كان الناس يعتمدون على وسائل تواصل مختلفة، لإيصال هذه العروض إلى أكبر شريحة ممكنة من الناس، قائلاً: «تجلت هذه الفكرة كثيراً في الجانب المتعلق بالفنون التشكيلية، والعزف الموسيقي المنفرد، وهي فنون يمكن مشاهدتها، والاستمتاع بمتابعتها عن بعد، من دون أن يكون هناك ضرورة للحضور الواقعي».

الدكتور غلوم، أكد أيضاً أن «أبناء المسرح لا يؤمنون بفكرة «العروض الافتراضية»، مبرراً ذلك بـ «كونها متعبة بالنسبة لهم».

وقال: «تقديم عروض مسرحية في صالة فارغة أو في استوديو، يعد أمراً متعباً لنفسية المبدع، وله تأثير سلبي في إبداع القائم، فهو يجرده من «روحه»، لأن الإحساس باللحظة التي تشع بنبض الحياة، وأخذ الإجابة مباشرة من المشاهد في ذات الوقت، من شأنه أن يزيد من عطاء الممثل، ويحثه على تقديم أفضل ما لديه»، مضيفاً: «مثل هذه العروض، قد تفقد المسرح سحره، وتفقد الممثل شغفه أيضاً، لأن ذلك سيحرمه من معرفه انطباع الجمهور على ما قدمه من إبداع فني، وهو على عكس ما يحدث داخل صالة العرض المسرحي، حيث تتلاقى الأرواح، ويزداد الإبداع ألقاً».

طرق بديلة

من جانبه، بيّن الكاتب والمخرج المسرحي عمر غباش رئيس صندوق التكافل الاجتماعي للمسرحيين: «إن «العروض الافتراضية»، يمكن أن تغطي جزءاً بسيطاً من العملية المسرحية، وتسهم، ولو بشكل بسيط، في عملية تذكير الناس بـ «العروض المسرحية»».

وقال: «رغم ذلك، لا يمكن لـ «العروض الافتراضية»، أن تحل مكان العروض الحية، لأن العرض المسرحي، يحتاج دائماً إلى تواصل مباشر ما بين الفنان والمتلقي، وهو ما يدعونا إلى القول إن العروض الافتراضية، لن تكون حلاً نهائياً، أو لفترة طويلة»، متمنياً أن «تنزاح الجائحة، وأن يعود المسرح إلى الخشبة، حتى يتمكن أبناء «أبو الفنون»، من تقديم عروضهم على الخشبة بشكل مباشر».

ورغم إيمانه بصعوبة «إحلال العروض الافتراضية مكان الحية»، إلا أن غباش أكد أنه يجب على «الممثل المسرحي دائماً، البحث عن طرق بديلة للتواصل مع الجمهور».

تجربة بريطانيا

الفنان ياسر النيادي، اتفق مع زملائه على ذات الفكرة، حيث بيّن أن «الجائحة أثرت في قطاعات كثيرة، ومن بينها الفن والمسرح المحلي». وقال: «على مستوى العالم، هناك نماذج أجريت على هذا الموضوع، وكان لها أثر وفائدة، ولكن في المقابل، يجب عدم إغفال الفرجة المسرحية المباشرة، التي تمثل جوهر المسرح»، وأشار النيادي إلى أن تطبيق «العروض الافتراضية»، قد يكون أمراً مجدياً ومفيداً لفترة معينة، ولكن ليس على المدى الطويل. وقال: «قد تنجح في حال قمنا بإعادة المسرح إلى صياغته القديمة، المتمثلة في «المسرح المصور»، أو «المسرح التلفزيوني»».

النيادي استشهد في حديثه بتجربة «المسرح الوطني في بريطانيا». وقال: «المسرح الوطني في بريطانيا، مضى بتطبيق هذه الخطوة، خلال فترة إغلاق المسارح ببريطانيا، وتمكن من تقديمها بطريقة مذهلة، تمكن الجمهور من معايشة العمل المسرحي، ولم يتعامل معها بأسلوب توثيقي للعمل».

خاصية التفاعل

«العروض الافتراضية»، تشكل جانباً من «رقمنة المسرح»، والتي بدت أشبه بـ «لاعب احتياط» في المسرح المحلي، ليقتصر استخدامه للرقمنة، على مستوى السينوغرافيا فقط، وبعض الاستخدامات الأخرى، المتعلقة بالإضاءة والصوت، وفي هذا السياق، يقول الفنان مرعي الحليان: «المسرح هو الفن الوحيد القائم على خاصية التفاعل بين طرفي معادلة الفرجة المباشرة، ودون ذلك، فلا يمكن أن يتحقق مصطلح التمسرح، فإذا تغيرت هذه المعادلة، يصبح فناً آخر غير المسرح، وهذا أساس لم يتنازل عنه المسرحي منذ مسرح الطقوس الدينية عند اليونانيين، إلى يومنا هذا»، قناعة الحليان بذلك، لم تمنعه من المضي قدماً في الحديث، حيث أشار إلى أن استخدام التقنيات، وما يسمى بـ «تأثيرات الرقمنة»، فإن المسرحيين الغربيين والشرقيين أيضاً، رفضوا إدخالها إلى المسرح، مبرراً قوله هذا، بأن «التأثيرات الرقمية» «تخدش صناعة الإيهام الخاص بالمسرح».

عزلة

في السياق ذاته، يقول الكاتب العراقي أحمد ماجد، إن «إشكالية المسرح، وهي بذات الوقت، ميزته التي يتفرد بها عن باقي الفنون، أنه لا يعيش افتراضياً».

وتابع: «المسرح يتنفس بوجود الجمهور، يحتاجه كل لحظة، ليس لأغراض شكلية أو جمالية، بل لأن الجمهور أهم ركن في المسرحية، وبالتالي، فالمسرح لا قيمة له بلا جمهور، وكل هذا السعي الذي نراه من قبل البعض لإنقاذ «أبو الفنون» من عزلته التي سببتها جائحة «كورونا»، هي مجرد محاولات يشكر القائمون عليها»، مبيناً أن «غايتهم هي إبقاء المسرح على قيد الخارطة الثقافية والمجتمعية».

حديث أحمد ماجد، بدا متسعاً في ما يتعلق بـ «رقمنة المسرح»، حيث قال: «بخصوص الرقمنة في السينوغرافيا، برأيي أن المسرح الإماراتي، وكذلك المسرح العربي، وسطي جداً في التعامل مع هذا الأمر، باعتبار أن معظم العاملين في مسرحنا العربي، يرفعون شعار الكلاسيكية، وهم لا يزالون يقدسون دور الممثل، ويضعون كل ما بعده جماليات، يمكن الاستغناء عنها».

1441

لم تكن التجربة البريطانية في تقديم المسرح الافتراضي هي الوحيدة عالمياً، فعربياً نجح المسرح السعودي، في تحدي العزلة التي دخلها العالم في 2020، وأجبرت الحركة الفنية على التوقف، حيث مضى عدد من العاملين في المجال المسرحي نحو تقديم عروض افتراضية، استطاعوا من خلالها الوصول إلى جمهورهم، في محاولة منهم لاستغلال هذه التقنية والاستفادة منها بشكل أو بآخر.

أحد هذه العروض حمل عنوان «1441» من إخراج أحمد الشايب، وتولى تنفيذها مجموعة من الشباب السعودي، والذي استعرض خلالها «تجربة علمية تسعى إلى استكشاف وسيلة للسيطرة على المشاعر الإنسانية»، وكُتب نصها بنفَس مسرحي اتسم باتساقه مع التقنيات المفروضة بسبب أسلوب العرض الذي أثار آنذاك جدلاً واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تأرجحت الآراء بين مؤيد ومعارض لمثل هذه العروض، معتبرين أنها «تحديث جريء» يطال أعرق الفنون العالمية.

الجمهور ركن أساسي كما النص والممثل

يرى الفنان أحمد الجسمي، أن ابتعاد الجمهور عن المسرح، يفقده واحداً من أركانه الأساسية. ويقول: «المسرح الذي عرفناه، لا يكتمل إلا بثلاث ركائز، هي: النص والممثل والجمهور، وبالتالي، لن يكون «أبو الفنون» مسرحاً، طالما ابتعد عن الجمهور، وفي هذه الحالة، يمكن أن يتحول إلى «مسرح تلفزيوني»، وهذا يفقد المسرح حيويته وتواصله مع الجمهور، الذي يعد عنصراً أساسياً ومهماً في العملية المسرحية».

وأكد أن «العرض المسرحي، عادة ما يكون متصلاً مع الجمهور». وقال: «في المسرح، يشعر الممثل بتكريمه، لا سيما عندما يصفق له الجمهور»، منوهاً بأن مسرح التلفزيون موجود منذ سنوات، وعادة يتم تصوير العرض وبثه على الشاشة.

وذهب الجسمي في حديثه، نحو منطقة أبعد، ليركز على أهمية وجود الجمهور في صالات العرض المسرحي، حيث قال: «أحد أهم الأشياء التي تتصل بالجمهور، هي العروض الاجتماعية الكوميدية، حيث تسهم ضحكات الجمهور في إحياء الممثل، وتمنحه الدافع والاندفاع إلى تقديم المزيد من العطاء، وبالتالي، المسرح لا ينقطع عن الجمهور».

نحو رؤية ابتكارية تضمن استمرار العروض الحية

أكدت فاطمة الجلاف مديرة إدارة الفنون الأدائية بالإنابة في هيئة الثقافة والفنون بدبي، أن «المسرح الإماراتي، واجه تحديات في دمج الرقمنة والتكنولوجيا في المسرح الحقيقي».

وقالت: «طبيعة المسرح الحقيقي، تختلف عن المسرح الافتراضي، والذي أراه أقرب إلى السينما، وبتقديري أن المسرح لم يجد الرؤية الكاملة لاستمرار العروض المسرحية، ولم يجد أفكاراً ابتكارية ضمن هذا الوضع الاستثنائي، إلا في تقديم الورش النظرية، والملتقيات في سرد التحديات فقط»، وتابعت: «من وجهة نظري، أنه يجب على الفنانين الاطلاع على تجارب الدول الأخرى، مثل بريطانيا ودول أوروبا، في صناعة المسرح الرقمي، من خلال أبسط الإمكانات، وأكثرها تأثيراً في المجتمع، وأوسعها نطاقاً على العالم».

روح

فاطمة الجلاف، بيّنت أن «الرقمنة» والعروض الافتراضية، يمكنها أن تفقد المسرح «روحه الخاصة». وقالت: المسرح فقد الروح الخاصة في توصيل الرسالة الحقيقية للمجتمع، إذ وضع استخدام التكنولوجيا، تلك الروح في قالب ضيق، لا يستطيع المسرح ولا الفنان التنفس من خلاله.

 

المصدر:

  • دبي ـ غسان خروب
  • https://www.albayan.ae

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش