السينوغرافيا الموسعة تأملات أولية في مسار المسرحي المغربي عبد المجيد الهواس – د.خالد أمين

السينوغرافيا الموسعة.. تأملات أولية في مسار المسرحي المغربي عبد المجيد الهواس – د.خالد أمين

          أهم ما يميز تجربة عبد المجيد الهواس الإبداعية هو ملمح الشمولية وتنوع المنجز. إنه فنان شامل يجمع بين كتابة القصة القصيرة، والتشكيل، والإبداع السينوغرافي، والكتابة الركحية الشاملة. غالبا ما يُختزل منجز الهواس في السينوغرافيا، وهو الحقل الذي أبدع فيه بقوة خلال العقدين الأخيرين مع فرق رائدة (مسرح الشمس، مسرح اليوم…)، ورفقة مخرجين مرموقين: عبد الواحد عوزري، وفوزي بن سعيدي، وبوحسين مسعود، وعبد العاطي المباركي، وأسماء هوري، وأحمد حمود… والحال أن المتتبع لمسار الهواس المسرحي يلاحظ انعطافة الرجل أكثر فأكثر اتجاه الإخراج المسرحي، خلال السنوات العشر الأخيرة خاصة داخل فرقته وبيته الرمزي (مسرح أفروديت). ولعل مراجعة قائمة أعماله تؤكد بالملموس هذه الفرضية: (“امرأة وحيدة”، 2001)، (“شجر مر”، 2004)، (“شتاء ريتا الطويل”، 2005)، (“نوستالجيا”، 2006)، (“فيول أنسين”، 2007)، (“حديقة معلقة”، 2007)، (“آش بان ليك”، 2010)، (“لالة جميلا”، 2014)، (“شكون انت؟”، 2012)، (“سكيزوفرينيا”، 2013)، (“رجل الخبز الحافي”، 2015)، (“في انتظار عطيل”، 2017)…

          ما هي معالم هذه الانعطافة؟ وهل يمكن تفسيرها من حيث هي رغبة دفينة لدى الهواس للانعتاق من جلباب “السينوغراف”، بهدف استشراف آفاق الدراماتورجيا الركحية بشكل أرحب. قد يقرأ البعض منا هذه الانعطافة بأنها رغبة في قتل السينوغراف بداخل الهواس. لكن، حسب اعتقادي المتواضع، فهي أيضا تمرد على وظيفة السينوغرافيا وتوسيع مجالها لتصبح كتابة شاملة وغير قابلة للاختزال أو الخضوع لرؤية إخراجية أحادية. فحتى حينما شاهدنا الهواس السينوغراف في تجربة “ها بنادم” (عن مسرحية “رجل برجل” للكاتب المسرحي الألماني بيرتولد بريشت) مع المخرج محمد زهير والفرقة الجهوية لجهة الرباط الزعير، فقد بدت سينوغرافية الهواس مشاكسة وأحيانا مستفزة لاختيارات المخرج، وذلك من خلال المنحى العمودي vertical الذي فرضته السينوغرافيا عكس اللعب الأفقي الذي اختاره المخرج. إنه استفزاز خلاق يمنح السينوغرافيا مكانة خاصة في سيرورة الكتابة الركحية الشاملة. ومن تم، يجعلها تتبوء مكانة مرموقة ضمن صيرورة الإنتاج المسرحي.

          وقد بلغ هذا الاستفزاز الخلاق ذروته في تجربة “دموع بالكحول” للمخرجة أسماء هوري. ونظرا لإيمان هوري بمنطق إلغاء التراتبية بين مكونات العرض المسرحي، فقد تم توظيف كل من النص الدرامي، والممثل، والفضاء، والزمن، والإضاءة، والملابس، والموسيقى الحية، والمنجز السينوغرافي… بطريقة متزامنة ومتساوية وبمعزل عن مركزية أحد المكونات وهيمنتها على الأخرى… وهذا في حد ذاته اختيار ذكي من طرف المخرجة. إنه أسلوب ما بعد درامي فيما يخص دراماتورجيا الفرجة وتعاطيها مع مكونات العرض المسرحي، دون التخلي عن الدور الريادي للمخرج بوصفه قائدا لكل أعضاء الجوقة…

          وهنا أيضا، لاحظنا تألق الهواس في إبداع سينوغرافيا متفجرة تنطلق من انسداد الأفق، من خلال إبراز حالة “اللا مخرج” No Exit، وخشبة شبه فارغة، وجدار خلفي يعكس صدى تصدع الشخصيات وهي تثوق إلى البوح في تدافع للإمساك بميكروفون مثبت في مقدمة الخشبة نحو الجمهور . لقد ساهمت سينوغرافية الهواس – بما فيها إضاءة العرض التي نعدها جزءا لا يتجزأ من السينوغرافيا- ضمن تجربة “دموع بالكحول” في إلغاء الحدود ليس فقط بين مكونات العرض المسرحي، والركح والصالة، بل أيضا بين المسرح وباقي فنون الأداء. فقد لاحظنا تدافع المؤدين نحو الميكروفون من أجل تحقيق وهم ذلك التدفق المفاجئ لدواخل الذات ومعاناتها وانكساراتها. وهنا تحديدا يصبح الميكروفون الآلية التي تمكن من تحقيق عملية البوح، من جهة، ووسيلة الانفتاح على الآخر (الجمهور)، من جهة ثانية. وهو في نهاية الأمر أداة وسائطية تذكر مستعمليها بأنهم بصدد مخاطبة أناس آخرين عبر أثير ما…. فاستعمال الهواس للميكروفون ينم عن إدراك عميق لأهمية توظيف ممكناته بوصفه جهازا إلكترونيا يحول الموجات الصوتية إلى طاقة كهربائية. وبالتالي فهو يخلق قناعا صوتيا إلكترونيا يحجب الصوت الحقيقي للممثل. وهنا أيضا نكون إزاء قطيعة مع التمثيل المصطنع والاندماج مع الشخصية. كما أن نص المونولوج، غالبا ما يقدمه الممثلون/ المؤدون وهم في وضعية جسدية ثابتة لا تعكس تعبيرا معينا، وهي وضعية أشبه بالقناع المحايد لدى جاك لوكوك؛ وهذا القناع يزيح الاندماج الكلي في الشخصية…

حدود السينوغرافيا والدراماتورجيا عند عبد المجيد الهواس

          اشتهر عبد المجيد الهواس في المشهد المسرحي المغربي، كما أشرت في البداية، بوصفه سينوغرافا أولا وأخيرا؛ وذلك بالنظر إلى تراكم إبداعه في المجال، ورئاسته لشعبة السينوغرافيا داخل المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط لسنين طويلة. وهو اليوم أيضا الرئيس المؤسس للجمعية المغربية للسينوغرافيين التي أنشئت سنة 2018. لذلك أجدني مضطرا لإبراز هذا الملمح في تجربة الرجل قبل التطرق للدراماتورجيا الركحية، وهو أفق اشتغال الهواس في الآونة الأخيرة والذي سبق أن أسميته بـ: “الانعطافة”.

“ما هو تعريف السينوغرافيا في تسع كلمات؟”، سؤال طرحته باميلا هاورد، رئيسة مجموعة البحث في السينوغرافيا بالفيدرالية الدولية للبحث المسرحي IFTR في الطبعة الثانية لكتابها الموسوم: “ما هي السينوغرافيا؟”. في الواقع، يبدو هذا السؤال بسيطا ولكنه في غاية من الأهمية. تميزت إجابات السينوغرافيين الثلاثين من مختلف البقاع بالاختلاف في التصورات والتعدد في المعاني ومجالات اشتغال السينوغرافيا. فأجاب بيتر كوك من أوستراليا بأن السينوغرافيا هي: “المعجم البصري لصناعة الفرجة المسرحية”، وذهبت كاثرين إيروين من كندا إلى أن السينوغرافيا “تعنى بمختلف طرائق توليد المعنى من طرف الفضاء الفرجوي”. واعتبر التشيكي ياروسلاف مالينا السينوغرافيا “الحل الدرامي للفضاء”؛ ومع الفلندية ريجا هيرفيكوسكي أصبحت السينوغرافيا هي: “العالم السمعي البصري لفنون الأداء”… ورغم كل هذه التصورات المختلفة تبقى السينوغرافيا غير مكتملة إلى أن يخطو المؤدي/الممثل في فضاء اللعب ويتفاعل مع الجمهور…

          كما أدى انتشار الدراماتورجيا البصرية visual dramaturgy التي تفرض نوعا مختلفا من التشخيص إلى المزيد من التعقيدات بخصوص تعريف السينوغرافيا. وبما أن المقاربة السيكولوجية التقليدية لم تعد قادرة على التقاط الحقيقة المسرحية الشديدة التعقيد، أصبح الممثل جزءا من المناخ العام، وباتت وضعية الممثل مختلفة. كما أن استعمال الممثل لهويته وجسده لإنجاز تمثيلات وحالات فنية مختلفة، أصبحت شديدة البروز مع ظاهرة “المؤدي” performer الذي يضطلع بأدوار أكثر تعقيدا من أدوار الممثلactor … وقد أدى فصل الممثل عن الدور بدوره إلى إدراك جسد الممثل بوصفه نصا ثقافيا… هكذا أصبح الممثل شخصية تناصية بامتياز يجمع بين هويته الشخصية، وجسده، ومقاطع من الدور تبنى وتقوض في الآن نفسه…

         فالسينوغرافيا هي أيضا التصور المشترك بين المخرج والسينوغراف والدراماتورج…. إنها توجد في صلب الكتابة الركحية التي غالبا ما توصف بأنها كتابة تحت كشافات الضوء تعتمد كل ممكنات الركح بطريقة خلاقة ومتساوية ومتزامنة. وعكس ما يروجه البعض منا بأن مفهوم “السينوغرافيا” لم يُتداول في المجال المسرحي المغربي إلا بعد منتصف التمانينيات، مع إنشاء المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط سنة 1986،[1] فإن بداية تداول “السينوغرافيا” جاءت مع تداريب المعمورة في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، أي مع الرعيل الأول من المسرحيين الرواد أمثال عبد الصمد الكنفاوي، وتلامذته الطيب الصديقي وأحمد الطيب لعلج… كما أن أدبيات المركز الوطني للفن الدرامي ومدرسة المسرح التابعان للشبيبة والرياضة آنداك لا تخلوا من هذا التداول… (لقد أورد المرحوم الحسين المريني مجموعة من الوثائق تؤكد هذا التداول في كتاب “من ثنايا الذاكرة” ص ص: 86-87-88).[2] ورغم ذلك، فقد اختزلت السينوغرافيا في العديد من تجارب المسرح الشعبي المغربي ضمن مقولات مثل: “الديكور”. والحال أنها أشمل وأدق من ذلك بكثير.[3] يشخص الهواس هذا الوضع الملتبس كما يلي:

“لا تنفك التجربة المغربية أن تنسلخ من التأثيرات المتبادلة بين مختلف الثقافات، لكن هناك احتكاك دائم وتقاطع بين وجهتين، نوع من المسرح المرتكن للخبرة المهنية داخل تعاطيها مع النص كشرط لتحقيق الفرجة، حيث طرق الإخراج تجد متنفسها في إدارة الممثل، لكنها تستنفذ جهدها في تحقيق النص على الخشبة، مراهنة على الحياكة الخطية للأحداث. مستحضرة عمل السينوغراف والزي والإضاءة والموسيقى في مرحلة متأخرة من التدريب، لإكراهات الإنتاج أحيانا، أو لأنها بكل بساطة ترى في النص وتبادل الحوار بين الشخصيات وكذا القدرة على التقمص شرطا لإنجاح العرض. وهناك تجارب بالموازات لا تلغي النص ولكنها لا تعتبره شرطا لتحقق الفرجة، مستلهمة فنون الأداء، معتمدة على سرود متعددة غير شفوية تساهم في صياغة عروضها. وهي تمتح من دراماتورجيات موازية تشتغل على قدم المساواة لصياغة ما سيؤول إليه العرض، موظفة الأداء الكوريغرافي والمونولوغ وتقنيات الفيديو والإيقاعات الموسيقية التي تستجيب للأداء الصوتي والحركي عبر وسائط متعددة يقودها الارتجال الخلاق نحو نسج كتابات تتمحور حول فكرة العرض، عبر استدعاء مجموع أدوات اشتغال يتم الدفع بها إلى محك التجربة لاختبار قدرتها على الاندماج داخل كيمياء العرض بالنفاذ إليه كلغات متجانسة.”[4]

          ومع ذلك، رفقة الهواس والثلة الكريمة من فرسان البحث السينوغرافي بالمغرب، أمثال ادريس السنوسي، يوسف العرقوبي، رفيقة بن ميمون، عبد الحي السغروشني وطارق الربح، نلحظ ازدهارا لم يسبق له مثيل للسينوغرافيا في المنجز المسرحي المغربي المعاصر. ولعل أهم ما يميز تجربة الهواس السينوغرافية هو ذلك الترابط القوي بين النص والصورة التي تصبح امتدادا مشهديا وتمظهرا لأحد جوانب النص الخفية بأسلوب شاعري ماتع. في أغلب الأحيان تتبلور سينوغرافية الهواس بموازاة مع النص في أفق التعليق عليه واستفزازه من خلال تفجير صور شعرية مشهدية.. إنه مدرك لقدرة الصور غير المعتادة على إضفاء شعرية خاصة فوق الركح. ففي مسرح الهواس، لا يعيد البصري إنتاج ما هو لفظي؛ كما لا يحتل البعد البصري الدرجة الثانية بعد اللغة، وذلك لكونه يمتلك لغة خاصة به: لغة تثير الدهشة وتستفز خبرتنا الجمالية برمتها انطلاقا من نحث مفردات مسرحية ماتعة.

          يسعى الهواس لابتكار صور بصرية متناغمة مع روح النص، صور إيحائية أكثر منها توضيحية لكلمات الكاتب؛ وكأنها كتابة موازية. يؤكد الهواس ذلك في دراسته الموسومة بـ: “الدراماتورجيا الركحية أو كتابة الركح بممكناته”، إذ يقول: “فبروز السينوغرافيا بوصفها كتابة في الفضاء ولدت أبعادا درامية تجاوزت المنطوق، مستفيدة وبشكل مميز من تنافي الحدود بين الفنون”.[5] لقد أدرك الهواس التغيرات العميقة على مستوى بنيات إنتاج الممارسة المسرحية في العقود الأخيرة بسبب مجموعة من العوامل. ولعل أبرزها تفاعل المسرحيين مع الفنون الأخرى المجاورة مثل فن الأداءperformance art والفرجة الخاصة بالمواقعsite specific performance ، والفنون التشكيلية، والتنصيبات الفنية الأخرى، بالإضافة إلى اعتماد وسائط وتقنيات رقمية جديدة أثناء صناعة الفرجة. من هنا أصبحت تتحكم في إنتاج وتلقي العديد من العروض المسرحية المعاصرة دراماتورجيا[6] بصرية، ومؤثراتٌ رقميةٌ (قلّما أمكن إخضاعها للنّص الدرامي).

          من خلال تجربة “سكيزوفرينيا” (إبداع مسرح أفروديت 2013) نلاحظ تعدد مستوات الحكي وتحكم دراماتورجيا بصرية ومؤثرات رقمية في إنتاج العرض المسرحي وتلقيه. وهي دراماتورجيا قلّما يمكن إخضاعها للنّص الدرامي. تضع الصيرورة الوسائطية اللغات الواصفة موضع تساؤل، كما تستلزم الدفع بالجمهور إلى اختبار هاوية التمثيل representation باستحضار وسيط معين ضمن وسيط آخر. ورغم أن التراتبيات والاختلافات بين الحضور الحي والنسخة المسجلة (كالإحداثيات المكانية والزمنية، والفروقات بين الأصل والنسخة) هي متداخلة فيما بينها، فإنها تزحزح الافتراضات المسبقة حول الحضور والتمثيل؛ وتعمل على تغيير إدراك المتلقي التائه وسط زخم من التشظي والتصدع المؤديان إلى انزلاق الدوال وتأجيل القبض على المعنى. وهذا التحول في الإدراك لا يقلل من جودة العرض، وإنما يؤكد – كما ترى الباحثة الألمانية إريكا فيشر ليشته- أن الأداء المباشر والأداء الوسائطي لا يختلفان كثيرا عن بعضهما البعض.

          لقد تعمد الهواس منح شهادة الأم العازبة ومعاناتها مستويات عدة تقرب المتفرج من مآسيها: “المرأة التي تحكي قصتها حاضرة على الركح مرة تجالس شخصا وهميا ومرة في حكي مباشر مع الجمهور… هي بين حالات من الفتور تارة ومرة في تصعيد ساخر يشبه الهيجان. وفي الخلف شاشة تعرض امرأة قد تكون هي ذاتها. موصد عليها داخل مصحة عقلية في غرفة انفرادية موثقة بشرائط وتعيش حالات متناقضة مرة داخل السهو ومرة في حدة الهذيان. وعلى يمين الركح دمية توحي الى المرأة وهي طفلة، تقف على كرسي لتصل إلى حوض غسل الأواني. وبدل صوت قرقعة الصحون وتدفق الماء تتدفق عبر أناملها نوتات البيانو. فتصير هي العازفة التي ترسم الأجواء عبر دفق الموسيقى.”[7] إنها حالة امتلاء تفرض نوعا خاصا من التلقي، إذ يصعب والحالة هاته تتبع مسار واحد وذلك بالنظر إلى تعدد المشاهد داخل المشهد الواحد. إنه اختيار جمالي يربك التلقي السلبي بإصراره على إرباك الحياكة الخطية لصيرورة الأحداث. ويشمل هذا الإرباك الصالة، بحيث يتوزع فعل المشاهدة على أكثر من بؤرة فوق الركح.

          كما تعمد الهواس أيضا إبقاء الممثلة الثانية في فضاء ما وراء الخشبة في اللحظة نفسها التي يتم فيها بث مباشر لأدائها على الشاشة المثبتة في خلفية الخشبة.. إن صراعها المجسد من خلال الكوريغرافيا يعكس تصدع الشخصية المحورية ومعاناتها النفسية والاجتماعية، ويتم بثه بشكل مباشر على خلفية الخشبة التي تحولت بدورها إلى شاشة كبرى، حتى تخترقها الممثلة الثانية في نهاية العرض محدثة تأثير الصدمة على أكثر من مستوى. والوسائطية intermediality هنا اعتمدت الخلفية بوصفها شاشة متعددة تبث فيها صورا مباشرة وآليات دينامية تعيد ترتيب الفضاء الفرجوي عن طريق هذه التقنيات وتقنيات أخرى، ومؤدي آخر فوق الخشبة على الطرف الآخر يحرك الدمية ويجسد معاناة الشخصية المحورية… وهذا التنويع يؤدي إلى إغراق الفضاء الفرجوي بالنصوص المتعددة، والأصداء المتوالدة، وخلخلة السيميوزيس المسرحي المعتاد، مما يفضي إلى استشكال آليات صناعة الفرجة المسرحية أثناء صناعتها. أما خروج الممثلة الثانية من الخلفية أثناء الدقائق الأخيرة من العرض فقد أطاح بالوهم من جديد وأربك انتظارات المتفرج الذي كان يعتقد طوال مدة العرض بأن نص الكوريغرافيا مسجل مسبقا، إذ أصبح يدرك الآن بأن كل ما شاهده في الشاشة هو بث مباشر لأداء الممثلة ما وراء الخشبة. هكذا، أصبحت الشاشة المثبتة في الخلفية ذلك الفضاء البيني الذي يصل الخشبة وما ورائها.

من هنا، أبرز الهواس في عرضه تناصا فرجويا يجمع بين حوار مع نصوص سابقة (“سكيزوفرينيا” هي امتداد لمسرحية “فيول أنسين” لأنها تمسرح شهادة غير مكتملة في المسرحية الأولى)، وحوار آخر بين الحضور الجسدي للممثل وحضوره ضمن الوسيط البصري من خلال الشاشة الموضوعة في خلفية الخشبة، وحوار ثالث بين ما وراء الخشبة والخشبة، ثم الجمهور. وقد تم ذلك اعتمادا على سينوغرافيا متفجرة تتخطى حدود الجدار الرابع. فمن خلال بَنينته الراديكالية تحدى الهواس ليس فقط الأنماط التقليدية للتمثيل المسرحي بالمغرب، ولكن أيضا إدراكنا بوصفنا متفرجين من خلال دعوتنا لبناء معانينا الخاصة لما يجري من حولنا وليس فوق الخشبة من خلال سينوغرافيا متفجرة. وعندما يصبح التمثيل المسرحي ممثلا بدوره بواسطة نسخة ما، فإنه يثير الانتباه إلى ذاته باعتباره خلخلة للبناء الحقيقي، وهو ما يصطلح على وضعيته ـ غالبا ـ من لدن نقاد الفنون الجميلة بالتقعير la mise en abyme، أي النزوع لإقحام المتلقي داخل هوة التمثيل ذاته.

إلى هنا أود أن أفتح قوسا لأوضح استعمالي لمفهوم ‘الوسائطية’ intermediality في سياقنا الحالي، وذلك بالنظر إلى التخبط في بحثنا المسرحي العربي الراهن مع انتشار معاني غير متجانسة لهذا المفهوم تشي بالارتباك والغموض وسوء الفهم في أغلب الأحيان. وبالتالي يصبح من الضروري تحديد فهمنا الخاص للوسائطية تفاديا للتيه. ‘الوسائطية’ في سياقنا الحالي هي المجال الذي يتفاعل فيه الأدب والفنون بما فيها المسرح ووسائل الإعلام بشتى تلويناتها. يشير المفهوم، إذن، إلى التناص في استعمال الوسائط المختلفة من خلال استخدام العديد من الوسائط في وقت واحد مثل الموسيقى والصور المتحركة، أي التواصل من خلال العديد من الوسائط دفعة واحدة داخل الفرجة المسرحية. والمفهوم يرتبط بالميديولوجيا كما نظر لها ريجيس دوبريه؛ لكن لابد من تبيان الفرق بينهما. الوسائطية حالة امتلاء تُوظف فيها وسائط متعددة تستدعي ‘الميديولوجيا’ بوصفها علما للوسائط (أو الإعلامياء كما ترجمها البعض) لدراستها. لذلك وجب التمييز بين ظاهرة الوسائطية والعلم الذي يدرسها (الميديولوجيا).

 

كتابة الركح وممكناته في “سكيزوفرينيا” و“في انتظار عطيل”

                    “كتابة العرض بممكنات الركح وما يقترحه أثناء سيرورة الإنجاز”

(عبد المجيد الهواس، “الدراماتورجيا الركحية أو كتابة الركح بممكناته”، ص 33)

          مع “سكيزوفرينيا” تبين لنا بالملموس بأن جبة “السينوغراف” لم تعد قادرة على استيعاب هوس الهواس الإبداعي، إذ انفتح على آفاق الدراماتورجيا الركحية. فباستعمال وإعادة استعمال كل ما يوجد فوق الركح أو غرفة التداريب، أو إعادة استعمال مواد من مسرحيات سابقة كـ: “فيول أنسين” في سياقات جديدة، اتجهت “سكيزوفرينيا” إلى إعادة التدوير recycling من أجل البحث عن مفردات مسرحية مغايرة عوض تكريس الكائن منها. هكذا خلقت ذاكرتها المشتركة وتاريخها الخاص بها، وقد تحولت بضع أسطر في “فيول أنسين” إلى عنوان وشخصية محورية بعد أعوام.

          واضح أن الهواس ينتصر لدراماتورجيا مشاكسة، لكنها لا تشكل بالضرورة قطيعة مع ما هو سائد، بل على العكس من ذلك، فهي ممارسة الدراماتورجية المختلفة والمغايرة، والتي لا يمكنها أن توجد إلا في حدود علاقتها مع آخرها في الآن نفسه، وهي بذلك استيعاب وتجاوز للدراماتورجيا التقليدانية السائدة دون إلغائها بالكامل. لذلك، يمكن التأكيد ها هنا أن الدراماتورجيا الركحية التي يدافع عنها الهواس لا تعني بالضرورة الانفصال والقطيعة، لأنها ببساطة لا تلغي ما سبقها. فكل الأساليب الدراماتورجية لا تزال تتجاور وتتعايش وتقتبس من بعضها البعض… وما يميزها عن بعضها هو نقل التشديد من أحد مكوناتها إلى آخر دونما التخلي عنها كلية… فدراماتورجيا ما بعد الدراما لا تعني البتة التخلي المطلق عن النص الدرامي، بل فقط اعتماده كأحد مكونات دراماتورجيا الفرجة. والدراماتورجيا البرشتية الملحمية لم تعن في يوم من الأيام إلغاء الدراماتورجيا الأرسطية، بل نقل التشديد من آليات الاندماج إلى آليات التغريب…

          لقد أصبحت الممارسات الدراماتورجية الركحية منتشرة بشكل ملفت، وذلك من خلال: “إلغاء الحدود بين مختلف التخصصات، وتشظي السردية وتفكيكها إلى مجزوءات والأثر الملفت للشهوانية/ الإثارة، والتركيز على مادية العناصر المعتمدة، واعتماد العمل في طور الإنجاز من حيث هو اختيار جمالي. وفيما يتعلق بالمحتوى، اعتماد مفارقة الأمل.”[8]. تستفيد الدراماتورجيا الجديدة من كل فنون المدينة والتخصصات، وهي بذلك خبرة متعددة التخصصات. هكذا يتمثلها عبد المجيد الهواس، وهكذا، أيضا، يمارسها على أرض الواقع. فالعمل المسرحي عند الهواس يبقى دائما عملا في طور الإنجاز، غير مكتمل؛ لا ينضج ولا يستوي حتى بعد مجموعة من الإقامات الفنية وتوالي العروض أمام الجمهور… هنالك دائما رغبة لتحقيق المزيد، مرفوقة بالإحساس بعدم الرضى من بعض جوانب المنجز الركحي..

          عموما، تكمن تعقيدات الدراماتورجيا في “تموقعها البيني، وهي بذلك نوع من الخبرة المزدوجة بين النظرية والتطبيق، بين التأمل النقدي والانغماس في تربة التطبيقات، بين استثمار المعرفة وتطبيقها من جهة، وبين الإلهام الفني والإنجاز من جهة ثانية.”[9] ومن خلال هذه النظرة من الداخل، يتبين لنا جليا مدى تعقيد وظيفة الدراماتورج التي أصبحت معها الدراماتورجيا هي تعلم كيفية التعاطي مع التعقيدات أثناء صيرورة إنتاج عمل مسرحي ما. من جهة أخرى، أضحت مهام الدراماتورج في حاجة إلى إعادة النظر… وتعد أوروبا الغربية الأكثر استيعابا لوظائف الدراماتورج خاصة ألمانيا والدنمارك وهولندا والسويد والنرويج… يعمل الدراماتورج في تلك الدول بالمسارح الجهوية والوطنية، وتناط به المهام التالية: “تشكيل الربرطوار المسرحي، ربط الاتصال بالكتاب والمترجمين، القيام بدور الباحث والمتأمل ذي الخبرة لمساعدة المخرج.”[10] يضطلع الدراماتورج، إذن، بأدوار مختلفة ومعقدة، لكنه في أغلب الأحيان يقوم بدور “المستشار الفني” للمخرج وفريق العمل برمته… ويلائم بين الاختيارات الجمالية للمخرج والخط الفني للمسرح الجهوي أو الوطني أو المستقل الذي يشتغل فيه، وحاجيات جمهور ذلك المسرح…

          وبما أن وظيفة الدراماتورج لا تزال ملتبسة في عالمنا العربي، فقد سعى الهواس، في الآونة الأخيرة إلى تمثل أفضل لتلك الوظيفة، من خلال محاولاته الحثيتة لحياكة فرجات مسرحية، تنبني على وصل جميع مكونات العرض المسرحي والتئامها ضمن دراماتورجيا ركحية شاملة وعابرة للحدود بين التخصصات والنصوص المتاحة، ضمن نسيج نص الفرجة بوصفه نصا جامعا: نص المؤلف، ونص المخرج، ونص السينوغراف، ونص الممثل/المؤدي، ونص الموسيقي، ونص الإضاءة والوسائط… فالدراماتورجيا الركحية، كما يؤكد الهواس على لسان برونو تاكلز: “تطرح بجلاء للخشبة […] كل ما سبق أن تخلت عنه الدراما تاركة إياه دون إجابة لحظة تفتقها”.[11] هكذا ينتصر الهواس لفلسفة شعراء الخشبة في إصرارهم على تحويل الركح لبؤرة تتدافع ضمنها جماع نصوص غير منتهية، وهو ما دفعه للاستئناس بمجموعة من آراء تاكلز في الموضوع: “إن كتاب الركح كما يرى برونو تاكلز يبطلون ويخلون بقانون الأجناس والأنواع ويقصون تراتبية الأشكال. فالمسرح المكتوب انطلاقا من الركح مستمر في إبطال منطق الأقاليم الخالصة، بل وعلى العكس، فهو دائم الانفتاح على ما تقترحه باقي الأشكال الفنية، تشكيلية، بصرية، موسيقية، كوريغرافية وتكنولوجية. وهو دائم الاحتفاء بالأشكال الهجينة، إذ تتحول هي الأخرى إلى عناصر فعلية للعب، تمتزج واضعة الأجساد الناطقة في مواجهة الأجساد الراقصة، مستقبلة مجمل الأشكال الموسيقية مرورا بالإنشاد الأوبرالي والموسيقى الإلكترونية.[12] لذلك يعتبر تاكلز أن كتاب الركح ابتكروا ما بعد الإخراج الدرامي دون إقصاءه تماما حين استعادوا بقوة ما سبق أن تخلت عنه الدراما[13]“.

          بالنظر إلى تجربة “في انتظار عطيل”، انطلقت دراماتورجية الهواس الركحية من مبدأي الارتجال والتجريب. كما اعتُمد النص الشكسبيري فقط بوصفه محفزا لإبداع مواقف مسرحية تسائل تمثلات شكسبير لعطيل المغربي/الأندلسي/التركي. هكذا انطلق البحث الدراماتورجي من رصد ومراجعة تاريخ بأكمله من إنتاج وتلقي صورة عطيل النمطية سواء في المسرح، أو السينما، أو ما جاد به النقد على مر السنوات ليختبر في نهاية المطاف بعضا من هذه التمثلاث في خمس إقامات فنية أعطت في نهاية المطاف العرض الذي شاهدناه بمهرجان “طنجة المشهدية لسنة 2017”.

         انصب الاهتمام خلال الإقامة الفنية الأولى حول النص المترجم إلى العربية مع إبراز خارطة الأحداث والمشاهد في ذهن المؤدين، فيما تم التركير على تفكيك النص الأصلي بحمولاته الثقافية ومرجعياته المسرحية الإيليزابيتية وإعادة تشكيله في الإقامتين الثانية والثالثة. أما الإقامة الرابعة، فقد عنيت باختبار المقترحات المتاحة في غرفة التداريب وإمكانية جمعها ضمن رابط موحد. فكانت الإقامة الخامسة والأخيرة بمثابة “المسافة الأخيرة” التي اجتازها فريق العمل قبل العرض التجريبي الأول أمام الجمهور: “لقد كان العرض المبكر مطمحا للزومية حضور الجمهور كطرف غير منفصل عما نقوم به. ولقد تأكد لنا أننا بصدد الانفلات من الصنعة الشكسبيرية عبر محاولة إيجاد منافذ لمساءلة موضوعاته بأسئلة أخرى تهم الأنا والآخر، ثم ما الذي نريده من شكسبير وما الذي نفعله به. ولقد توضحت لنا عبر ذلك أننا اكتشفنا عددا من الخانات الفارغة وأشياء غير متماسكة خاصة حين يتدخل وسيط الفيديو أحيانا دون أن يتداخل. وكذلك سيصير كل عرض هو مسودة لعرض لاحق لا يكرر ماضيه في رحلة لا تزال مستمرة في انتظار عطيل.”[14] فالملاحظ هنا هو استمراية العمل حتى مع حضور المتفرج الذي يعد هو الآخر عنصرا فاعلا في سيرورة الدراماتورجيا الركحية… من جهة أخرى، أصبح الاشتغال على “عطيل” بوصفه نصا كلاسيكيا رهانا يعكس تصور الهواس لدراماتورجيا لا تقوم على تقديس النص بل تعده مجرد مكون ضمن مكونات أخرى بما فيها الوسائطية.

          وتبقى صورة عطيل حمالة أوجه، وقابلة لتأويلات وبناءات متعددة ومختلفة حسب اختلاف مواقع القراءة أيضا. ولعل إعادة قراءة شكسبير، من منظور الهواس، باستحضار السياق التاريخي يلزمنا أيضا بالتأمل في حجم التمثلات حول الآخر في الزمن الشكسبيري. فالآلة الاستعمارية البريطانية لم تمارس فقط عنفها المادي على الآخر/الأجني، وإنما مارست أيضا عنفا رمزيا تجلى بالأساس في فرض لغتها، وفكرها وأدبها داخل مستعمراتها على حساب لغة وفكر وثقافة ذلك الآخر، ومن هنا وظف الإنجيل والأعمال الكاملة لشكسبير إلى حد كبير في احتواء الشعوب الأخرى. ويفصح هذا الأفق عن حضوره من خلال بناء صورة الآخر المستعمَر الذي ينظر إلى العالم ويرى انعكاس السلطة الإمبريالية التي عوضت إحساسا قويا بالغيرية[15]. ويبدو دالا ـ في هذا السياق ـ إقامة الصلة بين الممارسات الإيديولوجية المدعّمة لأسطورة شكسبير في العالم العربي، من جهة، وبناء الآخر الصامت الذي كان خرسه محصلة النظرة الغربية المحدقة، من جهة ثانية. ويعزى ذلك إلى أن هذا الآخر كان مشكلا خارج /داخل الإمبراطورية، ومتموضعا في الحد الفاصل بين الغياب والحضور، شأنه في ذلك شأن عطيل وأيضا كاليبان Caliban الشخصية المسرحية الشكسبيرية الأكثر عبودية. لقد استعبد الآخر المستعمر الذي كان أشبه بأمير مسعور فاقد للقوة بواسطة سرد بروسبيرو Prospero، كما أعيد استعباده لاحقا بواسطة الكتابات الاستعمارية المتأخرة. وهكذا أصبحت غيريته (الآخر المستعمر) مهددة من طرف السلطة الإمبريالية، وهويته الثقافية مقصيّة من لدن الخطاب الاستعماري المشحون بلحظات العنف المتمظهرة في استراتيجيات تمثيلية متنوعة من الرقابة، والاحتواء، والإقصاء، وإضفاء المظهر الإيروتيكي، والأمثلة، وخطاب الإضعاف، والأوصاف التصنيفية، وسرود الأسرى، والكتابات الأكاديمية الاستعمارية. وهكذا، يتشكل الآخر أيضا ـ جغرافيا وسياسيا واقتصاديا وجماليا ودينيا ـ بوصفه اختلافا روحيا يتجلى من حيث هو ـ فقط ـ “لا أنا”، من أجل ضمان وضعية الذات الممثلة من لدن “أنا الغربي”.

إلى هنا يمكن القول إن عبد المجيد الهواس شاعر الخشبة بامتياز. أما مسرحه فهو مشبع بلمسات تشكيلية ومفعم بشاعرية نفاذة، رغم استفزازه الخلاق للنصوص الأدبية وخاصة منها الكلاسيكية كما الحال بالنسبة لـ “عطيل” شيكسبير.

د.خالد أمين – المغرب

——————————————-

[1] على سبيل المثال لا الحصر، يقول عبد الواحد عوزري: “كان ينبغي إذن أن ننتظر سنة 1986 وافتتاح ‘المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي’، وظهور بعض التجارب المسرحية الجديدة ليدخل هذا المفهوم الجديد قاموس مسرحنا. بداية كمفهوم فحسب، ومع الأيام كممارسة.” “عبد المجيد الهواس السينوغراف المتكامل”، ضمن الكتاب الجماعي “عبد المجيد الهواس شاعر الخشبة”، إشراف حسن يوسفي (فاس: مقاربات، 2019) ص. 13.

[2] الحسين المريني، “من ثنايا الذاكرة: أوراق من مسيرة المسرح المغربي 1948-2001” (القنيطرة: البوكيلي، 2002.)

[3] في أدبيات المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط، هناك إصرار على أن السينوغرافيا حديثة المنشأ ووالوظيفة، إذ تطورت مع التجارب المشاكسة. نلمس ذلك من خلال ورقة يوم دراسي بالمعهد بخصوص السينوغرافيا: “وفي حالة المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي، ومنذ تأسيسه، كان الإفتراض صائبا بخلق شعبة للسينوغرافيا بدل شعبة أو قسم للديكور (كما في بعض الدول العربية المجاورة) خيار له دلالة خاصة وفق طبيعة التجربة المسرحية المغربية المشاكسة، فالمصطلح رغم امتدادات نشأته التاريخية هو مفهوم حديث تطورت مفاصله في سياق مسرحنا المعاصر حيث السينوغرافيا هي تصور مشترك يتناسج داخله عمل السينوغراف والمخرج في آن، وفي هذا السياق يتضح لنا داخل الشعبة هذا التفاوت في التصورات التي تنضج في جهة مقابل تصورات يحدث لها في أغلب الأحيان أن تظل متمسكة بالترسبات الكولونيالية التي افترضت لمسرحنا المغربي أن يتنفس من خلال رئة النموذج الغربي والنمط الأرسطي بالأساس دون الإنتباه إلى النهل من باقي ثقافات العالم في أفق وضع خطة مهيجة لإبداعية الطلبة الخريجين بدل تلقينهم أصولا مهنية تجعل منهم حرفيين بدل فنانين، منفذين ومنجزين بدل مبدعين خلاقين. والظاهر أيضا أن الخلل يكمن في هذا التشبت الأعمى بالنص المسرحي وبتحقيقه على الخشبة بدل خلخلته وإعادة النظر في أهمية تبنيه واستقباله بشكل تقليدي.”

[4] عبد المجيد الهواس، “الدراماتورجيا الركحية أو كتابة الركح بممكناته”، مجلة دراسات الفرجة، طنجة، العدد 8، ص. 34.

[5] عبد المجيد الهواس، “الدراماتورجيا الركحية أو كتابة الركح بممكناته”، ص. 33.

[6] تشير كلمة “دراماتورجيا” إلى جماع الأنشطة الضرورية أثناء صيرورة صناعة الفرجة المسرحية. ويذكرنا حسن المنيعي بالتحليل الإيتيمولوجي الذي قام به باتريس بافيس، إذ يقول:

“نجد أن المعنى العام لكلمة “دراماتورجيا” يؤشر إلى تقنية أو شعرية الفن الدرامي التي تهدف إلى وضع مبادئ تأسيس النتاج إما بطريقة استقرائية، أي عبر أمثلة ملموسة، أو بطريقة استنباطية: أي عبر منظومة من المبادئ المجردة. ون ثم، فإن هذا المفهوم يفترض مجموعة من القواعد ذات خصوصيات مسرحية يجب مراعاتها لكتابة عمل درامي أو لتحليله بدقة كاملة. وكما هو معروف، فإن الدراماتورجيا الكلاسيكية تحيلنا على شعرية “أرسطو” وكل الأشكال المسرحية المغلقة التي تقوم نصوصها على تماسك داخلي”.

حسن المنيعي، النقد المسرحي العربي، منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، طنجة 2011، ص. 10-11. ودراماتورج عند الإغريق هو كاتب الدراما، رغم كونه مخرجها أيضا. ودراماتورجيا هي أيضا بنية المسرحية ومعمارها الداخلي. هكذا ظل المفهوم إلى حدود القرن 18 مرتبطا بالبناء الدرامي والفعل داخل المسرحية. وابتداء من القرن العشرين، أصبح الدراماتورج، خاصة في التقليد الألماني، هو رفيق المخرج، والمسؤول عن الإنجاز الفعلي لرؤية المخرج، والمكلف بإعداد مقترحات حول كيفية تحقيق تلك الرؤية صحبة فريق العمل. هكذا، أصبح “الدراماتورج” أهم مهنة مسرحية في ألمانيا بعد المخرج.

[7] عبد المجيد الهواس، مطوية مسرحية “سكيزوفرينيا”.

[8] Marim Blazevic, in Peter Eckersall, Melanie Beddie, Paul Monaghan (eds), Dramaturgies: New Theatres for the 21st Century (Melbourne: The Dramaturgies Project, 2011) p. 5.

[9] Marim Blazevic, Dramaturgies: New Theatres for the 21st Century, p. 52.

[10] Mary Luckhurst, Dramaturgies: New Theatres for the 21st Century, p. 46.

[11] Bruno TACKELS, Les écritures de plateau, état des lieux, Ed : les Solitaires Intempestifs, 2015, p : 94.

(مقتبس من عبد المجيد الهواس، “الدراماتورجيا الركحية أو كتابة الركح بممكناته”، ص 22.)

[12] Les écritures de plateau, Op.Cit, p: 93.

[13] المصدر ذاته، ص: 94.

(مقتبس من عبد المجيد الهواس، “الدراماتورجيا الركحية أو كتابة الركح بممكناته”، ص 35.)

[14] عبد المجيد الهواس، “الدراماتورجيا الركحية في انتظار عطيل” (مطوية العرض، ص. 3).

12 David Richards, Masks of Difference: Cultural Representations in Literature, Anthropology and Art, Cambridge: Cambridge University Press, 1994: 239.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش