الفكر التنموي للمسرح – عائشة الدرمكي – #عمان

 

تُسلِّم اليونسكو بحسب تقريرها (الثقافة والتنمية المستدامة) “بالإمكانات الكامنة في الثقافة بوصفها قوة دافعة للتنمية المستدامة تسهم في إيجاد قطاع اقتصادي قوي وقابل للاستمرار”؛ ولهذا فإن الحديث عن الصناعات الثقافية أو الإبداعية، أو الاستثمار في الثقافة، يتأسس ضمن معطيات تلك الإمكانات التي يمكن أن تقدم حلولا ابتكارية للتنمية الاقتصادية الشاملة.
فالثقافة من خلال علاقاتها التنموية المتداخلة والواسعة مع أبعاد التنمية المستدامة (الاجتماعية، والبيئية، والاقتصادية)، يمكن أن تشكل مصدرا أساسيا للدخل وإيجاد فرص عمل متعددة، إذا ما تم النظر إليها باعتبارها موردا اقتصاديا مستدام، يقوم على إمكانات الموارد البشرية المبدعة، والعناصر البيئية المبتكرة، التي تدعم عمليات التصنيع والابتكار على المستوى الوطني.
ولهذا تُعد (التنمية البشرية) من أهم مرتكزات التنمية الثقافية التي تتأسس على تنمية الإبداع والابتكار لدى المتخصصين من الفنانيين والمسرحيين والروائيين والشعراء ومصممو الإعلانات وألعاب الفيديو وغيرهم، بالإضافة إلى المبدعين المهرة الذين يعملون في الصناعات الثقافية المختلفة مثل دوور النشر، وفنيي الإضاءة، وفنيي الديكور، وصانعي الآلات الموسيقية والمعدات الصوتية، وغيرهم، وكذلك الإدارات الثقافية والوظائف المرتبطة بها.
فأولئك المبدعين والفنيين والإداريين كلهم يعملون في منظومة متكاملة وفق دوائر تمثل (التنمية الثقافية) بؤرتها ونواتها الأولى التي تنطلق من مفهوم الإبداع نفسه والحاجة إلى تطويره. الأمر الذي يعني أننا من أجل تحقيق الصناعات الثقافية والإبداعية باعتبارها مُخرجا – وفق رؤية معينة – علينا أن نبدأ بالتنمية الثقافية لمصادر الثقافة بأنواعها المتعددة، وتنمية الموارد البشرية المرتبطة بها، مما سيوفر اقتصاد ثقافيا، قائما على فهم واقع الثقافة المحلية وقدراتها الإبداعية المُمكَّنة.
ولأن الصناعات الثقافية والإبداعية قائمة على التنمية الثقافية من ناحية، والابتكار من ناحية ثانية، فإن قدرة المبدعين على تطوير مهاراتهم وإنتاجاتهم واستثمار الموارد المحلية المتاحة، تُعد أحد أهم المكونات الأساسية التي تسهم في استدامة الإبداع والابتكار، ولعل مجال الفنون المسرحية يقدم شاهدا تنمويا مهما في القطاع الثقافي، لما يمثله من قدرات على المستوى الإبداع، وعلى مستوى تطوير إمكانات الموارد البشرية المبدعة (المؤلفين، والممثلين، والمخرجين والموسيقيين ، وفنيي الإضاءة أو الديكور وغيرهم)، أو في تحويل الموارد المحلية إلى صناعات مبتكرة، كما نجد ذلك في المواد التي تُستخدم على خشبة المسرح أو من خلال ما نراه في مسرح الشارع أو تلك العروض المسرحية التي تُقدم في ساحات القلاع أو الحصون أو غير ذلك.
يشير الكتاب الإحصائي السنوي للعام 2020 الصادر عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات في السلطنة في مؤشرات الإعلام والثقافة أن العروض المسرحية المقدمة في السلطنة للعام 2019 بلغت (98) عرضا حضرها 36000 متفرجا، بينما كانت في العام 2018 (157) حضرها 95000 متفرجا، والمتتبع لهذه الإحصاءات بالرغم من عدم شموليتها – فهي لا تشمل بيانات بلدية ظفار كما أفاد التقرير – سيلاحظ أنها متصاعدة بشكل منتظم تدريجيا من العام 2010 إذ تم تقديم (8) عروض حضرها 6000 متفرج حتى العام 2018.
إن هذه الإحصاءات تقدم مؤشرات عن نمو قطاع المسرح وقدرة المبدعين على التنامي والتطوير من ناحية، وإقبال المجتمع على متابعته وحضوره بوصفه فنا جاذبا لجمهور الفُرجة من ناحية أخرى، ولأنه كذلك فلقد شّهِد تناميا كبيرا في السنوات الخمس الأخيرة بسبب الشباب المبدعين الذين قدموا المسرح باعتباره صناعة إبداعية؛ فمن تجربة فرقة الرستاق المسرحية، وفرقة مسرح هواة الخشبة، وفرقة مسرح مسقط الحر، و فرقة الصحوة المسرحية، وفرقة الدن للثقافة والفن، وفرقة صلالة المسرحية، وفرقة ظفار المسرحية وغيرها، يمكن القول أن هذا القطاع يحظى بموارد بشرية إبداعية يمكن أن تُسهم بشكل مباشر في التنمية الاقتصادية إذا ما تم تمكينهم وتنمية مهاراتهم بما يتوافق مع معطيات الصناعات الثقافية الحديثة.
ولو أخذنا برأي المؤرخين للمسرح العماني فإن بداياته قد ظهرت منذ أربعينيات أو خمسينيات القرن الماضي في المدارس السعيدية (مطرح، ومسقط، وصلالة)، الأمر الذي يعني أن عُمر مسرحنا اليوم يزيد عن سبعين أو ثمانين عاما. والحال أن المسرح في عُمان لم يُنظر إليه باعتباره قطاعا تنمويا من الناحية الاقتصادية بل حتى من الناحية الثقافية، فلا تزال البنية الأساسية للمسرح العماني غير مكتملة، الأمر الذي يجعل المهرجانات و العروض المسرحية التي تقدمها الفرق الأهلية باحثة عن ممول من القطاع الخاص أو حتى الحكومي، بدلا من أن تكون هي نفسها مورد دخل لفنانيها والعاملين فيها.
ولذلك فإن المسرح العماني لم يستطع حتى اليوم أن يقود نفسه إلى اقتصاد الثقافة أو إلى تنمية موارده وإثرائها، والأسباب في ذلك متعددة، يأتي على رأسها التخطيط التنموي لهذا القطاع فبالرغم من الجهود التي قامت بها المؤسسات الثقافية سواء الحكومية أو الأهلية منذ نشأته الأولى وحتى اليوم، ظل النظر إليه بوصفه مصدر تسلية للمبدعين والهُواة، أو تعزيز للهُوية الثقافية في أفضل الأحوال، لا مصدر تنمية اقتصادية قد يفتح مئات الوظائف الإبداعية أو المسانِدة للعديد من الباحثين عن عمل، ففي حين يظل وضع المسرح العماني بين فرق تطلب الرعاية المالية من قِبل القطاع الخاص، وأخرى تحاول أن تفتح مجال الاستثمار الثقافي بفرض بعض الرسوم (المتواضعة) على الجمهور، وأخرى تتفكك بعد جهود مضنية، نرى أننا نستقطب الفرق المسرحية من الدول العربية أو الأجنبية بمبالغ باهضة سواء في المهرجانات أو حتى في المؤسسات الثقافية، ولا ضرر في ذلك سوى أن نلتفت إلى المسرح في عُمان باعتباره موردا يمكن استثماره في التنمية الاقتصادية المحلية.
يُورد تقرير (الاقتصاد الإبداعي. تعزيز سبل التنمية المحلية) الصادر عن اليونسكو دراسة حالة عن (مدرسة للفنون المسرحية في مدينة لابلاتا في الأرجنتين توفر فرصا مهنية جديدة للشباب العاطلين عن العمل)؛ حيث يذكر التقرير أن الصناعات الثقافية والإبداعية في الأرجنتين يعمل فيها أكثر من (300000) شخص، (ويمثل نشاطها نسبة 3.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلد)، وقد أنشأت الأرجنتين مؤسسة المسرح الأرجنتيني في لابلاتا في العام 2011، وهي منظمة غير حكومية تعمل من أجل إيصال فنون الأداء إلى جمهور واسع، أنشأت ضمنها مدرسة لتطوير مهارات الشباب الباحثين عن عمل، عن طريق تدريسهم فنون المسرح وتقنيات الإنتاج بأدنى التكاليف، وذلك في دورات دراسية مكثفة تستغرق عام واحد، تشمل مجالات المواد السمعية والبصرية ، واستراتيجيات التواصل، والإدارة المسرحية، والأداء والكتابة الإبداعية، إضافة إلى ورش النجارة والنحت والكماليات، وتصميم المشاهد والأماكن والإنارة المسرحية، وتصفيف الشعر والتجميل وغير ذلك مما يتعلق بالعروض المسرحية.وبحسب التقرير فإن (586) طالبا قد أتموا برنامج السنة، حصل العديد منهم على وظائف فور انتهاء المدة في المؤسسات المعنية بفنون الأداء، فيما أنشأ الكثير منهم مشروعات تجارية بما فيها إقامة عروض للمواد الفنية ومتطلبات المسرح، أو العمل في مجالات النشر وغيرها.
إن هذه التجربة تقدم بوضوح أهمية التنمية الثقافية لقطاع المسرح بوصفه موردا مهما للاقتصاد الوطني، وليست هذه مهمة الحكومة وحدها بل مهمة المبدعين في الدرجة الأولى لأنهم المتخصصون الذين عليهم أن ينظروا إلى المسرح باعتباره قوة تنموية قادرة على المضي وتأسيس فكر اقتصادي إبداعي قائم على مرتكزات التنمية والمعرفة؛ فمع توجهات الدول إلى مجتمع المعرفة فإن المسرح عليه أن يواكب التقنيات الحديثة، ويعمل على تنمية مهارات منتسبيه، فها هو العالم يتجه اليوم مع المتغيرات المتسارعة إلى ما يُسمى بـ (المسرح الرقمي) باعتباره قدرة ثقافية واقتصاد إبداعي قادم.

 

https://www.omandaily.om/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش