المسافـــة الجمالية  والرؤيــــة الفلسفيـــــــة لـ الإخراج المسرحي

حمبد صابر – مجلة الفنون المسرحية 

 

في ضوء تطور الفكر الانساني، واتساع آفاق المعرفة في البحث عن ماهية الوجود والذات وسبر اغوارها في مدى ارتباطها بأحداث عصرها وظواهر واقعها المتغير برزت مفاهيم بعلاقة الفن والفلسفة والمجتمع تحاول الربط بين التجربة الابداعية وفلسفتها وأثر المجتمع والاحداث فيها.

 فثقافة المخرج وفلسفته هي جزء فعال من ثقافة بيئة انسانية وهي في الواقع حصيلة اجتماعية للأفكار والفلسفات والمعتقدات فالتراث الفلسفي له القدرة على الحركة والتطور، ولا بد في مثل هذه الحالة من وجود منهج فلسفي يؤطر التجربة الاخراجية والابداعية، ان نسق العمل الفني  هو في الواقع نسيج التجربة من الناحية الفنية والنسيج هذا هو جزء من خبرة المبدع …. وظهرت دراسات وبحوث تهتم بعلاقة الاثر الابداعي بالمجتمع والمتلقي وبرزت نظريات حديثة منها نظرية جمالية التلقي ومدرسة المتفرج واستجابة القارىء ومفهوم التأويل للعمل والاثر الفني والقراءة المنتجة للنص وتحاول هذه النظريات التمييز بين النص الادبي من حيث هو علاقة ملموسة والموضوع الجمالي مجسماً وقد قادنا هذا الى ولادة مصطلح جديدة هو المسافة الجمالية وهي تلك العلاقة بين المتلقي وفعل التقويم وافق الانتظار ويعني هذا المفهوم البعد القائم بين تقديم الاثر الفني نفسه وبين تلقيه والاستجابات الخاصة للمتلقي. ان تلك المتطلبات هي جزء من الثقافة والمعرفة التاريخية التي تؤسس بنية الاتصال الجمالي بين فلسفة المخرج واسلوبه في العمل وجماليات التلقي ان هناك علاقة بين التجربة الفنية الخلاقة وما يسمى بالفكرة الفلسفية وهذه العلاقة بلا ريب هي محور رئيسي من محاور فلسفة الفن وعلم الجمال ويجب ألا يغرب عن البال ان الحديث عن الفكرة الفلسفية لا يعني ربطها بالمفهوم الخاص الضيق للفلسفة وتاريخها فبين الفلسفة والفن اختلاف يرتبط بالمنهج واللغة والاسلوب والتطور والنتيجة علماً ان هناك توافقاً وانسجاماً ما بين الذهن الفني لدى المخرج والذهن الفلسفي مع حتمية وجود الاختلاف في الوظيفة العقلية والنظرة الى الكون مع ان الفنان يستقي من الفلسفة جوهرها وماهية الجوهر والوجود .

 لاشك ان مثل هذا التوافق والتركيب بين هاتين الذهنيتين هو جزء من الفكرة الفنية الفلسفية التي تبدو جوهرية في اي عمل ابداعي فالتجربة الفنية تعامل التركيب والتحليل والمفاهيم في موضوعات شتى يستمدها الفنان المبدع من تأملاته الخاصة ببيئته واتساع معرفته ونظرته الى الكون والحياة، فهو المخلوق الوحيد الذي يستطيع ان يصوغ ويصور ويجسد بوسائله الفنية مجموعة من الافكار والقيم كفكرة التردد عند هاملت والغيرة عند عطيل والغطرسة عند كريولانس والطموح الدموي والطغيان عند مكبث والحمق عند لير.

 وتخرج هذه الافكار من التجربة احساساً من وجدان خاص لتعانق وجدان المجتمع على شكل عمل ففي دراسي له رموزه الخاصة والمؤثرة في المتلقي فتطور الفكرة في العمل الفني لايأتي الا عن طريق الدراسة والتأمل العميق والانغماس الشديد في اعماق روح التجربة قولاً وفعلاً والتعبير عنها بلغة ذات خصائص فنية متميزة فالحركة في اللغة المسرحية لا تستطيع امتلاك أية دلالة وحدها إلا عن طريق نسق التواصل والاسلوب وبنية العمل وتركيبه اي وضوح الوظيفة الدلالية للعلاقة القائمة بين اللغة والحركة والمعنى اي الكيفية الاخراجية للوحدة الكلية في نسق وانسجام فني فكري دلالي معبر ومؤثر.

 ان العملية الاخراجية هي رؤية فنية للنص أي قراءة جديدة لعملية التأليف وبصورة أدق هي خلق حياة جديدة وجمع مجموعة من المحاور داخل مناخ خاص محدد بزمن معين فهي فعل حقيقي لمعنائية المسرح الذي يحدد وجود اشخاص يتحركون داخل بنية لغوية بحضور محاورين مشاركين وعملية لازمة للنص وملتصقة بأسس التمسرح.

 ان الاخراج كتابة صورية داخل الفضاء فهو حوار حسي، حوار مع النص الادبي وحوار ينتهي في الاخير باعطاء تركيبات ابداعية فيها شيء آخر من الصياغة والصناعة وهو حوار مع الممثل وحوار مع المتلقي فهو شرط العرض المسرحي ووجوده بالفعل فالمخرج مركب للنص لا مجرد مفسر بصري لبنائه وحواره وحركة الشخوص ضمن الحيز الادبي انه جهد استقرائي فالمخرج المسرحي يبدع صورة كلية لاتترجم الحوار الى فعل حركي انتقالي، بل يقوم بعملية كيميائية شاملة لخلق الخطاب المسرحي فالمرور من الادب الى المسرح هو عملية فضائية تسبح في المخيلة حيث يكون لفاعلية الخيال دور في الرسم والبناء الصوري الذي يشغل المساحة الخالية لا بوصفها ساحة للعب بل حيز تتكثف فيه صور العرض كقيم درامية تقود الى بنية وجوهر الصورة باعتبارها علامة تحول ودلالة تتغير في ضوء البعد الفلسفي والجمالي للعرض المسرحي يفجر كوامن النص وتلعب فجواته على رأي (ان اوبر سفيلد) المجال الواسع لفعل المخرج الابداعي لسد وملء اشغال تلك الفجوات وصولاً الى نص العرض، حيث يكون الدور الفاعل لعملية التلقي وفعل الاتصال المسرحي فالاخراج المسرحي هو الصيرورة والانتقال بالأشياء من داخلها وليس من خارجها الى فضاء التصور الخيالي الذي يحيل الواقع الى واقع فني آخر لا يعمل على النسخ والانعكاس للأشياء والعلاقات اذ يؤسس جسر الحلول ويدفع اللغة لتحل في أجساد الممثلين والتشكيل الحركي فالكتابة المسرحية هنا كتابة عبر الجسد والتشكيل أي حالة التمسرح والاسلبة بمنطق يحكم العلاقات المرئية بوصفها ( الكل المعطى) والتشكيل النهائي لصورة العرض المسرحي باعتباره (مفهوم الشيء في ذاته) دون الركون الى مرجعية اللغة ذلك لأن العودة الى ثنائية الشكل والمضمون والنص والعرض تجعل من الاخراج مجرد تابع الى أدبية النص وسلطته فالاخراج في ضوء ذلك يعد خلقاً وتأسيساً يعيد للإخراج المسرحي دوره الفلسفي متجاوزاً المفهوم الحرفي التنفيذي لمكونات النص الادبية وعناصره الدرامية.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *