المستقبلية.. النفس البشرية مسرح للأحداث

تعد المستقبلية إحدى المدارس الفنية التي أثرت في العديد من أشكال الفن والأدب والفكر، وفي المسرح فهي المدرسة التي سعت إلى تكسير القواعد التقليدية التي كانت في نظر روادها تمثل زيف المنطق والتقاليد المتوارثة. في عام 1909 أعلن الإيطالي فيليبو توماسو مارتيني، تكوين الحركة المستقبلية في الفن والأدب عندما نشر وثيقته التاريخية الشهيرة «إشهار التكوين وإعلان مبادئ الحركة المستقبلية».

ورغم أن الحركة المستقبلية ترتبط أساساً في أذهان الكثيرين بالفنون التشكيلية، إلا أننا نجد أن روادها الأوائل اهتموا اهتماماً كبيراً بالدراما المستقبلية، حيث قام رائدان أساسيان من رواد المستقبلية في الفن التشكيلي، وهما جياكو موبالا وإمبرتو بوتشيني، بكتابة العديد من النصوص المسرحية التي أصبحت لها قيمة تاريخية كبيرة رغم قيمتها الفنية المحدودة.

وتتركز أهمية الحركة المستقبلية في أنها كانت حركة رائدة في عالم المسرح الأوروبي، شجعت التيار التجريبي، والثورة على التقاليد المسرحية والدرامية المتوارثة، ما أدى إلى نشأة مدارس أخرى تتميز بانفصالها عن الواقعية والموضوعية، مثل السريالية والبنائية الروسية، ومسرح العبث، وكان لظهور هذه المدارس أكبر الأثر في إثراء وتنويع الحركة المسرحية في أوروبا في القرن العشرين، حتى إننا نجد كاتبين مبدعين مثل بيراندللو، وثورنتون وايلدر، يدينان بالكثير لمبادئ الحركة المستقبلية.وقد تميزت مسرحيات الكتاب المستقبليين التي بلغت ذروتها في الشهرة والانتشار في أواخر العشرينات، بتركيزها على العالم الوجداني الخاص للإنسان، ما أكسب بعض هذه الأعمال صفات الشاعرية والرمزية، واهتم كتاب هذه المدرسة في أعمالهم بتصوير الحالات النفسية، وحالات الجنون خاصة، بغرض إحداث نوع من الصدمة عند المشاهد، وأيضاً لأنهم وجدوا مثل تلك الحالات الوجدانية المضطربة قالباً مناسباً لتجسيد المعاني الفلسفية والميتافيزيقية تجسيداً شاعرياً مستخدمين الرمز والاستعارة.

وقد نتج عن التركيز الشديد على النفس البشرية باعتبارها المكان الوحيد الذي يمكن أن يكون مسرحاً لأي أحداث حقيقية، ظهور مسرحيات لا تنتمي إلى أي بيئة موضوعية، سواء واقعية، أو متخيلة.

واعتمد الكتاب المستقبليون منذ بداية الحركة على عنصر مسرحي هام، وهو عنصر استفزاز المتفرج، والمواجهة المباشرة، والإنكار التام لمبادئ الأخلاق (أي العدمية)، ويظهر هذا العنصر بوضوح في أعمال فرانشيسكو كورا، وإميليو ستيميللي.

وبمرور الوقت حاول الفنانون المستقبليون تأكيد انتمائهم إلى العالم الخاص الداخلي للعقل الإنساني، أو النفس البشرية، وانفصالهم التام عن العالم الواقعي أو الموضوعي، عن طريق التخلي عن تكنيك الرمز والاستعارة، والنحو إلى التجريد التام واللا منطق، واستخدام تكنيك التأثير الحسي المباشر بدلاً من الإيحاء، ونرى هذا الاتجاه بوضوح في مسرحية «تركيب التركيب» التي اشترك في كتابتها جوجليلمو جانيللي ولوسيانو نيكاسترو، وفي ما يلي نصها:

«مسرح خال،

ممر طويل مظلم في آخره مصباح أحمر يضيء وينطفىء من بعيد جداً.

ويظهر شعاع أبيض يفرش الممر كما لو كان بساطاً بطول الممر.

تمر خمس ثوان.

عيار ناري من مسدس، صرخة.

أصوات.

صيحات متداخلة.

وقفة.

ضحكات امرأة تتردد.

في الوقت نفسه نسمع صوت باب يفتح بعنف ويظهر ضوء قوي باهر يخطف أبصار المتفرجين.

تنفصل الستارة الأمامية عن المسرح، وتسقط».

ورغم غرابة هذه المسرحية إلا أننا نجد أنها ما زالت تحتفظ بالحد الأدنى من الترابط بين العناصر المسرحية التي تكونها، مثل الترابط عن طريق التداعي بين الطلقة النارية والصرخة التي تليها. ولكن مثل هذا الترابط الوجداني لم يستمر طويلاً، فمع تطور المستقبليين نجد أن بعض المسرحيات قد انتفى منها تماماً مثل هذا الترابط، واستبدل بعلاقات تشكيلية بحتة ولا منطقية، مثل تلك العلاقات التي نجدها بين التكوينات والألوان في اللوحات التجريدية.

كان الكتاب المستقبليون يحرصون في مسرحياتهم على مبدأ التلازم الزمني لأحداث مختلفة، ومؤثرات مسرحية متعددة، وكذلك على مبدأ تعدد الوسائل المسرحية، ما أدى إلى إدخال عناصر جديدة إلى المسرح مثل كشافات الإضاءة، ومؤثرات حسية أخرى، مثل المراوح والمحركات، كما رفض المستقبليون في عروضهم العلاقة التقليدية بين المتفرج والعرض المسرحي، بحيث حرصوا على تكسير الجدار الرابع الوهمي، فنجد في بعض المسرحيات صعوبة شديدة في تمييز الممثلين عن الجمهور، كما حدث في مسرحية «راديو سوكييا» التي كتبها كانيوويللو وبترلوليني والتي مثلت وسط المتفرجين، وليس على خشبة المسرح عام 1916، وفي مسرحية أخرى لكانيوويللو بعنوان «الضوء» يصعب جداً التفرقة بين الممثلين والمتفرجين، ويتم استفزاز الجمهور لإخراج وتمثيل العرض بأنفسهم.

–  http://www.alkhaleej.ae

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش