العرض المسرحي المغربي كل شيء عن أبي .. حتى لا يعيد التاريخ نفسه

تحسين يقين

لم يكد تنتهي الحركة الأولى حتى بدأ الطاقم التمثيلي بالتجرد من الغطاء الأسود الأول، القشرة الخارجية الأولى، في إيحاء مسرحي صار تقليديا في المسرح اليوم للبوح، حيث سيصبح ما سوف يروى مثار ضحك وليس تأمل فكري فقط.

اثنان واثنتان، خاص وعام، اجتماعي وسياسي، ماض وحاضر، مطلق ونسبي، كأنه حاول أن يحيط بأكبر قدر من تجليات حياة المغاربة في زمن معين ظل مستمرا لفترة تطول حتى الآن؛ حيث استطاع العرض جذب جمهور الوهرانيين والمسرحيين العرب، حتى اللحظة الأخيرة، بما اعتمد على التفاصيل الإنسانية بمصداقية عالية.

ثلاثة مستويات من المضمون كنا إزاءها، أما المستوى الأول فهو القريب والمباشر الذي يتجلى في الحوار وفي البوح، وفي الرواية الخاصة لأفراد العائلة عن أنفسهم والآخرين، بما تأثروا وأثروا، وبما بحثوا عن مصالحهم الفردية في ظل محاولة توازنها مع المصلحة العامة.

وقد تجلى المستوى الثاني في العلاقات التي حكمتهم/ن، وفي العادات والتقاليد الاجتماعية، والتي أمكن رؤيتها كأحداث من جهة، وكمؤثر على الأفراد من جهة أخرى وهذا هو الأهم. وهو من حيث القرب يعد في درجة متوسطة ما بين القرب والبعد.

أما المستوى الثالث، فهو المضمون السياسي والتاريخي، الذي كان محل تأثير على النفسي-الاجتماعي، ومحل تقييم ومحاكمة. وبسبب هذا التداخل بين تلك المستويات، والتي يمكن أن يكون المشاهدون قد رأوا أنفسهم وسياقهم الاجتماعي والسياسي فيه معا، لصعوبة الفصل بين السياقات، فقد اندمجوا فيه ومعه، ولعل ذلك هو ما يفسّر هذا الاندماج، إضافة إلى القدرات التمثيلية والخطاب الصادم أحيانا.

حاكى العرض دراما الواقع باتجاه نقدي للتقاليد، والعلاقة مع الآخر، والقضايا المعاصرة التي يعيشها المغرب، كالبطالة والأزمات السياسية والهوية الثقافية، والحياة الاجتماعية المتشابكة كالزواج والمختلط في ظل التحولات التي تعصف بالهوية، بحيث اندمج النقد الذاتي والاجتماعي والسياسي ببوح عال، فكان كل شيء عن أبي هو كل شيء عن حياتنا الاجتماعية ونظامنا السياسي.

ليس هناك حدث، بل هناك تباين إزاء الأحداث، تجلى في صورة صالح الراجي الدارس للتاريخ، ذي النزعة الاشتراكية، وتعدد العلاقات العاطفية، التي تختلف عن صورة توفيق الصادقي الذي ارتبط والده بعلاقة عمل مع فرنسي، بحيث يظهر الصراع الداخلي ايضا لدى الصادقي، بين التبعية بما فيها من مصلحة، وبين الميل للتحرر.

أما ذروة الدراما فكان في صراع وحيرة المثقفين والحزبيين، وكيف يدورون ويتعاركون سياسيا، حيث نزعم أن المخرج قد نجح في التعبير عن توتر السبعينيات في تاريخ المغرب.

لقد تم استخدام الدوائر، كدخول الى الشخصية وخروج منها، أما جعلها متوازية فقد كان لدخولهم معا، الدخول الجمعي، ولربما نحن إزاء حكاية حدثت وتعود من جديد، أو هي استمرارية للمضمون لكن بأشكال أخرى. فالصراع الفردي والاجتماعي هو نتيجة لصراع أكبر هو الصراع الفكري والسياسي، ولعل الأخير هو نتاج الصراعات الفردية والاجتماعية. وفي سياق الدائرة الزمنية، يمكن تفسير الحركات الصوفية التي لا تبرح مكانها والغناء الديني كأنها إشارة ناقدة اتوظيف العامل الديني في إبقاء المجتمع على توازنه القائم.

حيرة النخبة وحيرة الناس، إزاء المحطات التاريخية 1931، 1953، 1975..التي عاشتها المغرب، في ذروة توترات السبعينيات.

يبدو البوح-النقد مستمرا، من خلال تقشير الأغطية مرورا بالحمام كمكان يساعد على البوح التلقائي والجريء؛ فكان نشر الغسيل مصاحبا لحديثه عن بقاء المستعمر معنويا بعد رحيله: “فرنسا خرجت وخلت لينا صحابها”.

استخدم المخرج أسلوبا إخراجيا، في خلق فرجة داخلية، عن طريق جعل الطبيبة مثلا خارجة عن مساحة الحركة، خارج الدائرة التمثيلية، كأنها تطل على المشهد والحياة، حيث تقودنا برفق للتأمل معها.

وضمن ذلك، يحاكم الشخوص أنفسهم، حيث وجد الانسان نفسه في المكان الذي كان يوجه له النقد من قبل، ولربما ينطبق ذلك على الكثير من الشعوب. وهو نقد لتلك الهشاشة التي نعاني منها.

وليس هذا فقط، بل كان لتناوب دور الطبيبة والمريضة-المأزومة، أثر مدهش في بيان ما نعاني منه نحن أيضا؛ حيث تشجع الطبيبة مريضتها على البوح عن معاناتها، وفي ظل ذلك نراها تندمج معها معبرة عن معاناتها هي كامرأة أيضا يطالها الهم النسوي. فالأزمة شخصية وعامة.

وفي السياق النسوي، نجد الدور النمطي للمرأة، الذي تتمرد عليه الفتاة حينما تغادر الى باريس، حيث ناقش العرض (بمبالغة ربما) الحرية الجنسية في سياق التحرر الاجتماعي والسياسي.

أما استخدام أسلوب اليوميات تمثيليا، فقد منح العرض مصداقية تطبيقية، ليس بإمكانية الحدوث بل بالحدوث نفسه.

ولم تكد المسرحية تحط رحاها، حتى شهدنا جدلا في مسرح علولة في الندوة التطبيقية، والذي رغم اختلاف منطلقاته فكريا وفنيا، إلا أنه أظهر أن الانفعال لم يقتصر على فئة الجمهور العام، بل تجاوزه إلى النقاد والمثقفين، والذي كان للتفاصيل الدرامية لا الأحداث بحد ذاتها هو المحرك والجاذب. وأزعم أن اختيار المخرج لتلك التفاصيل كان لإدخال الجمهور إلى داخل اللعبة نفسها، لأنهم في الحياة هم أصلا فيها أو قريبون منها نفسيا واجتماعيا وسياسيا، بل أزعم أن المشاهد من غير جنسية العرض، سيجد نفسه هو الآخر، يغوص في مجتمعه وتاريخه، بل والأهم من ذلك موضعة نفسه كفرد في هذا المجموع، ما له وما عليه، متأرجحا وحالما بين الخلاص الفردي والجمعي- والإنساني أيضا.

فإذا كان مضمون رواية “بعيدا عن الضوضاء، قريبا من السكات” للروائي المغربي محمد برادة قد أدخل القراء ذهنيا ونفسيا في حياة الأفراد والمجتمع على ضوء التحولات السياسية والاجتماعية قبل الاستقلال وبعده، فإن المسرحية المقتبسة، استطاعت عبر شكلها الدرامي على تعميق هذه المشاعر والأفطار بشكل حيوي مثير، بحيث يصبح المشاهد مشاركا فيها.

وأخيرا، فقد تم توظيف حوض الماء للتتطهر، حيث ينشد العرض الخلاص الإنساني.

 

—————————————————-

المصدر : مجلة الفنون المسرحية – الأيام

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *