المسرح الأمريكي

 

نشر / محمد سامي موقع الخشبة
عند الحديث عن المسرح الامريكى لابد أن نضع فى اعتبارنا مجموعة الظروف الكثيرة المتنوعة التى شكلت المسرح الامريكى، إذ هو يختلف من حيث ظروف النشأة عن المسرح الأوروبى.
فمن البديهى أن نعرف أن البداية الأولى للمسرح الامريكى خضعت لمجموعة من الظروف تكون فى مجموعها تركيبة خاصة بامريكا نفسها، وهى تركيبة أثرت بشكل واضح لا فى الحركة المسرحية فقط، بل فى الحركة الأدبية والفكرية بصفة عامة، سواء كان ذلك فى ميدان الشعر أو الرواية الطويلة أو القصة القصيرة أو الطويلة أو الفلسفة.
بل أن التعرف على الحركة الأدبية فى الولايات المتحدة لا يزال يتطلب من القارئ إلماماً مبدئياً على الأقل بتلك التركيبة الخاصة التى أشرت إليها، ذلك أن الانسان مثلاً لا يستطيع أن يفهم الكثير من الروايات والأشعار التى كتبت فى هذه الفترة دون أن تكون لديه خلفية كافية عن الحياة الفكرية والحركة الدينية فى أمريكا منذ نشأتها، وهى الخلفية التى لابد أن نفهمها عند تعرضنا لدراسة الأعمال المسرحية الامريكية.
إذا أردنا أن نتعرف على الظروف التى جعلت للمسرح الامريكى هذه التركيبة الخاصة نجد أولها أن المسرح الامريكى لم يكن له وجود قبل نشأة الولايات المتحدة الأمريكية – هذا ما يؤكد حداثته إذ ما قورن بالمسرح الغربى- سواء فى الفترة التى سبقت الاستقلال أو بعده، ومنها أيضاً، وهو الأهم أن الولايات المتحدة الأمريكية نشأت على ايدى اناس ذوى مزاج دينى خاص أثر فى الحركة الأدبية والفكرية فى القارة الجديدة.
معنى هذا أن الطقوس الدينية والاجتماعية التى كانت تمارسها القبائل هناك قبل وصول الرواد المهاجرين الأوائل القادمين من أوروبا فى بداية القرن السابع عشر كانت تمثل بالفعل البذور الأساسية للدراما وهو ما يذكرنا بطقوس الأغريق التى كانت الأساس لنشأة وتطور الدراما الأغريقية.
غير أننا لابد وأن نؤكد على حقيقة أولى وهى أن المسرح الأمريكى لم يبدأ كتطور لهذه الطقوس، لأن المهاجرين الأوروبين اتخذوا موقف العداء السافر من قبائل الهنود الحمر منذ وطئت أقدامهم أرض العالم الجديد ولعلهم فى ذلك أصحاب حق إذ أنهم قدموا من أوروبا أرض النهضة الفنية الشاملة فكيف يأخذون من هذه الطقوس البدائية.
مما سبق نأتى إلى حقيقة تزدهر وتؤكد نفسها. وهى أن المسرح الامريكى حينما بدأ جاء مسرحاً أوربياً مستعاراً يعتبر أمتداداً لما يحدث فى أوروبا وأنعكاساً له، وهنا تكمن المفارقة فى هذه التركيبة التى تحكمت فى تاريخ المسرح الامريكى.
إن المسرح الامريكى تحكمت فيه حتى وقت قريب، ولا أكون مبالغاً إذا قلت وما زالت تتحكم فيه ظروف أوروبية بحتة نشأت عن طبيعة المهاجرين الذين توافدوا على العالم الجديد فى موجتين كبيرتين فى مطلع القرن السابع عشر – 1620 – 1629 ، والظروف التى تركوا فيها بلادهم، والأفكار التى نقلوها معهم إلى دنياهم الجديدة، وهذا موطن التفرد فى المسرح الامريكى والحياة الثقافية كلها فى العالم الجديد.
معنى هذا أن المسرح الامريكى اعتمد أساساً حتى مطلع القرن العشرين وحتى ظهور (يوجين أونيل) على وجه التحديد على الاستعارة والاقتباس من القارة الأم. وتلك هى الحقيقة التى تجعل الكثير من النقاد ودارسى الدراما يقولون… إن الدراما الامريكية لم تصبح امريكية تماماً إلا منذ أربعين عاماً تقريباً، عندما استكملت النضج فى مسرحيات ” يوجين اونيل” و “روبرت شيروود ” و ” ايلمر رايس” و ” سيدنى هوارد” وغيرهم من مؤلفى المسرحيات فى القرن العشرين، ومع ذلك فإن الدراما الامريكية عكست منذ البداية تقريباً، وبالرغم من تأثرها الشديد بالانماط الأوروبية والبريطانية بوجه خاص – الطباع والعادات، والمميزات والمثل، ونقاط الجدل والمنازعات القومية الامريكية، أثناء ظهورها وتطورها مع أوروبا فى نموها.
على أننى لابد وأن أؤكد أن معظم المسرحيات الأولى لم تصمد أمام الزمن صموداً يكفل لها الحياة، فإن الطباع والعادات والمميزات الامريكية تغيرت كثيراً، بدرجة تجعلها خليقة بإن تبدو غريبة ومضحكة على منصة المسرح اليوم، غير أن بعضاً منها لا يزال مادة طريفة للقراءة، لانها تعكس صور مثل، ومسائل ذات قيمة، ومنازعات كبرى قومية، ساعدت على تشكيل الولايات المتحدة.
معنى هذا أننا نستطيع القول أن هذه الأرض البكر لم تعرف شيئاً عن الفنون الدرامية طوال القرن السابع عشر وعقب الاستقلال والثورة ضد بريطانيا العظمى، كتبت بعض الأعمال المسرحية وسنجدها كلها تندد بالاحتلال- وهذه هى طبيعة الكاتب المسرحى إذا ما كتب وبلاده تحت نير الاستعمار – فقد كتب الكولونيل ” روبرت منفورد” تمثيلية هزلية كوميديا ” بإسم” الوطنيون ” حيث يساق فيها الذين يشتبه فى ولائهم للمثول أمام لجنة الأمن.
ومن الطبيعى أن مواطنى أمة جديدة، وليدة ثورة دامية ضد طاغية أجنبى كانوا بحاجة إلى إبراز شعور وطنى وحب للحرية، وكان هذا هو الموضوع الرئيسى لكثير من مسرحياتنا، مثل ” معركة تنكرهيل” لجون بيرك والتى أخرجت فى بوسطن عام 1797، غير أنها لم تقل شيئاً سوى الخطب الطنانة فى موضوع التمرد البطولى على الطغيان والظلم الفاحش.
على أننا قبل أن نمضى للتعرف على أولى المحاولات والبدايات لظهور أعمال مسرحية، لابد وأن نؤكد أن القول بإن الحركة المسرحية توقفت فى أثناء حرب الاستقلال الامريكية قولاً بعيداًَ عن الصواب، فالواقع أن الحركة المسرحية لم تتوقف تماماً برغم تضافر الجهود الدينية والسياسية على ذلك: ففى أثناء القتال من أجل التحرير كانت العروض المسرحية تقدم على جانبى خط إطلاق النار، وكانت العروض ووسائل الترفيه عن المقاتلين فى أثناء ركود القتال بين الجانبين، واحياناً كانت النصوص تمتلئ بالسخرية اللاذعة من الجانب الآخر، المهم فى هذا أن الممثلين فى هذه الفترة كانوا من المقاتلين الهواة، إذ أن الممثل المحترف اختفى مع بداية الحرب وحل محله الفنان الهادى، وعندما ينتهى القتال بجلاء القوات البريطانية عن أمريكا سرعان ما يعود الممثل المحترف إلى خشبة المسرح.
لكن حصول امريكا على الاستقلال واختفاء المعارضة السياسية التى ظهرت فى بداية الحرب لا يعنى اختفاء المعارضة الدينية للمسرح، فبرغم الاستقلال وبرغم حرص ” جورج واشنطن” رئيس الجمهورية الشابة، على حضور العروض المسرحية فى نيويورك، إلا أنه ظل مبدأ قوياً أمام الحركة المسرحية وهو الدين الذى دعا المشتغلين بالمسرح فى أكثر من فترة إلى تقديم عروض مستترة بأسم ” محاضرات اخلافية” أو ما شابه ذلك، وبرغم تلك المعارضة فإن المد المسرحى كان قد بدأ ولم يعد باستطاعة أحدا ايقافه، فنشطت الحركة المسرحية ونمت بسرعة غريبة.
ويرجع الفضل فى ذلك مرة أخرى إلى ” هالام ” الذى سيأتى الحديث عنه بعد ذلك- وفرقته التى عادت لممارسة نشاطها.
وفى ظل هذه الظروف السياسية الجديدة التى أججت الشعور الوطنى والفخر بكل ما هو أمريكى بدأت الفرقة نتيجة إلى تقديم نصوص مسرحية امريكية، وتعد تلك الفترة بداية بحث المسرح الامريكى عن ذاته.
ومن نتائج هذ البحث عن الذات ظهور أول عرض أمريكى متكامل، وهو مسرحية “التناقض” ” “لرويال تيللر” التى قدمت فى نيويورك فى ابريل عام 1787 ، وفيها يتضح هذا الاتجاه الجديد للبحث عن الذات، إذ إن المسرحية تتناول كشف زيف الحياة الأوروبية لأن قطبى الصراع فيها شخصيتان: الأولى تتمثل فى التمسك بالتقاليد والأفكار البريطانية والأخرى تتمثل فى الحياة الامريكية ببساطتها وقسوتها وبعدها عن التعقيد والنفاق. وبرغم السخرية اللاذعة من كل ما هو انجليزى فإن المؤلف يعتمد أساساً على البناء الدرامى المألوف لمسرح عودة الملكية فى انجلترا. وهذا أمر طبيعى، فالمسرح كان شيئاً جديداً على أرض أمريكا، وقد كان كل من غرسوا جذوره فى تربتها اناساً قدموا من انجلترا أو ممن كانوا أصلاً من الانجليز أو آخرين تلقوا تعليمهم فى انجلترا، أو ممن اقتصرت دراستهم على المسرح الانجليزى.
وكثيراً ما ينظر إلى ” الدولية ” فى امريكا على أنها موقف جديد نسبياً قد يرجع عهده إلى الحرب العالمية الأولى، ولكن وجودها من عهد مبكر جداً يتضح من خلال “تراجيدية” “أندرية” لويليام دنلاب وقد اخرجت على مسرح بارك “بنيويورك” فى سنة 1798، إذ بنى “دنلاب” مسرحيته على حقبة واقعية من الثورة: حيث تقدم ببساطة قصة ميجر فى الجيش البريطانى ضبط بملابس مدنية وراء الخطوط الامريكية فحكم عليه أمام محكمة عسكرية بتهمة الجاسوسية وشنق، والمؤلف يسعى من وراء استخدام حبكة، وعدة محاولات عقيمة للحصول على عفو عن أندرية إلا أنه يفشل.
ومع تراجع الحرب الثورية إلى الماضى أخذ موضوع الانتعاض البطولى ضد الطغيان والظلم يبدو فى صور جديدة. صور تسعى إلى اظهار الامريكى فى صور إنسانية أخرى. وساعد فى هذا التوسعات العمرانية التى حدثت فى الغرب الامريكى. وكذا فى الشرق وراحت هذه المدن تنتج حياة شبيهة بما كانت عليه الغابات النائية فى “كنتكى” من خشونة فطرية وغنى بالألوان والحياة … وفى عام 1848 قدمت مسرحية ” نظرة إلى نيويورك” وهى تقدم شخصية ” موز” أو موسى الفتى المتسكع الذى كان يحب الجرى مع مضخة فريقه من المتطوعين لإطفاء الحرائق ولم يكن يستمتع بشئ قدر استمتاعه، بالشجار والتصارع مع المنافسين من مكافحى الحرائق.
وقد اتسع نطاق تقدم الموضوع العظيم المفضل فى المسرح الامريكى وهو موضوع الحرية والثورة ضد الطغيان ليتعدى حدود أمريكا ويصل إلى بلدان أوروبية أخرى ندور بها احداث المسرحية كما فى مسرحية ” المجالد” التى كتبها “روبرت مو نتجمرى بيرد” وعرضت عام 1831 وهى تذكرنا بقصة ” سبارتاكوس” وثورة العبيد ضد الحكام الظالمين.
على أن موضوع البحث عن الذات الذى أصيب به المواطن الأمريكى سوف لا يستمر طويلاً على هذه السذاجة الثقافية من الرفض الصريح لكل ما هو إنجليزى. إذ سرعان ما تخبو هذه الكراهية السياسية وتعود الحياة المسرحية فى أمريكا للاستيراد المباشر للنصوص الإنجليزية وخاصة نصوص شكسبير، مع استمرار البحث الهادئ البطئ عن الذات. ولم يكن مقدراً بالطبع أن تستمر الفرقة الأمريكية على احتكارها للحركة المسرحية فى الولايات المتحدة. إذ أن نجاحها أحياناً والخلافات التى كانت تدب بين أعضائها أحياناً أخرى- أدى إلى ظهور فرق منافسة متعددة، وكان نجاح فرقة ما يؤدى إلى استئثار المدنية التى تتمركز فيها هذه الفرقة بريادة الحركة المسرحية فى أمريكا كلها، مثل نيويورك وفيلادلفيا، وبوسطن.
ومع بداية القرن التاسع عشر، ومع انتهاء احتكار الفرقة الواحدة للحركة المسرحية بدأ التنافس الشديد بين الفرق العاملة فى مدن أمريكا الكبيرة. وبدافع من هذا التنافس ثم الرغبة فى تحقيق ربح مادى مجز – بدأت الفرق المسرحية تتعاقد هى ونجوم إنجلترا الكبار. وحينما تم التعاقد مع الممثل الإنجليزى الشهير “كوك” عام 1811 وحققت عروضه نجاحا لم يره العالم الجديد من قبل أصبحت سياسة الاعتماد على الأسماء اللامعة سياسة ثاقبة وضعت حداً لنظام الفرقة الدائمة الذى عرفته أمريكا منذ البداية. منذ وصول “كوك” إلى آخر القرن التاسع عشر أصبح النجم المسرحى أهم شئ فى العرض.
وقد ساعدت الظروف على ازدياد الاعتماد على النجم حيث أنه مع بداية العقد الثانى من هذا القرن بدأ المسرح أيضاً يتبع خطوات الرواد الأوائل الذين غزوا الغرب، وسرعان ما انتشرت المسارح فى وادى أوهايوو فى المسيسبى وشيكاغو. وهكذا أصبحت الصورة فى منتصف القرن مختلفة تماماً، ولم تعد المسارح مقصورة على مدن مثل نيويورك أو فيلادلفيا وغيرها من مدن الساحل الشرقى، بل أصبحت تنتشر فى رقعة أكبر، وأصبح زحفها فى اتجاه الغرب لا يتوقف أبداً.
لكن الغريب أن الولايات المتحدة فى بحثها عن الذات لم تنتج طوال هذا القرن تقريباً مؤلفاً مسرحياً يؤكد ذاتها، لكنها اتجهت إلى إنتاج الممثل المسرحى المحلى. كان تأكيدها لذاتها إذن عن طريق محدد من الممثلين والممثلات الذين برعوا فى أداء أدوار إنجليزية وأوربية.
وقبل إنتهاء النصف الأول من هذا القرن أنتجت أمريكا أول مؤلفة مسرحية وهى “آناكورا أوجدن” التى قدمت لها أول كوميديا أمريكية خالصة فى مارس 1845 بعنوان الموضة Fashion – والمسرحية تذكرنا بأول كوميديا أمريكية وهى “التناقض” التى سبق أن أشرنا إليها، فهى أيضاً تتناول بالسخرية ذلك الولع بكل ما هو أوربى- باعتباره موضة وتجاهل كل ما هو أمريكى، وهو النمط التقليدى- لمحدثى النعمة من مجتمع نيويورك. وقد تأثرت “أنا أوجدن” كما تأثر ” تيللر” ” بـ ” شيريدان” مع فارق أساسى. وهو أن معرفة المؤلفة بمجتمع نيويورك وخفاياه مكنها من خلق شخصيات أمريكية صرفة، وهذا ما أخفق فيه “تيللر” من قبل.
لكن البحث عن الذات فى المسرح الأمريكى كان قد قطع شوطاًَ بعيداً صحيح أن أمريكا لم تستطع حتى الآن أن تنتج شكسبير أو شريدان لكن المثقفين بدءوا يظهرون ضجرهم بالتقليد ويعلنون سخطهم عليه! وأمامنا كلمات الفنان والناقد الشهير ” إدجار آلان بو” فى برودواى جورنال بتاريخ 29 من مارس عام 1845 وهو يعلق على مسرحية “الموضة” معلقاً على بعض جوانب النقص فى المسرحية.
– إنها مخلفات عصر كان الناس فيه
– يقنعون بالقليل من ذلك الفن الطبيعى الذى
– لم يكونوا يدركون طبيعته تماماً، وهى
– نقائص ظلت معنا بسبب روح التقليد.
– السلبى … يجب أن نتخلص من كل
– النماذج ونهجر المسرح الإليزابيثى، فقد
– حان الوقت لنفكر فى مسرح خاص بنا !
وفى الوقت نفسه تقريباً يكتب شاعر آخر ينتمى إلى نفس الجيل، وهو شاعر أمريكا الكبير “وولت وتمان” مهاجماً المسرح الأمريكى يقول …
وتمان فى النسر فى 8 من فبراير عام 1847 :-
– إنه محاكاة من الدرجة الثالثة لأفضل
– مسارح لندن، فهو يقدم لنا المسرحيات
– المهجورة والممثلين الإنجليز الذين لا يجدون
– عملاً، لهذا فإن كل ما فى هذه النصوص
– وهؤلاء الممثلين لايناسبنا تماماً كالملابس المستعملة التى يخلعها السيد على خادمة.
والواقع أن البحث عن الذات كان قد أكد نفسه بالفعل فى ضروب أخرى من الفنون والآداب غير الدراما، فمع انتصاف هذا القرن كانت أمريكا قد أخرجت روائيين مثل، ” ملفيل” و ” هورثون” وشعراء كباراً مثل “بو” و “وتمان” ومفكرين وفلاسفة مثل “أمرسون” وهذا يفسر الفقر الغريب فى الكتاب المسرحيين الكبار برغم مرور أكثر من قرن على بداية الحركة المسرحية فى أمريكا.
تم إن التأليف المسرحى فى تلك الأيام لم يكن يضمن لصاحبه دخلاً مضموناً كذلك الذى تدره الكتابه فى ميدان القصة والشعر والرواية والفلسفة، أضف إلى هذا كله أن الاعتماد على النجم المسرحى وهو الاتجاه الذى بدأ مع مطلع القرن التاسع عشر – بدأ يتسبب فى فساد الحياة الفنية، إذ أن النجم عادة كان يتحرك ومعه “ريبرتواراً” محدداً من النصوص، بل إنه فيما بعد كانت تكتب له نصوص مسرحية تلائم مواهبه بصرف النظر عن العاملين معه. وهذا كله أدى إلى ابتعاد الفنانيين الجادين عن محاولة الكتابة للمسرح والاتجاه إلى ألوان أخرى من الآداب والفنون.
ومع بداية النصف الأخير من هذا القرن حدثت عدة تطورات هامة فى المسرح الأمريكى كان أولها انتهاء المعارضة الدينية للمسرح تقريباً، ويرجع الفضل فى هذا التطور الجديد إلى مسرحية “كوخ العم توم”، (يوليو 1853)، كانت تلك المسرحية ميلودراما تجعل الدموع تنهمر من عيون كل من فى الصالة، حتى هؤلاء المعارضيين لسياسة إلغاء الرق ! كانوا يبكون أمام معاناة الزنجى العجوز على خشبة المسرح، ومنذ ذلك اليوم سقطت بقايا قلاع المقاومة الدينية المستترة. صحيح أن المقاومة الدينية كانت قد فقدت فاعليتها منذ وقت طويل، لكن كان هناك الكثيرون من المتدينين الذين ينظرون إلى المسرح بعين الاحتقار أو عدم الرضا، لكن نجاح العم توم غير نظرتهم إلى المسرح، فأصبحوا ينظرون إليه كعنصر تطهير وتثقيف.
أما التطور الهام التالى فهو دخول الواقعية إلى المسرح الأمريكى، وإن أهمية هذا التطور تكمن فى أن هذا المسرح قد عرف الواقعية قبل أن يعرفها المسرح الأوروبى ممثلة فى إخراج ” أندرية أنطوان” وفى اقتباسات روايات ” إميل زولا” ومسرحيات “إبسن” وقد اتخذ الاتجاه إلى الواقعية فى المسرح الأمريكى عدة مظاهرة منها:-
أولاً: الأداء، فقد أدت عيوب النجم الذى ساد النصف الأول من هذا القرن إلى ظهور الفرق المسرحية الثابتة التى تعتمد على تقديم عروض جماعية ذات ثقل، مما أفسح المجال أمام النجوم الأمريكيين الموهوبين من بينهم ممثلون وممثلات نجحوا فى إدخال الأداء الواقعى إلى خشبة المسرح.
ثانياً: الديكور: وفى هذا أيضاً عرف الأمريكيون الواقعية قبل أوروبا لسنوات طويلة، واستمروا بعد ذلك سادة الواقعية فى هذا المضمار ففى عام 1857 قدم أحد المسارح فى نيويورك مسرحية بعنوان ” فقراء نيويورك” ، وفيها مشهد حى لأحد البيوت تلتهمه النيران أمام أعين المتفرجين، ربما كان ذلك مغالاة فى الواقعية، ولكن المغالاة فى- الواقعية هى إحدى السمات الأساسية للواقعية الأمريكية فيما يتعلق بديكور المسرح، (فى الثلاثينيات من القرن العشرين، كان الجمهور يشاهد على خشبة المسرح نافورة مياه حقيقية يلعب الصبية نصف عراة فى الحوض المحيط بها).
ثالثاً: وهو الأهم، النص المسرحى: لقد كان اعتماد الكتاب الأمريكيين على أصول أوروبية ثم رغبتهم فى الوقت نفسه فى تقديم عرض أمريكى الطابع سبباً فى ظهور هذا الاتجاه. مثلاً: فى العرض الذى أشرنا إليه من قبل، وهو ” فقراء نيويورك” اعتمد المؤلف على نص فرنسى كامل بعنوان ” فقراء باريس” وعند نقله إلى الإنجليزية ومحاولة إضفاء الطابع الأمريكى عليه لجأ الكاتب إلى إضافة شخصيات ثانوية تنبع من واقع نيويورك ذاتها حتى ينجح فى إيهام جمهوره بأنه يصور فعلاً حياة فقراء نيويورك.
أضف إلى هذه العوامل الثلاثة عاملاً آخر هاماً وهو عامل تقنى بحت، إذ أنه مع بداية النصف الأخير من القرن التاسع عشر بدأت الأختراعات فى ميدان الإضاءة المسرحية تتوالى الواحد بعد الآخر، مما مكن مصمم الديكور والمخرج المسرحى من التحكم فى كثافة الضوء ودرجته لتقوية عنصر الإيهام بالواقع فوق خشبة المسرح. وانضمت إلى تلك التطورات فى دنيا الإضاءة المسرحية تطورات أخرى لا تقل أهمية فى معمار المسرح، ساهمت هى الأخرى فى التمهيد للمسرح الواقعى. وقد جاء إفتتاح مسرح “بوث” فى الثالث من فبراير عام 1868 بمسرحية ” روميو وجولييت” بمثابة مرحلة أخيرة لعدة تطورات فى فن المعمار المسرحى: كانت المقدمة أو “الآفانسية” قد اختفت تماماً، واختفى البابان التقليديان على جانبى فتحة المسرح وأصبح العرض كله يقدم خلف فتحه المسرح وليس أمامها. وقد توفرت المساحات والأجهزة اللازمة تحت خشبة المسرح وفوقها لتحريك المناظر وتغييرها فى وقت قصير.
وسرعان ما أضيف إلى كل هذه العوامل عامل جديد اشتركت فيه الحركة المسرحية فى أمريكا مع بقية الحركات المسرحية فى أوروبا، ونعنى به ظهور المخرج – المنتج- المدير، وهو الشخصية القوية أو ” الرجيسير” الذى مهد لظهور الواقعية فى أوروبا وأمريكا، من أمثال ” دوق ساكس ما- نجان” و ” أندريه أنطوان” و ” ستانسلافسكى” فى أوروبا و ” إجستين دالى” ثم ” دافيد بيلاسكو” فى الولايات المتحدة، وهى أسماء ارتبطت جميعاً بالمسرح الواقعى وإزدهاره.
وكان من الطبيعى أن تثمر هذه العوامل مجتمعه لتعطى المسرح الأمريكى نصاً درامياًً واقعياً فى نهاية الأمر، ولم يطل الانتظار: ففى ربيع عام 1891 قدمت نيويورك عملاً جديداً اعتبر رائداً للحركة المسرحية فى ذلك الوقت، وهو مسرحية ” مارجريت فلمنج” لمؤلفها “جيمس هيرين”، وقد أثارت المسرحية ضجة كبيرة جداً فى ذلك الوقت، فالبطلة تمثل المرآة التى تدافع عن حقوقها كإنسانية، وهى فى هذا تعد “نورا” المسرح الأمريكى، والمؤلف هنا يهاجم نفاق الأزواج الذين يسمحون لأنفسهم بارتكاب أخطاء لا يسمحون لزوجاتهم حتى مجرد التفكير فيها. وهذا المفهوم التقدمى فى ذلك الوقت كان السبب وراء الاستقبال البارد الذى قوبلت به المسرحية فى نيويورك وفى أماكن أخرى.
وما يعنيننا هنا أننا ونحن على أبواب القرن العشرين نواجه بأول مؤلف مسرحى واقعى. صحيح أن العقلية الأمريكية التى تمتد جذورها فكرياً إلى الفكر البيوريتانى المتعصب لم تكن لتقبل هذا التحرر، وهى العقلية التى هاجمت هى نفسها بالعنف نفسه مسرحية “الأشباح” لإبسن فيما بعد (1894) لكن المهم أن مسرحية “هيرين” كانت الثمرة النهائية لتيار الواقعية فى المسرح الأمريكى. فلقد تحاشى المؤلف الحدث العنيف واستبدل به مشاهد البانتومايم فى المشاهد العاطفية، واعتمد بحرية كبيرة على التفاصيل الواقعية الدقيقة، واستخدم نهايات الفصول الطبيعية غير المصطنعة أو المتكلفة.
والملاحظ هنا أنه مع ازدياد تيار الواقعية فى أمريكا فإن العالم الجديد لم يستطيع أن يقدم للعالم “إبسن” أخر أوستدندبرج، بل إنه لم يستطع أن يقدم كاتباً مسرحياً مرموقاً قبل عدة سنوات من بداية القرن العشرين وهو “أونيل” بعد أن كانت موجة الواقعية قد انحسرت عن أوروبا بالفعل.
ومما يستدعى النظر أن الواقعية فى المسرح الأمريكى ركزت على ما استحدثته العقلية الأمريكية من تجديدات تقنية فوق خشبة المسرح، وكانت تلك الحركة أحياناً- تحت ضغط الإحساس بتأكيد الذات فى وجه المنافسة الأوربية- تجنح إلى المغالاة فى تصوير الواقع. وكان “يلاسكو” من أشهر من غالوا فى واقعيتهم على خشبة المسرح، والمفارقة هنا تكمن فى أنه فى غياب المؤلف المسرحى الأمريكى الذى يساير الحركة الواقعية كان “يلاسكو” يقدم كمنتج ومخرج عروضاً ميلودرامية صرفة فوق خشبة مسرح تعج بكل تفاصيل الواقعية الحرفية، بل إن حرفية “بيلاسكو” لم يتفوق عليها سوى فن السينما فيما بعد.
وهكذا ينتهى قرن حافل بالحركة والتغيرات. فمع بداية القرن العشرين كان فى أمريكا أكثر من خمسائة فرقة مسرحية، لكن هذه الفرق كانت قد بدأت تتجمع فى مجموعات تسيطر النقابات على كل شئ فيها. والمهم أن هذا العدد الهائل يصور مدى ازدهار الحركة المسرحية إلى حد أن أصبح العمل فى المسرح تجارة من أنجع ألوان التجارة، وهذا يفسر حقيقة هامة فى تاريخ المسرح الأمريكى، وهى أن الدولة لم تسهم قط فى تمويل تلك الحركة- باستثناء فترة قصيرة من عام 1935 إلى 1939 فى أعقاب الأزمة الاقتصادية الشهيرة. لقد كان المسرح الأمريكى ومازال كياناً مستقلاً عن الدولة. كيانا تجاريا إلى حد كبير. وقبل نهاية القرن اختفى الاعتماد على النجم وظهر دكتاتور جديد هو المنتج المخرج الذى أصبح يسيطر على كل شئ، حتى صنع النجوم، ثم إن الكتابة للمسرحية أًصبحت عملاً مربحاً يضمن لصاحبه حياة ميسرة، ومع ذلك فلم ينتج هذه القرن كاتباً مسرحياَ يعتد به، وتركت هذه المهمة للقرن التالى.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *