العرض الأول لمسرحية «ذاكرة قصيرة» لوحيد العجمي: الوطن سيسائلكم فهل ستتذكرون خيباته : مفيدة خليل

الوطن مقدّس و المسرح اكثر قداسة فالمسرح بكل اشكاله فعل نقدي بنّاء،

ممارسة المسرح معناها ممارسة النقد و الحياة وطرح لاسئلة دون خجل او ووجل وفي «ذاكرة قصيرة» يسألك وحيد العجمي عن الوطن، يسألك عن الذاكرة عن الشعارات عن الشهادة والواجب عن الحق المنسي وعن صراعات افتعلها ابناء هذا الوطن ليثقلوا كاهله بجراح لم تندمل بعد.
في العرض الاول لذاكرة قصيرة طرح سؤال عن الوطن من خلال شخصيات متباينة وأحداث نعايشها كوميديا ساخرة قدمها الرباعي لبنى نعمان ونهلة زيد و رضا جاب الله وخالد الفرجاني وسينوغرافيا اشرف المسعودي وموسيقى لهاني معطر ووائل العجمي.

العنوان:تشتت المعنى وتشظّي المفهوم
العنوان مفتاح المعنى العام للعمل المسرحي واختزال لفحواه و العنوان عتبة النص والعلامة الاولى الدالة على فحواه لذلك فالاهتمام به يأخذ حيزا من اصحاب العمل هكذا يقول حمادي الوهايبي في كتابه «الاخراج المسرحي في تونس» وفي «ذاكرة قصيرة» يكون العنوان اختزالا وتكثيفا لروح العمل هو مفتاحه ومدخل لفهم العمل ومحاولة التعمق فيه ومعايشة احداثه ووقائعه.

عنوان المسرحية «ذاكرة قصيرة» مكوّن من كلمتين الاولى «ذاكرة» إسم مشتقّ من فعل «»ذ ك ر «وهو ( فعل : خماسي لازم متعد ). تَذَكَّرْتُ ، أَتَذَكَّرُ ، تَذَكَّرْ، تَذَكَّرَ أَياَّمَهُ الْمَاضِيَةَ، أَعَادَ تَصَوُّرَهَا إِلَى ذَاكِرَتِهِ، و«ذاكرة» هي الاسم و معناها «قدرة النفس على الاحتفاظ بالتجارب السابقة واستعادتها»، اما الجزء الثاني «قصيرة» فمعناه «محدود» لنكون امام كلمتين متناقضتيبن اولى تقوم على استحضار احداث ووقائع ربما تعود لسنوات قديمة جدا و ثانية محدودة و كلمة «ذاكرة قصيرة» في اللهجة التونسية تحيل دوما على النسيان.
وفي المسرحية في عرضها الاول يكون لقاء المتفرج مع هذه الذاكرة القصيرة والمحدودة، فحسن «خالد الفرجاني» نسي انه من وشى بوالده ونسي انه من زرع نزهة وسط المعتصمين لتكون عينه، ونسي أن نزهة هو من ضبطها رفقة والده في وضع لا أخلاقي في المستشفى، ونزهة «لبنى نعمان»نسيت انّ حسن «البوليس» هو من زرعها وسط

معتصمي القصبة ونست ان «الجيلاني» والد ابنها هو والد عمران زوجها، و عمران» رضا جاب الله» نسي ان شقيقه هو من وشى بوالده ليعتقل بتهمة التجسس ونسي انه عرف نزهة وهي حامل وقبل بالولد حد معاملته انه ابنه، ومريم « نهلة زيد»نسيت انها صحفية بالأساس وتماهت مع الراقصة بالكاباريه، جميع الشخصيات اشتركت في قصر الذاكرة ومحدوديتها حدّ التنافر وتشظّي القيم العائلة و الاجتماعية و التاريخية كذلك جمبعهم نسي او يحاول النسيان لتجاوز الالم فـ» الذاكرة والألم توأمان، لا تستطيع قتل الألم دون سحق الذاكرة. « كما تقول غادة السمان.
فبسبب الذاكرة المحدودة تناسوا احداث اعتصام القصبة، كل نسي انه كان هناك لسبب ما ، تناسوا ان الشهيد والدهم هو بالاساس فارّ من السجن ، نزهة تناست انها مزروعة هناك وعاشت دور الممرضة المتطوعة، و عمران نسي انه مخمور و «مزطّل» طيلة فترة الاعتصام وارسله اخوه الى خيمة القضاة لمعرفة ما يدور، الكل يشترك في النسيان تماما كنسيان التونسيين سبب الثورة والأهداف التي ثاروا لأجلها.

الشخصيات تنافرت إلى حدّ التماهي
اربعة اجساد، ضوء ازرق يخفي ملامح وجوههم ربما هي رغبة المخرج ليعرف المتفرج سير الاحداث تدريجيا دون التركيز على ملامح الوجه، أربعتهم عوّلوا على الحركة ليقنعوا المتفرج بالدور والحكاية، ملامح الوجه شبه غائبة فقط الصوت وتقنيات عديدة للحديث او تحريك الشّفاه، حركات سريعة للدلالة على الغضب ومحاكاة لأحداث الثورة وأخرى بطيئة للتعبير عن ضجر وملل المواطن من انتظار نتائج ثورة لم تكتمل.

شخصيات العمل اربعة قامت على التناقض في الافكار ووجهات النظر وطريقة العيش تنافر وتناقض حدّ حدوث التماهي بينها في النسيبان.

أربعــة شخصيــات على الركـح وشخصيتان غائبتان مؤثرتان في سير الأحداث الشخصيات قامت على تنافر بين الاسم والمعنى، فحسن ومعناه الحسن نجده قبيح الفعل فهو واش مرتزق يستغل نفوذه للحصول على الترقيات و يستغل الجميع ليكون «البوليس رقم وحد» وقبيح الوجه «شلاغمك خايبة» كما ينقده شقيقه، اما عمران ومعنى الاسم يعني البنيان وهو ما يعمّر به المكان وجميع حاملي الاسم يحيلون الى العظمة والإعمار والبناء ، بينما عمران المسرحية شخصية يجدها خالية الوفاض فكريا فقط شعارات يسارية يرددها طالب لم يستطع اتمام دراسته هو أيضا لم يعمّر رحم زوجته بابن من صلبه واكتفى بابنها هي، عمران لم يستطع حتى الحفاظ على عمران البيت واستسلم لسطوة شقيقه.
أما «نزهة» فهي تخلو من النزاهة لأنها استغلت عملها كممرضة لاغواء احد النزلاء، وتخلت عن النزاهة حين قبلت ان تكون عين البوليس على المعتصمين واستغنت عن نزاهة إسم تحمله حين تزوجت من اخ جنينها، و«النزهة» بمعنى الفسحة لا تعرف اليها طريقا لانها عانت هي الاخرى الكثير من الظلم و الضيم شخصية ابدعت الفنانة لبنى نعمان الرقيقة في تجسيدها لبنى الهادئة كفراشة تصبح لبؤة على الركح.

رابع الشخصيات مريم، ومفعّل من رام اي برح المكان او الشيء ورفض التخلي عنه، في حين مريم المسرحية تخلّت عن حلمها في ان تكون صحفية أمام أول عقبة وصنصرة تعرضت إليها، مريم اسم يحيل على جمال صاحبته بينما في الشخصية كانت مركبة مضحكة في طريقة الحركة واللباس صورة كاريكاتورية ابدعت الممثلة في تجسيدها.
أربع شخصيات متنافرة كل يحمل شخصية عكس اسمه، اربعتهم تميزوا كلّ جسّد شخصيته على حدة كل نقد التاريخ بطريقته ومتى جمعوا في لوحة واحدة حققوا الضحكة والنقد اربعتهم من مميزات نجاح العمل الخالي من الديكور عملا بمقولة غروتفسكي «أنه يمكن الغاء الديكور والملابس والاضاءة والموسيقى والشخصيات الثانوية يكفي ان نحافظ على وضعية الممثل الواحد مقابل المشاهد ليتحقق المسرح « في «ذاكرة قصيرة عوّل وحيد العجمي على اربعة ممثلين ماهرين أضحكوا المتفرج ودفعوه للتفكير أيضا.
لازال في العمل شخصيتان اثنان غائبتان جسديا ولكنهما تحضران في سير الاحداث الشخصية الاولى «الجيلاني» الشهيد وهو عاشق للكتب له مطبعة صغيرة في باب بنات وشى به ابنه بتهمة التخابر مع روسيا، الجيلاني سجن ثمّ وضع في المستشفى بعدها هرب من السجن و قتل برصاصة فاحتسبته الجماهير شهيدا، «الجيلاني» هو المسؤول عن خراب الابنين اولا وهو وان توفيّ لكنه ترك في احشاء نزهة «جنينا» هو «مبروك» ، الطفل غير الشرعي تماما كأهداف الثورة لا يعرف المنادون بها من نادى بها اولا الثورة التي تحولت الى صراعات سياسية وايديولجية صراعات وانقسامات تناسوا معها الاهداف الاولى فكانت النتائج مشوهة تماما كالطفل مبروك الذي يعايشه المتفرج عبر تقنيات الفيديو.

سحر الضوء ينطق بايديولجيا الفكرة
ضوء أزرق، موسيقى تشبه دقات قلب المريض، الضوء يصبح احمر قان كما لون الدماء فاصفر كما اوراق الخريف، وفي مشهد وحيد يكون زهريا، الضوء في «ذاكرة قصيرة» كان محمل الاحداث بالضوء والسينوغرافيا نقد المخرج تاريخ الثورة ونقد ما حدث بعدها من اعتصامات وصراعات وفي المسرحية عملوا بمقولة «لقد تطورت الإضاءة من

مجرد اضاءة اشكال على الخشبة الى اضاءة فنية تعبر عن الاجواء النفسية التي تمثل نوعية العمل الدرامي « كما دكتور محمد حامد علي في كتاب الاضاءة المسرحية.

ولانّ الاضاءة والسينوغرافيا جزء من العمل الدرامي قامت في العمل على الابهار لتكون حمّالة معان فبالضوء نقدوا تونس قبيل الثورة وبعدها وبالضوء نقدوا صراعات من ادعوا النضال وأصبحوا قادة فجأة ونقدوا حال الفن والفنانين، السياسيين والصحفيين ليكون الضوء في العمل حمّالا لايوديولجيا المخرج الباحث عن التغيير من خلال النقد تماما كما يقول بريشت «» اننا لا نحتاج نوعا من المسرح يطلق المشاعر او ومضات الادراك او الدوافع بداخل مجال الاطار التاريخي الخاص بالعلاقات البشرية التي تدور فيها الاحداث فحسب بل مسرحا يستخدم ويشجع الافكار و المشعر التي تساعد على تغيير المجال نفسه»فالمسرح كلما ابتعد عن الايديولوجيا سقط فيها».

_____________________

المصدر : جريدة المغرب

موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *