المسرحي الأردني غنام غنام:أنا متعولم جدا مع حفاظي على هويتي كاملة / نور الهدى عبد المنعم

المصدر / مسرحنا / نشر محمد سامي موقع الخشبة

منذ أيام وخلال فعاليات الدورة (28) لأيام الشارقة المسرحية 2018، حصل على جائزة الفنان العربي المتميز عن عرض «ليلك ضحى» مؤلفًا ومخرجًا، وفي زيارته لمصر التي أعقبت حصوله على هذه الجائزة، كان لنا معه هذا الحوار حول الجائزة وموضوعات أخرى.. هو الفنان الأردني غنام غنام.    
 ماذا تمثل لك هذه الجائزة؟    
الحدث كله بالنسبة لي مهم لسببين، الأول هو أنني منذ سبع سنوات مقيم في الشارقة، أعمل مع الهيئة العربية للمسرح، ولم أدخل في ميدان تقديم تجربة في الإمارات، فكل أعمالي أقوم بها وحدي وأعرضها خارج الإمارات، وليس لي علاقة بالفرق المحلية، لكن في 2017 كانت هناك مؤامرة جميلة من الشباب بالمسرح الحديث في الشارقة ودعمهم الأستاذ إسماعيل عبد الله، حيث مكنني من تنفيذ العمل المسرحي، و وجدت الوقت بمساهمة جميلة من الزملاء حسن النفالي وريما الغصين وكل الفريق، تحملوا جزءا كبيرا من عملي الإداري وأعطوني الفرصة لأقدم عرضًا، فاخترت «ليلك ضحى»، وهو آخر نص كتبته، كنت قد بدأت كتابته في عام 2015 وأخذ عاما كاملا في كتابته، ولم يستغرق هذا الوقت لصعوبة موضوعه، لكن لأنني كتبته بتكنيك صعب في البناء، وقد يبدو سهلاً للمتلقي. هذا النص يمثل لي حالة خاصة، حيث اكتشفت بعد الانتهاء من كتابته أنه قد بقي يومان على انتهاء التقدم لجائزة الإبداع في الأردن، وكان قد مر وقت طويل لم أتقدم خلاله لمسابقات، فقدمته والحمد لله فاز بالجائزة. من المصادفات الأخرى، أن (الهيئة الدولية للمسرح – مكتب اليابان) كانوا يتابعون مشروعهم للعام التاسع «المسرح في مناطق الصراع» وكانوا على تواصل معي للحصول على نصوص، فطلبوا النص الذي فاز بالأردن وأرسلته لهم، فإذا بهم يقومون بترجمته ومن ثم بتكليف فريق لتقديمه بقراءة مسرحية، وقاموا باستضافتي و قدمت حوله ندوتين، و تتجه النية عندهم الآن لإنتاجه؛ ولذلك حين أتيحت لي الفرصة في الشارقة لأقدم عرضًا، قررت أن أقدم الصيغة الخاصة بي قبل أن يقدم اليابانيون صيغتهم وتكون هي الأصل؛ وهناك سبب آخر لاختياره، أنه رُفض في دولتين عربيتين، حيث أن صديقين مخرجين طلباه مني لتنفيذه وقدماه للإجازة ورفض، على الرغم من أن اسمه «ليلك ضحى/ الموت في زمن داعش»، و يعالج موضوعاً تعاني الدولتان منه، وهو وجود داعش على أراضيهما، ومع ذلك رفض النص لأنه يساوي بين مسئولية أولي الأمر ومسئولية المتطرفين في هذا الأمر، وأنا مقتنع بهذا الرأي، فالجهتان مسؤولتان عن وصولنا إلى هذه المرحلة. و حين قدمته في الإمارات، أجازته لجنة النصوص وسجلت بذلك الدولة موقفاً متقدماً على غيرها، وحظيت بفريق أحبه جدًا من الممثلين والممثلات والتقنيين، فجلسوا مع على الطاولة قبل الانتقال إلى الحركة خمسة أسابيع، قمنا خلالها بإعداد الإضاءة والموسيقى والشخصيات وكل شيء، فوقفنا على خشبة المسرح بكل ثقة، قدمنا عمل بذائقتنا وشروطنا التقنية التي أردناها والتي تصل إلى مرحلة معقدة ومركبة جدا بالنسبة لصانع للعمل رغم سهولتها للمتلقي، وهذا ما أعمل عليه في كل عروضي، طبعًا الناس أثنو على نتيجة الجائزة التي أشكرهم عليها، وكان من الممكن أن يحصل عليها فنان عربي آخر من المشاركين في أيام الشارقة، حصولي عليها شرف كبير لي. لم أكن أظهر ككاتب جيد ومخرج جيد لولا الفريق الجيد الذي عمل معي وحمل الرسالة كاملة من حيث الشكل والمضمون، وبالتالي اكتشف الناس الذين أعمل معهم منذ سبع سنوات حقيقتي، وهي أنني فنان عملاني  ولست إداريا فحسب. الفرح الثاني في الجائزة هو أنني تسلمتها من رجل يده ممدودة للمسرح في العالم العربي والعالم، هو الشيخ سلطان هذا الكاتب المسرحي الذي قد نتفق أو نختلف حول كتابته، ولكننا لن نختلف على أنه صاحب رسالة استثنائية، تبلورت منذ أن ألقى رسالته في اليوم العالمي للمسرح عام 2007 حتى الآن، وأصدقك القول، إن مؤسسات دولية مسرحية كادت تنهار لولا هذا الرجل، مؤسسات تعتز بنفسها و يعتز بها العالم كله ومع ذلك وصلت إلى مرحلة النهاية ولم يكن لها مسعف إلا هذا الرجل، هو متفرد في الوطن العربي أو على مستوى العالم، لذلك أن آخذ الجائزة من يده، وفي اليوم نفسه يعلن عن المشروع التقدمي التنويري بأن يكلف الهيئة العربية للمسرح أن تنشئ مهرجانًا مسرحيًا محليًا في كل بلد عربية ليس بها مهرجان محلي! و حينها نكتشف إلى أي مدى هذا الرجل مؤمن أنه لا بد أن يكون المسرح حاضرًا في كل الوطن العربي ، بالتالي نحن في 2018، 2019 سنكون أمام إنشاء 11 مهرجانا عربيا محليا جديدا، أي سنعمل ونعاون هذه الدول التي ستقوم بإنشائهها، كما سنقوم بالتفاعل مع 11 مهرجانا قائما، أي سيكون هناك (22) مهرجانًا محليًا بجانب مهرجان المسرح العربي، أي (23) مهرجانًا في العام يجب متابعتها ووضع برامج وميزانيات لها واستشارات.
الحقيقة هذه المناسبة كبيرة ولن تنسى لأنها مرتبطة ببعضها وأشكر كل زملائي ومن منحوني الفرصة كي أعلن أنني حي، فقد أعلنتها منذ زمن بعيد إذا قيل إن غنام لا يشتغل بالمسرح معنى ذلك أنه قد يكون مات.
 كيف ترى دور الفن عموما والمسرح خاصة في قضايا الواقع؟    
هناك شاعر في الأردن اسمه حيدر محمود له صورة شعرية يقول فيها: (كلما زاد هبوب الريح فوق القمم تخفق الراية أكثر/ وإذا ما زاد جُرح الأرض أكثر زاد دفق الموسم) فالأرض مجروحة والوطن مجروح والشعوب مجروحة، إذا كان فنان مثلي ينتمي إلى الجُرح الأكبر والأساسي في كل المنطقة “فلسطين” فما أهمية ما أقدمه إذا لم يكن مشتبكًا مع كل القضايا؟ كيف يحترمني المشاهد إذا لم أعبر عن كوامن نفسه وإذا لم أقدم رؤية جديدة لموضوعه وإذا لم أدفعه باتجاه الموقف الصحيح والجديد؟
في كل الأعمال التي قدمتها سواء كنت ممثلاً أو كاتبًا أو مخرجًا، حرصت على أن أكون مشتبكًا مع القضايا الإنسانية وقضايا الأمة العربية وقضايا شعبي الفلسطيني تحديدًا، فأنا لا أتخلى عن قضية في تشيلي مثلاً،  فطالما يوجد ظلم في العالم فأنا مظلوم، وطالما يوجد جُرح في العالم فأنا مجروح، وطالما يوجد إنسان ينام جائعاً في العالم فأنا مقهور. لا يمكن أن أنسلخ عن إنسانيتي وهذا ما تعلمته من فلسطين، وأنا أفترض أن يكون كل العالم فلسطيني من حيث هويته الوطنية والثقافية، وأعتز بذلك،  ففلسطين هي القضية المركزية في العالم كله، من هنا أشتبك مع كل قضايا الوطن؛ فعندما قدمت الحب كنت أقدم صورا خاصة بمجتمعاتنا وتصلح لكل الناس وكل الثقافات، ولا بد للناس أن يتخذوا موقفًا بجانب الحب، وأن يتخذوا موقفًا ضد الكره، وضد العنف ضد المرأة بشكل أو بآخر، و عندما أقدم هذا  فليس له علاقة بأية أجندات أو المنظمات التي ظهرت في العقدين الأخيرين، مثلاً حين قدمت في “بدرانة” قضية اغتصاب المرأة وقتلها كان ذلك في عام 1994، لم تكن هذه المنظمات قد عملت في منطقتنا، أولم تظهر للعيان بعد، ثم جاءت بعد عشر سنوات بعض المنظمات الحقوقية وعرضت علي إعادة إنتاج هذه الأعمال، قلت لهم أنا قدمت هذه الأعمال بقناعة مجتمعية نضالية بالنسبة لي، لكن الآن لا أستطيع أن أقدمها مقابل أموال تقدم إلي من المنظمات غير الحكومية، أنا أعمل بهذه الطريقة وأحب هذا الموقف، فلم أتخيل أن أقدم عرضًا مسرحيًا ، وفلسطين ليست حاضرة فيه، في رأسه، فالمسرحية لها رأس كالإنسان ولها مشاعر أيضًا، و لا أتخلى أبدًا عن هذا الموقف، فأنا فلسطيني جدًا، قومي عربي جدًا جدًا، وأممي جدًا جدًا، تربية مدارس اليسار ولست جخلاً من ذلك، وبالتالي منسجم مع هذا الكون، موقفي واضح من الإمبريالية ولن يتغير، ولن يطهرها كل “ديتول” العالم، موقفي ضد الصهيونية واضح ولن أتراجع عنه قيد أنملة، موقفي العربي واضح،  فأنا مع كل الوطن العربي، وقد قلتها في كل مسرحياتي أنا فداء للمغرب، وللجزائر، ولليمن إذا اليمن أصيبت، أنا فداء لفلسطين وفلسطين محتلة، وبالتالي من يستطيع أن ينزع ذلك؟
نرى بعض المسرحيين في مرحلة من المراحل وكأنهم في غيبوبة ، بعضهم بدأ يدخل في متاهات جديدة، إلى أن أتت 2011، بكل مساوئها ومحاسنها مختلطة مع بعض، إلا أنها أعادت كثيرا منهم إلى الواقع، فلا بد أن يشتبك مع الواقع، وبالتالي تجارب كثيرة عادت وبدأت تشتبك مع الشارع، وآخرون تاهو حالة من الغواية البلهاء، مثل ما يحدث في أحد الشواهد المهمة جدًا في مصر «تياترو مصر» فهذا ليس وليد المرحلة إنما هو ضدها، هذا  رأيي الشخصي الذي لا يمثل أحدًا غيري في العالم، وقد يكون هناك آخرون منسجمون معه ويرونه “صح”، كل الاحترام لهم، لكن  رأيي أن مصر مرت بمنعطف، هذا المنعطف كان لا بد أن يجعل المصريين يتجهون لاتجاه معين، لكن بعضهم اتجه اتجاها معاكسا، كان لا بد أن ننتج مسرحا بوعي جديد وفكر جديد ويشتبك مع الواقع والمجتمع بشكل أفضل، من هنا أعود لقناعاتي الشخصية، فأنا عندما أكتب أو أبحث أو أحلل أو أخُرج أو أمثل فدائما أكون مسلحًا بهذا الجدار العظيم، هذا المكون العربي الإنساني، الفلسطيني العربي، الإنساني الأممي وبالتالي أنا ابن بابلو نيرودا، وابن غسان كنفاني، ناجي العلي، محمود درويش، صلاح عبد الصبور، نجيب محفوظ، محمد زفزاف، الطاهر وطار، ابن لكل هؤلاء، أحمد عبد المعطي حجازي، أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، ابن حوش آدم بالغورية، فكيف عندما أقف على المسرح لا يرى الجمهور كل هذه الملامح؟ كيف لا يرى ملامحي تحمل كل هذه الطبعات والتطريزات؟ أنا لا أستطيع أن ارتدي جبة غيري، أو أنطق بما يريده غيري، أنا أنطق بما أريده بوعي واضح والتزام واضح دون مزايدات، في الوقت نفسه أنا غير منغلق على الآخر، أنا منفتح على كل التجارب الأخرى، واستفيد مما يمكن أن يفيد دون أن أضيع هويتي في فكرة العولمة، أنا متعولم جدًا مع حفاظي على هويتي كاملة مع احترامي لتجارب الآخرين التي لا أعملها لأنها لاتشبهني، لكني أحترمها تماما وأحاول أن أتعرف على دوافعها الأساسية فلا يوجد فنان في العالم سواء اتفقت أو اختلفت معه يعمل دون دوافع خاصة به.
 بعد كل ما ذكرت أعتقد أنه لم يفرق معك إعلان ترامب أن القدس عاصمة لإسرائيل؟    
كأنه لم يُعلن لسبب بسيط هو: هل ما قاله مفاجأة؟ فمن الذي خلق هذا الكيان الصهيوني؟ ومن الذي رعاه وصمت كل هذا الزمن أمام جرائم هذا الاحتلال؟ والآن نتعجب حين يقول العاصمة القدس؟
صراعنا صراع وجود، بل أتعجب إذا لم يطلق الجندي الإسرائيلي النار علي، أتعجب إذا (إسرائيل) تسامحت، وأتعجب إذا لم يعلن ترامب أن القدس عاصمة الكيان الصهيوني، الغريب إن لم يعلن، فحسب تكوينهم واتجاههم هذا هو موقفهم، وأنا أشكرهم على هذا الوضوح فلا يجعلون تقديرنا يلتبس في فهم تصرفاتهم ولا يظهرون كحمائم، وفي الآخر أحب أن أقول لك بأن حفيدتي التي تعيش في أرض 48، وعمرها خمس سنوات تغني وتقول “أنا دمي فلسطيني”، فليذهب ترامب ومن سبقوه ونظامه الإمبريالي إلى الجحيم، فلسطين ستعود فلسطين التي لعبت الدور التاريخي في حياة الإنسانية من البحر إلى النهر، و ليس هذا فقط، فأنا لا أعترف بحدود سايكس بيكو، ولا تفصلني عن مصر الحدود التي يسمونها بين سيناء وصحراء النقب، ولا تفصلني عن الأردن الحدود التي رسموها على نهر الأردن ووادي عربة ولا يفصلني عن لبنان هذا الخط المتعرج الذي يفصلني عن جنوب لبنان الذي مشيت عليه وأنا أتطلع وأقول أي سخافة عشناها ونحن نقول هذا لبناني وهذا فلسطيني وها هي شجرة واحدة جذرها يمتد من تحت هذا الحد داخل الأرضين، وبالتالي أنا لا أهتم ولا تلتبس عندي الأمور، هذا صراع وجود لا صراع حدود، ولا أؤمن أن هناك عمليات سلام ستتم، ولست مع هذا التفاوض، أعتز بابن عمي الشهيد وخالي وأخي والمعتقلين، وأتمنى أن أكون بجانبهم جميعًا.
كنت في 2107 برام الله، وكنت سأقدم بمناسبة اليوم العالمي للمسرح العرض الأول لمسرحيتي المونودراما «سأموت بالمنفى» في “مخيم الجلزون”، واستشهدت مجموعة من الشباب قبل العرض بيومين، فذهبت إلى بيت العزاء، وقلت لهم لن أقدم المسرحية وسأبقى مع أبناء شعبي في هذه اللحظة لنرقب التصعيد القادم بعد هؤلاء الشباب، بعد ذلك بأيام قدمت مسرحيتي في أكثر من مكان في فلسطين، وما زلت أنحني لطبيعة النضال اليومي في فلسطين التي لم يعرفها أحد ولم تذكرها الأخبار، فلا أحد يعرف “فخرية” السيدة العجوز ماذا تفعل عندما تخرج في الاعتصامات، التركيز دائماً على القيادات لكن هناك أبطال تراجيديون في الشارع لا أحد يعرفهم، أنا أبحث عنهم، ومسرحيتي “سأموت في المنفى” عن هؤلاء الأبطال الذين لا يذكرون في الأخبار، كما أن مسرحية “ليلك ضحى” عن ضحايا لا يذكرون بالأخبار أيضًا، من هنا، لا ترامب ولا نتينياهو ولا بيجن ولا شارون ولا جولدا ولا ديان ولا كل الذين أسسوها من مؤتمر بال في سويسرا إلى الآن، أنا صراعي معهم واحد لا يتجزأ، ولن أتخلى عن بلدي فلسطين في كل ما أقدم وما أفعل، وكل ما أتحدث فيه واضح المعالم ولا أخاف ولا أخشى محطات أمنية ولا استدعاءات.هذا الموضوع منتهٍ، دفعنا ثمنه وانتهينا، ولا يوجد ثمن أكثر مما دفعناه ،ولو كانت الحياة ثمنا مستعد لدفعه، صحيح أنني لم أكن في يوم من الأيام مشروع شهيد، فأنا لم أحمل سلاحا ولا أعرف هذه اللغة أبدًا، لكن مستعد من خلال مسرحي أن أقول ما يسبب انفجاراً في نفوس الناس ويحملهم في اتجاه آخر.
 هل تربطك بمصر علاقة خاصة؟    
أعتز أنني منعت من السفر لمدة إحدى عشر عامًا، وأول رحلة لي بعد حصولنا على هامش من الديمقراطية في الأردن كانت إلى العراق، والرحلة الثانية كانت إلى مصر خلال فعاليات المهرجان التجريبي عام 1991، وبمجرد وصولي إلى مصر، ذهبت للبحث عن أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، لم أكن أعرفهما شخصياً من قبل، لكننا كنا نهرب شرائط الكاسيت التي تحوي أغانيهما، وكانت العقوبة إذا ضبطت خمس سنوات سجن، فهل من المعقول أن أكون في مصر ولا أبحث عنهما؟ وعرفت أنهما في حوش آدم بالغورية ،وذهبت إليهما بعد ساعتين من وصولي أرض مصر، فهذه مصر التي تسكن في مسام جلدنا في أرواحنا. أنا ولدت في بيت به ثلاث صور: جمال عبد الناصر ووالدي وصورة فنانة شعبية تقريبًا اسمها فاطمة المغربية، فماذا تنتظري مني بعد ذلك، حركة القوميين العرب كان ببيتنا، شقيقي أحد قياداتها، كانت اجتماعاتهم بمنزلنا. المناحة التي حدثت في بيتنا يوم وفاة عبد الناصر لم تحدث حين توفي أي فرد من أفراد العائلة، تربينا على ذلك، وبالتالي مصر – زقاق المدق وبين القصرين – لمحفوظ، شجرة اللبلاب لمحمد عبد الحليم عبد الله، كل هذه الروايات حفرت داخلنا، مسلسل باب زويلة في إذاعة صوت العرب، لم يكن لدينا ساعة وكان لدينا راديو وحيد في حارتنا، وكانت أمي تعرف الوقت من خلال الساعة الشمسية بالظل على الحائط، فحين يأتي الظل على هذا الحائط تعرف أن هذا موعد إذاعة المسلسل، فنحن موحدون في جمهورية أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وفريد الأطرش وسلامة حجازي وزكريا أحمد والشيخ سيد درويش، هذه الجمهوريات لا تحتاج إلى انتخابات ولا برلمانات، بل آلات موسيقية وقلب حنون وكلمة حلوة لأحمد شوقي وعلي محمود طه، وعبد الوهاب يغني وفيروز تأتي من مصر تغني يا جارة الوادي، ويلحن عبد الوهاب دق الهوى عالباب في بيروت، هؤلاء هم من وحدونا وهم أولاد المد القومي في تلك المرحلة. فكنا مع عبد الناصر سواء ظالمًا أو مظلومًا، لذلك حين يقولون مصر أم الدنيا، هذه الجملة تخصني فأنا مصر أمي.
كيف ترى مقولة الكاتب الصحفي محمد الشافعي: (كان لدينا إذاعة واحدة هي صوت العرب جمعت كل العرب والآن لدينا آلاف الفضائيات تعمل على تمزيق العرب)؟    
هذا توصيف دقيق مائة في المائة، فهم انتبهوا لأثر الإعلام وبالتالي كل واحد منهم أراد أن يعطي رسالة معينة، والتجار انتبهوا له أكث، التجار ليس لهم رب، فربهم هو قرشهم، ولذلك حين يملك التاجر قناة فهو معني بالكسب أولاً ولا يهمه قضايانا العربية، فما يهمه هو كيفية الحصول على المال، الفضائيات والإذاعات الكثيرة كلها قائمة إما على الربح أو على أجندات سياسية، وقد تكون إذاعة مثل إذاعة الشعب في لبنان تمثلني في لحظة من اللحظات، أما باقي الإذاعات فما عادت تمثلنا.
صوت العرب تتبع أخبارنا إلى اليوم أكثر من كل الإذاعات العربية، فما زال لديها هذا الحس الداخلي بأنها إذاعة كل العرب، رغم أنها تخلت عن هذا الدور لفترة ما، لكنها بدأت تستعيده في السنوات الأخيرة بشكل واضح.
 كيف ترى المسرح العربي الآن وإلى أين ذاهب؟    
المسرح العربي جزء من الصورة العربية الشاملة، إنما بالرجوع لهذا الشاعر مرة أخرى (كلما زاد هبوب الريح فوق القمم تخفق الرايات أكثر/ وإذا ما زاد جُرح الأرض أكثر زاد دفق الموسم) المسرح اليوم دوره هو الأهم، لأن الأزمة أكبر والانحدار شديد. نتذكر أن في الهزائم الكبرى التي لا يمكن تجاهلها في سنة 67 على سبيل المثال نكسة يونيو،  دولة الاحتلال الصهيوني هزمت 18 كيانا سياسيا عربيا – 18 رئيسا وملكا وأميرا و18 وزير دفاع وداخلية وخارجية و18 قائد جيش جميعهم هزموا، لكن من هم الذي لم يهزموا؟ لم يهزم محمود درويش وتوفيق زياد وصلاح عبد الصبور وعبد الرحمن الشرقاوي، الكتاب المبدعون، الفنانون الكبار، من يستطيع أن يهزم محمود مختار؟ فلتدخل كل جيوش الاحتلال، تمثال نهضة مصر يهزمهم، من الذي يستطيع أن يلعب في هذا المعنى؟ إذن المسرح اليوم هو الأهم بمعنى أنه الأخطر دورًا ولكن لا نستطيع أن نقول إنه لا يعاني من أزمة عدم الاستقرار، لكن ما أراه من عروض كثيرة على مستوى الوطن العربي كله يؤكد أن هذا الشباب العربي ما زال بخير ومثابر جدًا، قد يكون أحيانا لديه بعض الآراء العدمية، لكن بحساسيات جديدة يجب أن نستوعبها، وقد يكون لديه صور جديدة وأساليب تعبير جديدة، مثل عروض المسرح الراقص والموسيقي، لا مانع، إن ظل هذا الشباب محصناً فالمسرح العربي محصن.
آفة المسرح العربي اليوم ليست في الإنتاج، فالإنتاج كثير، لكن في عدم في عدم وجود استراتيجيات، و عدم استقرار المبادئ الأساسية التي تثقف الشباب العربي، وعدم استقرار المنتج المعرفي والتعليمي الذي يتلقاه الشباب في الأكاديميات، أعتقد أن الكارثة ليست في المسرح ولكن في أكاديميات الفنون والجامعات والكليات التي لا تعلم والتي أصبحت هي الأخرى خاضعة لمنطق التجارة، فلم يعد الطالب الجامعي ذو قيمة معرفية عالية إلا من رحم ربي، إلا من يثقف نفسه بنفسه؛ المسرح العربي في هذا العام قدم عرضاً رفيعاًهو “صولو” للمغرب، وعرضاً آخر لتونس “الشمع” وعرض “ما بقات هدرة” من الجزائر،  وكان هناك خمسة أو ستة عروض هائلة، فهذا المستوى المتقدم للشباب يؤكد أننا بخير، وما زال المسرح يغوي الناس ويجذبهم، فالتكنولوجيا والتقدم لم تأخذ من المسرح بل استفاد منها، من هنا أنا لا أخاف على المسرح العربي وهؤلاء الشباب بالعشرينات والثلاثينات والأربعينات هو جيل مرعب مهم جرئ، أجرأ من جيلنا وأكثر انفتاحًا منه. وبالتالي هو بخير ويكفينا الله شر المؤسسات الرسمية الجاهلة، بمعنى ولد موهوب يقتله معنويًا مسئول غبي وجاهل، بنت موهوبة يقتلها مجتمع جاهل، فرقة موهوبة يقتلها روتين جاهل، هذه هي المشكلات لا الأولاد ولا البنات.
المرأة اليوم موجودة في المسرح أكثر من كل السنوات الماضية، لم نختلف على سيدات المسرح العربي، الآن لدينا فتيات يحصدن الجوائز في كل مكان يذهبن إليه، لكننا اعتدنا على الحنين، نحكي عن العصر الذهبي، لا يوجد عصر ذهبي، فكل عصر له لونه وإيقاعه وجيله ومنطقه ومنابره، والمنطق الذي ينادي بالعودة للعصر الذهبي هو منطق رجعي، وهذا يحبط الشباب الجدد، وكأننا نقول له لا فائدة منكم، لنتخيل أننا أتينا بمسرحية لسعد أردش أو كرم مطاوع أو غيرهما من ذلك الزمن ووضعناها كما قدموها في زمننا هذا، لن تحقق نفس النجاح الذي حققته في زمنها، فهؤلاء كانوا فرسان عصرهم، أشير إلى نباهة مشروع محمد صبحي الذي يعيد الأعمال القديمة بعد إكسابها إيقاعًا جديدًا يتلاءم مع ظروفنا الحالية.
أنا مع الوعي في الاستراتيجيات التي تحمل المسرح للأمام، لذلك أنا اعتز بعملي في مؤسسة تعمل وفق استراتيجيات ونعرف إلى أين نحن ذاهبون. فنعمل على المسرح المدرسي، نبدأ من الأطفال، فبدلاً من أن تكون المدارس حواضن للإرهاب والدواعش والفكر المتطرف، تكون حواضن للجمال؛ خططنا لعشر سنوات، نبدأ مع الطفل من الصف ما قبل المدرسة إلى الثانوي، أي أنه قد وصل إلى بر الأمان، بعد ذلك سيجدنا في الجامعة وفي مراكز الشباب وفي فرق الهواة والمحترفين، لا بد أن نحاصره بالجمال والمعرفة والتذوق، فدائما أقول هل رأيتم عازف جيتار أو رساماً نفذ عملية انتحارية أو جرح أحد ؟  لا بد أن نعلم الأولاد تذوق الفنون، إن لم نتمكن من تعليمهم الفنون، يكون الأهم هو تعليمهم التذوق.

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *