المبدع المسرحي سامي بلال.. أفق الرؤية الفلسفية العميقة في (من قال ماذا؟) – يوسف الحمدان

 

يأتي فوز العرض المسرحي الكويتي (من قال ماذا؟) بجائزة الدولة التشجيعية في حقل الإخراج المسرحي للعام 2020 والتي أعلنها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويتي في فبراير 2021م، ليؤكد إمكانات المخرج المسرحي ومؤلف العرض أيضا الفنان سامي بلال الإبداعية الاستثنائية، ليس على الصعيد الكويتي أو الخليجي فحسب، وإنما على الصعيد العربي، ذلك أنه يتصدى لنص، هو من تأليفه، مكتنز بقضايا إنسانية شائكة تنضح بعفنها في أغلب ثلثي العالم وخاصة الشمالي منه، والتي تزحف بظلالها الأفعوانية السوداء المخاتلة المواربة الفتكية على صدر الثلث المتبقي في هذه الخارطة الكونية، ولعل أكثرها شائكية هو داء العنصرية المقيت الذي أوشك أن يصبح واحدا من أهم جينات التكوين الخلْقي للنسل الأبيض في الشمال الأمريكي والأوربي، والذي بات واحدا من أهم السلع التي يمكن تصديرها في مختلف أصقاع العالم وخاصة العالم النامي، والذي يملك أيضا إمكانات التحول الطردية الهائلة النووية لأن يكون جزيئات قابلة للانشطار إلى وباءات عرقية ربما تكون أكثر خطورة من العنصرية ذاتها .

إن المؤلف المخرج سامي بلال يمسك في هذا العرض عصب الداء من خلال خلاياه الداخلية الدقيقة والمركبة، ويمعن الحفر فيه بمشرط دقيق وحاد ومن خلال مجهر فاحص يستكشف أدق تفاصيل العلة في هذا العصب، مستعينا في ذلك الاستكشاف بمخيلة إبداعية جامحة تتملك القدرة على نسج وصوغ ما يتشكل وينمو بداخلها وما يتفلت في فضائها الخارجي من شيفرات هيولية دقيقة رقيقة تتملك القدرة على التحول والتأويل والاشتباك مع خلايا غير مرئية هي من قبيل استثارة الخلق في خلايا عضلة المخيلة.

في هذا العرض الذي تنحشر في فضائه الأسود المريب عوالم مركبة كثيرة يختزلها المؤلف المخرج بلال في شخصيتين موشتين بالرمادي الداكن، واللتين يؤديانهما الفنانان أحمد الحليل وعلي الحسيني، لا نكون في وارد الصراع التقليدي أو الطبقي السائد بين القوي والضعيف أو بين السلطة والشعب أو بين الأسود والأبيض، وهذا ما درج على تمثله للأسف الشديد ولفترة طويلة بل وحتى يومنا هذا الكثير من العروض المسرحية، إنما نكون في حيز الصراع المركب الدقيق بين الذات وهواجسها الداخلية، بين اللون وتبعاته العرقية المرعبة، بين الزنجية وتمدداتها التاريخية الهائلة في قفص الصدر والروح، بين قلق الذات ورغبتها في التوازن النفسي اللامتحقق في الواقع، بين الرغبة في الحياة وفرائص الموت المباغت، بين الغربة في التحرر ومداهمات العبودية الأيديولوجية القهرية، بين الوجوه وانعكاساتها المرآوية، بين كل هذه النقائض والمتضادات واندغامها في بعضها إلى الحد الذي تبدو فيه بلا ملامح أو حدود لتقاسيمها الطافحة والمخفية.

هنا يصبح فضاء العرض كله بما يشمل من حيوات وفراغات موحية حية ومعبرة بأبعادها الإنسانية المركبة الصعبة فسحا فلسفيا قابلا للتأويل ورهن ضرورات يقتضيها موقع الند المضطهد خاصة، لنكون أمام زنجي متعلم مفكر وناشط حقوقي موغل في علوم النفس خاصة تلك التي تشخص الحالات العرقية والعنصرية التي يعاني من سطوتها القهرية والتي تتبدى أحيانا في أصوات وصراخ جماعي يصدر من أعماق الزنوجة المضطهدة عبر التاريخ، ويقوم بأداء هذا الدور الفنان أحمد الحليل، ولنكون أيضا أمام شخصية تزعم أن حريتها تكمن في نقيض الزنجية واندغامها في وجودية عنفية تستعذب موت ضحاياها وتستأثر إخصائهم على بقائهم أحياء في هذه الحياة التي ترى أن نسل هذه الزنجية لا يستحقونها على الإطلاق، وقد وفق المخرج بلال في ملامسة الشعيرات الدقيقة لسايكوباتية هذه الشخصية المتصحرة الروح والقلب والتي قام بأداء دورها الفنان علي الحسيني.

إن هذا العرض يكشف عن أفق ثقافي فلسفي عميق ومدرك للتكوينات النفسية الدقيقة والمركبة وقادر بتمكن على صوغ روح إبداعية تمنح هذا الأفق أبعادا جمالية تكتنز بعلامات دالة متوالدة ومؤسسة لرؤى جديدة في حقلها وفي انثيالات هذا الحقل في أنهر تحولاتها الدفقية الخلْقية اللامتناهية، ولا يقف هذا الأفق عند البعد الفلسفي النظري للنص، إنما يتجاوزه إلى حالة الخلق المعملي للعرض المسرحي، فالشخصيتين اللتين تبدوان مجردتين في النص، نلاحظهما في العرض كائنين من روح ودم وموقف، واللتين من خلالهما يصبح فضاء العرض فسحا مركبا لوجود حي جديد ومتحول ومضطرب وقلق، فالفضاء الأسود المعتم المفتوح على أعماق سديمية لا متناهية يقترح دلالات كثيرة تتجاوز حدة اللون الواحد أو عتمته، بل وينصهر مع الشاشة الخلفية والمرايا والأزياء والإضاءة التي تتحول إلى كائنات لا مرئية ومرئية في الآن نفسه، وإلى أمكنة وأزمنة مواربة ومتعددة الدلالات في اتساقها مع الأسود الذي تتجاوز دلالاته حدود (الزنجنة) وعتمة الروح إلى ما هو أقرب إلى كائنات هلامية تشتبك أرواحها وأفكارها بمعزل عن سياجها الجسدي المادي في العرض.

هنا نلحظ الاشتغال السينوغرافي المغاير الذي يتسق وروح رؤية المخرج الإبداعية في العرض، والذي يندغم في حالة ضد الوظيفية المنمطة والمسنفرة التي ترسم جغرافيا العرض بمن فيه قبل أن تقرأ شظايا نسيج إحياء التجربة في العرض، وتتماهى حالة هذا الاشتغال البصري مع الحالة الصوتية التي تعكس أضوائها الخفية على كائنات العرض الأخرى، من شخصيات وإضاءة وكواليس وقطع متحركة، وخاصة إيقاع الكأس الذي تم استثمار تدرجاته الصوتية بشكل يومئ إلى إمكانية تحوله إلى قائد محوري لقيادة التوتر والقلق وإدارة دفة زمن الصراع والاشتباك وتحولاته في هذا العرض، كما تم استثماره أيضا إلى جانب الموسيقى والمؤثرات بوصفه كائنا حيا مهمته استحضار الذاكرة بتصاريفها القهرية والالتباسية كلما أوشكت أن تخبو أو تتلاشى، وهنا نلحظ الدور الحقيقي المؤثر لهذا الإيقاع في لحظات هروب الزوج الأبيض ووقوعه كفريسة ربما في بيت الزنجي، نلحظه في أسئلة الخوف والهلع من الموت، نلحظه في مختلف الأسئلة التي عرّشها المؤلف المخرج رأس نصه (من قال ماذا ؟)، نلحظه في الأسئلة الفلسفية القلقة التي لا تكف عن التوالد في كل سانحة قلق بين الشخصيتين، نلحظه في أسئلة استحالة المساواة بين البيض والسود كلما اقتربت الشخصيتان من شفير فهم الكارثة واستيعاب مآلاتها المدمرة، نلحظه في خفايا رقعة الشطرنج كلما تباعدت سيقان بيادقها عن بعضها البعض في لحظات الاقتراب .

إنه كالموت الذي تطالب بوقفه جمعيات حقوق الإنسان بعد الموت، يا لها من مفارقة مفجعة حقا تلك التي استنبت روحها المبدع سامي بلال، وهي مفارقة تؤسس لما هو أكثر إيلاما وفدحا منها، حيث يصعب عليك فهم شعور من يصرخ بلا صوت، فمن يقود من؟

إنها أبعاد تقترب من فن الريبورتاج والوثائقية الحية والدراسة العميقة للنفس البشرية المقهورة التي تعاني من الظلم والتمييز العنصري، معضدا ذلك بتواشج حوار خلاق بين الفنون البصرية والسمعية والأدبية والسينمائية والموسيقية، التي شكلت أفضية زمنية متعددة هي باستمرار في حالة تنامي وتقاطع واشتباك، إضافة إلى استثمار المخرج للمؤثرات الموسيقية الحية والتي شكل منها حالة تندغم فيها لعبة الحوار المتشظي بين الشخصيتين وبين كونها قائدا لدفة العرض، الأمر الذي أصبح فيه هذا العرض يتحرك بعناصره ضمن زخم سينمائي لافت ليمنح المسرح بذلك إمكانية قصوى لاستقطاب الفنون البصرية وجعلها عنصرا مهما من عناصر العرض المسرحي، بالرغم من كونها مختزلة إلى حد كبير في عناصر سينوغرافية دقيقة جدا ومحدودة لا تتجاوز حدود الطاولة والكرسي والمرآة.

كما أن توظيف المخرج للإضاءة في هذا العرض جاء ملائما للتحولات الزمنية بأبعادها الواقعية والدلالية والتخيلية، بجانب التعامل الاحترافي الموفق في تشكيل جسد وروح الممثل في التجربة، حيث نلحظ التحولات بين الأداء الواقعي والتعبيري والعبثي، الأمر الذي أصبح فيه هذا النص السردي حالة من حالات الفعل المسرحي التي كتبت على فضاء العرض المسرحي وليس على الورق.

إنه الجسد إذن، الجسد المتخيل الحي والجسد الحي الذي ينتج أحياء أقرب لروح المخيلة، وما الطاولة المحورية في العرض التي تتقاسمها الشخصيتان إلا بمثابة كائن حي، جسد متحول، حيث هي أقرب ما تكون للكائن السيامي لكل شخصية في العرض وإن تعددت دلالاتها في هذا الفضاء الذي يؤازرها بعتمته وبمساقطه الضوئية الخافتة والباهتة، وهنا نلحظ العلائق المتبادلة بين الجسد البشري والجسد المادي المستعار في مختلف الحالات النفسية والحركية، فقد تمكنا الحليل (الزنجي) والحسيني (الأبيض) من أن يتحولا إلى حالات انفعالية قلقة متجردة من ثقلها الحركي الفيزيقي المباشر، ومنصهرة في أفكار فلسفية وذهنية ثقيلة تمكن المخرج من أن يغدقها بالإحساس ويجردها من خرسانية الأداء والتعبير، كما جعل منها في لحظات معينة كائنات جميلة تتماهى وطواعية القطع البسيطة المتحركة بحرية وانسيابية عالية كالطاولة والكرسي مثلا اللذين تملكا حضورا دلاليا حيا لافتا في العرض يتجاوز حالة الغرض المعتاد لها، والمرايا التي تعددت أبعادها الإفكارية الدلالية في العرض أيضا، فهي صوت الحرية تارة وحقوق الإنسان تارة أخرى، ونافذة الحوار بين قضايا العصر والحرية والإنسانية، وهي متسع الحلم والمنتظر، وهي منبر المواجهات الأيديولوجية والإجرامية بين زعماء وأطراف المؤامرات الخبيثة..

وما أصعب قتل الأطفال على النفس تلك التي نراها ماثلة بقوة في عيون وروح الزنجي، حيث لا مبعث على حلم يدعو لأمل وجمال، و(الأحلام لا تتحقق يا صاحبي، لذلك لا أتذكرها عندما أصحو من النوم)، يا له من رد مفجع ذلك الذي انغمرت فيه روح الزنجي التي جبلت على مسح الأحذية، ويا له من تكوين تعبيري بليغ ودلالي ذلك الذي تكونت فيه شظايا جسد هذا الزنجي لحظة إذ غادرت روحه هذا الحلم الذي لا يجيء، ويا له من فدح ذلك الذي يجعل الأب يتجاهل ذكر ابنته ونسيانها مرغما.

هي المساوئ التي لا تزول كالبقع الفاقعة التي تلطخ الثوب بالذنوب التي لا تغتفر، وكالذعر الذي يتخفى هلعا تحت الطاولة، وكالفقر الذي لا يستدعي مقارنته بالغنى، وكالهوية التي غيبها النظر إلى المرايا، تلك المرايا التي مسخت ملامح الكائن المضطهد، ولم يعد يرى في هذه المرايا سوى هشيم.

كل هذا الفضاء يحوله المبدع سامي بلال إلى نفق يؤول بشخصيتيه وخاصة الزنجي إلى الموت، شنقا عبر ربطة العنق (الكارفيتا) أو نحرا عبر المقصلة، أو خوفا من الموت نفسه، أو الموت بالجنون المطلق.

إنه عرض مسرحي مركب يقترب في روحه الفلسفية كثيرا من مسرح الكارثة الذي احتفى بها موريس بلانشو، ويقترب من روح جودو بيكيت بالرغم من عمق المفارقة بين مآلات هذا النص ونص بيكيت، فإذا كان بيكيت بانتظار جودو، فإن سامي بلال بانتظار الذي سوف لا يأتي إلا ميتا أو مدججا بأسئلة تأويلية لا تقف عند راهن معين أو زمن يصوغ أطره الفعلية المعلنة.

 إنه عرض مسرحي يستحق الجائزة بامتياز، ونتمنى أن يرى النور مستقبلا بعد زوال الجائحة في مهرجانات دولية، خاصة وأن الروح التي كتب بها العمل وقدم، هي روح كونية تتملك كما أشرت أفقا فكريا ثقافيا استثنائيا..

شكرا شكرا شكرا أيها المبدع الرائع سامي بلال..

شكرا مكررة للمثلين الرائعين أحمد الحليل وعلي الحسين..

شكرا لكل من أضاء وهج التجربة الإبداعية الرائعة.

 

 

 

 

 

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش