العيادة المسرحية وصناعة المستقبل ” الإخراج العيادي ” د. جبار خماط حسن

العيادة المسرحية وصناعة المستقبل ” الإخراج العيادي ” د. جبار خماط حسن مؤسس العيادة المسرحية لم يعد الواقع مركبا منضبطا بسبب هيمنة البؤر المتعددة، جغرافيا وحضاريا ومفاهيميا، الأمر الذي استدعى فلسفة التفكيك لتكون معبرة عن ذلك التهديم وإنكار الجوهر الضابط لحركة الوجود، إذ لا أصل في الحركة، وكل شيء محض طاقة فاعلة تستحدث ذاتها بذاتها. وهنا جاءت فلسفة العلم المعاصرة، لتقول أن الشيء لا يفنى، بل بموته يترك ظلا لوجوده مباشر أو غير مباشر، فالعالم محض ظلال متحولة من حال إلى حال، متغيرة في صيرورة لا تنتهي، فالرجل الذي لديه اولاد، لا يموت، لأنه يكون بمثابة ظلا ينتقل بوجودهم، وكذلك الثروات، لا تبقى علي حال واحد، بل تتغير وتنتقل من حال إلى حال، تبعا إلى حركة السوق ومتطلباته، كذلك الوجود، لا يفنى بل ينتقل ويتحول في صيرورة لا تنتهي، لأن ليس ثمة عدم مادي أو معنوي.. من هذا نجد فلسفة الفن المعاصرة، انتقلت من مرحلة الفصل بين الشكل والمضمون إلى مرحلة المضمون وقد تحول شكلا، في صيرورة وتحولات لا نهاية لها، لأنها دخلت فضاء الوعي الخاص بالمتلقي الذي هو شريك فاعل في إكمال شفرات العمل الفني الجمالية والفكرية والاجتماعية والنفسية، لذلك لم يعد الفن المعاصر ما بعد الحادثة مكتمل أو مغلق الحلقة، بل نجده نسقا مفتوح الحلقة، قابل التأويل المتعدد الذي هو دليل حياة وعافية العمل الفني. أن حال متذوق الفنون المعاصرة مثل مشاهدة حزمة من المشاهدات ينتقل بينها بمجرد الضغط على زر التحكم عن بعد، لا يكتفي بالثابت البصري والسمعي والحركي، بل يميل إلى الانتقال والتغير المفاجئ للمشاهد، التي برأيه، مفقود لديه، يحققه عالم افتراضي، له القدرة على التحكم به، ولذلك يجد نفسه رمزيا في إرادة يصنعها من دون يقين في الإمساك بالخطاب أو الافتراض الذي يحقق لديه توازنا داخليا، يدفعه إلى الاتصال وليس الانفصال، والتعايش بدلا عن القطيعة، كل هذا اوجده العالم الرقمي الذي أحال الإنسان إلى مجرد مفتاح في لعبة متاهة لغابة رموز، ينبغي عليه حلها، والتخلص من آثار الجهل الرقمي، الذي ميز العالم المعاصر، إلى صنفين، أحدهما منتج للرقميان، يبيع الرموز والأوهام البصرية والسمعية، والصنف الثاني مستهلك لها، عاجز على مواجهة تطوراتها التي تؤكد فرضية هيمنة عالم الرقميات بوصفه مستعمر جديد – بكسر التاء – لعوالم رخوة مستعمرة – بفتح التاء – تلعب دور المستهلك العاجز. أمام مثل هذه الحرب الناعمة التي تصنعها الرقميات في أزمنة قياسية، ينبغي على الفنون إعادة الإنسان إلى فضاء الإرادة والحرية المفقودة، من خلال صناعة الإبداع ما بين الناس، الذي يتيحه لنا المسرح، بوساطة المشاركة في إنتاج العمل الفني، فالكل مبدعين في إيجاد عالم جديد، يصنعه الفن المسرحي، أساسه البساطة والتلقائية والحميمية الذي يحققه لنا مختبر العيادة المسرحية في عالم مسرحي عيادي، يبدأ بالمخرج بوصفه مدربا مساهما في التنمية البشرية المستدامة، والممثل العيادي بوصفه قائدا للرأي المسرحي الذي يريد نشره بين الناس، على نحو من الألفة الادائية التي تبتعد عن التعقيد والتكلف، وتقترب أكثر من البساطة والتناغم الاجتماعي. لم يعد المسرح خبزا جماليا في كل مكان، لأنه مال كل الميل نحو بهرجة الشكل الرقمي، الذي أصبح الممثل فيه ثانويا أو عاملا مساعدا لتعزيز وجود الفضاء الرقمي، الذي ظاهره جميل، وباطنه مفرغ من المضمون الإنساني، وهو يناقض جوهر عمل المسرح، الذي أوله إنسان ونهايته إنسان جامع لمجموع تواجد الجمهور. أن حركة تاريخ المشاعر والأفكار الخالدة، يبتكرها الإنسان بطاقته الهائلة على الخلق والإبداع في ظروف صعبة، لأن يحفز في وعيه وعقله ووجدانه، الإرادة الإيجابية التي تصنع المستحيل، وهو ما دفع السجناء والمدمنين ومرضى الإصابة بالسلاح الكيميائي، إلى كتابة نص مسرحي يتطور يوميا، يتناول فكرة إيجابية مثل مكافحة الفساد الإداري والمالي، أو معالجة بعض الظروف الصعبة التي تدفع بعض الشباب إلى الجريمة وتعاطي المخدرات، أو موضوع البيروقراطية وتعطيل حياة بعض فئات المجتمع التي تحتاج عناية طيبة طارئة، كل هذه الأفكار وغيرها، تجعل من المشاركين في العيادة المسرحية، قادة رأي ايجابيين، يتحولون من مرضى معزولين في ردهات المستشفيات، أو زنازين السجون، إلى مبدعين، يشار لهم بأصابع الإعجاب والاطراء، لانهم تخلصوا من الإعاقة النفسية والاجتماعية، وفتحوا بابا مشرعا نحو المستقبل، يصنعوه بإرادتهم وابداعهم، لأن العيادة المسرحية ببساطه هي العلاج بالمستقبل الذي يحققه فن التمثيل، لأنه يقترح شخصيات إيجابية، يؤمنون بها، ويتدربون عليها في بيئة التمارين، التي تكون – لاحقا – مكانا للعرض المسرحي. أنها رحلة استعادة الذات بعد ضياعها بنشوة الاكتشاف الذي يمر به المستفيد من العيادة المسرحية عبر مراحل تدعيم الثقة التي تبدأ بمنصة البوح، مرورا بالحوار الحر وصولا إلى تمارين الصوت والجسد والتنفس. لذا فإن الاخراج العيادي فلسفته البساطة العميقة المغروسة في وعي الناس البسطاء، لا يؤمن بالتعقيد ، لان التكوين لديه، هو من صنع الانسان، في حياة يؤمن بها، يصنعها عقله وجسده، إذ لا يمكن ان يتفاعل الإخراج العيادي مع ممثل محترف، عطلته الصيغ الجاهزة، التي تعود عليها الجمهور، ونفر منها بدافع الملل، لذا يذهب الاخراج العيادي، الى الناس في كل مكان، يعيد تكوين حياتهم، من مفردات الحياة المحيطة، وكل ما يجده او يتواجد في مكان البروفة او التمرين، يساعد في تشكيل البيئة المسرحية، التي تنتظر الممثل العيادي، ليكون معها في اتصال حميمي، لا نجده في انماط المسرح الاخرى، فالحياة داخل العيادة المسرحية، مثل مختبر الاجنة، تتعامل مع الظروف المحيطة لتصل إلى مرحلة الولادة، الذي ينتظره الجميع بعد انقطاع، تلك هي لحظة الاكتشاف ومراقبة المنجز كيف ينمو ويصير ناصحا وموثرا بين الناس.

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *