الرقمنة والمتغير الحضاري د.عماد هادي الخفاجي

asw

 

الرقمنة والمتغير الحضاري

د.عماد هادي الخفاجي

 

شكلت التقنية الرقمية بحتمية البرمجة العصبية للمدرك الحسي، ومتتاليات التشكل المفاهيمي للفعالية الذهنية، مدخلاً ومتغيراً جذرياً للمبنى الفكري، والمنظور الحضاري للعالم. فضمت تسعينيات القرن العشرين تغيرات جذرية بسبب التقنية الرقمية وتقنياتها الإفتراضية نالت المنجز الإنساني في الفلسفة والأدب والفن والسياسة والاقتصاد وقوانين الحراك للمجتمع، إذ مثلت التقنية الرقمية منعطفاً تأريخياً نحو التأسيس لنماذج فكرية وطروحات فلسفية مغايرة, وبما تضمنته من تحولاتٍ نوعية تسهم في تغيير صورة الإنسان المعاصر عن نفسه, ومن ثم صناعة نوع من الوعي المغاير للوعي البشري التقليدي ، فكانت التقنية الرقمية واحدة من أقوى الأدوات المعاصرة، والوسيط بين الإنسان المعاصر وواقعه، وليست شيئاً محايداً ولا مجرد تطبيق عملي لممارسة نظرية في العلم، بل أنـَّها قاعدة لمنطق فلسفي يؤسس لإيديولوجيا بخطابات تكرّس منطق السيطرة وتكشف عصر التقدم التقني، ولتغدو التقنية شكلاً من أشكال الحقيقة، وكيفية من كيفيات الوجود الإنساني، والفلسفة أهم أدوات تشييّد هذا البناء التطوري، فلا بّد من أنْ تجيء هذه الفلسفة انعكاساً للفكر الإنساني إذ تأخذ منه أهم أفكارها ومفاهيمها وأدواتها التعبيرية. وتسعى الفلسفة  في كل لحظة تاريخية كبرى تتضمن تحولاً كبيراً وعميقاً يطرأ على الحضارة الإنسانية إلى تغيير نمط العلاقة بين الوعي والعالم، فضلاً عن توافر إمكانات جديدة للفكر الفلسفي تجعله قادراً على تخطي ما هو سائد, وتمثل التحولات الكبرى مراحل لإرتقاء البشرية في المستوى الثقافي والإجتماعي، ظهور عوالم جديدة للتجربة الإنسانية ووضعاً جديداً للمعرفة والقيم، يجعل منها تحولاً عميقاً في بنية الحضارة ونظامها.([1])

أفرز العصر الرقمي تحولاتٍ عميقة في نمط العلاقات الإنسانية وآليات التواصل، وعمل على تطوير تقنيات معرفية فاعلة قلّصت المسافة وأنتجت فاعلين جُدد يتحكمون بالمشهد وينتجون الصورة, ومن المنظور الرقمي فأنَّ الفلسفة المعاصرة هي فلسفة  العلامات (السيميائية)، إذ يظهر تأثير التقنية الرقمية في (بلورة الرؤى) أنْ نرى المعقد ونحلله، وأنْ نبني علاقات بين الأعداد والرموز. وتنظر أغلب متغيرات الفلسفة الرقمية إلى الواقع الفيزيائي والفعالية الذهنية بوصفهما معالجة رقمية للمعلومات, وكما ترى هذه الفلسفة بأنه وضمن الكون الرقمي، فأنَّ الوجود والفكر لا يتكونان إلاّ من الحوسبة، إذ تكون هي الجوهر (المضمون/المادة) ، في حين تظهر الذاتية من الشمولية الحوسبية, وينعكس تأثير المعلومات على الفلسفة في عددٍ من السمات أهمها: تأكيد الفلسفة المعاصرة  التقنية في كيان المجتمع الإنساني المعاصر, والذي يتطلب فلسفةً معرفية تتخذ من التقنية محوراً أساسيا لها. والتعبير عن التداخل والتكامل مابين فروع المعرفة المختلفة إلى جانب المؤالفة بين العلوم والفنون, وهي قد غدت أيضاً فلسفةً للمعرفة الجمعية، إذ تُبرِز البعد الجمعي لإنتاج المعرفة علماً وفناً وتقنية.([2])

مما تقدم يرى الباحث بأنَّ التقنية الرقمية تكسب الإنسان القدرة على الفعل والتأثير، فلكل عصر وسائطه ووسائل اتصاله ومنظومات تواصله, وبعد أنْ كان التفاعل مع الواقع يتم عبر مصنوعات مادية أو نتاجات ذهنية ،  أصبح التفاعل يتم في عصر الكمبيوتر عن طريق توليد عالم أخر يتحكم بالواقع ومعطياته عبر أنساق المعلومات وأنظمة الأرقام.  إذ تدخلنا نتائج التقنية الرقمية في نمط حياتي جديد يتضمن وضع فكري جديد، متغير بحسب طبيعة العلاقة بالأشياء، وتبدل أُطر الوعي وبنية الإدراك ، ووسائط الفكر ووسائل المعرفة, فالمادة تتغير أولاً وتتحول من كونها عضوية, أو آلية إلى أنْ تصبح سبرانية* معلوماتية ، ويتغير الفكر ثانياً مكتسباً طابعاً أداتياً لينزع عن الأفكار مثاليتها, ويربطها بالوسائط، وتتغير الحقيقة ثالثاً فلا تعود مجرد التطابق مع المعطى الواقعي, أو التوافق مع مسبقات الفكر وأطره المفهومية المتعالية، بل ما يتم خلقه وإبتكاره عبر تقنية المعلومات وشبكات الإتصال. ويؤدي كله إلى تغيير العلاقة بالواقع وجعله مفتوحاً غير واضح الحدود، سائل ومتدفق، وإفتراضي, وكما وتتغير العلاقة بين الزمان والمكان، والذي تمثل في تشكيل فضاء جديد.

وأدى التطور التقاني الرقمي إلى تراجع مقولات الحقيقة في الخطاب الفلسفي للحداثة الغربية، وتغيير المفاهيم الفلسفية الراسخة مثل (حضور الوعي، ومرجعية العقل), وأنقلبت العلاقة مابين الواقع والحقيقة نتيجة المحاكاة Simulation، ليكتسح التصنّع كل الأبعاد, وظهور تقنيات اتصالية جديدة تمثل رؤية فلسفية جديدة حول الواقع والإنسان والحقيقة، يتحقق أثناءها تغييب الواقع وتجاوزه لصالح (الواقع الإفتراضي) إذ يمتاز بتداخل الأحداث والمعطيات، فيحل ما تعرضه تقانة المعلومات من صور متتالية لا تعبر في غالب الأحيان إلاّ عن ذاتها، محل الإدراك الشخصي للفرد, وتنتفي بذلك قيمة المكان لصالح الزمان، ولا يعود للفصل بين الماضي والحاضر والمستقبل أيّ وجود, فهو تحول تقني إعلامي تشكلت أبعاده الفلسفية وتصوراته المعرفية لتعكس رؤية فلسفية  ذات خصائص رقمية تجاه الكون والإنسان,  إذ يتم صناعة الحقيقة المصطنعة الوسائطية على أساس منطق الإيهام  والخداع.([3]) وهو ما يحدد متغيرين جوهريين في اللحظة التاريخية للحضارة المعاصرة، الأول   ظاهرة العولمة, والتي تمثل إختصاراً للمسافة عبر إبداع مشهد تواصلي يختزل   المسافات, ويجمع البشرية ضمن فضاء واحد مشترك فهي نتاج تقنية المعلومات والإتصال لتكون وجهاً آخر من وجوه العالم السبراني, وتحددت أهم المفاهيم، التي شكلت حضوراً عولمياً، بعولمة الفلسفة والتي يرتبط تأثيرها مع ظهور العوالم الإفتراضية، وعولمة البيئة(المحيط), إذ برز الوعي بمشاكله في العقود الأخيرة من القرن العشرين نتيجة التوسع في التصنيع والإنتاج الذي أدى إلى فقدان التوازن في العلاقة مابين الإنسان ومحيطه الطبيعي، وتشكيل وعي بيئي على نطاق عالمي, أما الظاهرة الثانية، فهي الثقافة السبرانية وتشير إلى حضور الجانب الرمزي من الحضارة وبشكل إفتراضي وعبر الوسائط المعلوماتية حضوراً كلياً ومباشراً، إذ تتصل هذه الثقافة بعملية العولمة وما رافقها من تغيرات ثقافية وأجتماعية وسياسية, وبدلاً من العالم الحقيقي وسماته المحلية والخصوصيات المتأطرة بزمان ومكان معينين وتهيمن عليه النظم الثقافية التي تمتاز بالسكون والثبات، فأنَّ التفاعل ضمن بيئات إفتراضية يحدث على مستوى العالم كله([4]), وتأكيد محورية مفهوم (الواقع الإفتراضي) ضمن إشكاليات الفلسفة الرقمية والبناء الفكري المعاصر، إذ يشكل مجالاً جديداً للوجود الإنساني يتمثّل في ثنائية (الواقعي/الإفتراضي) والتي تتأسس على فكرة المحاكاة الرقمية للواقع الحقيقي, إذ يكون الواقع الإفتراضي “صيرورة أخرى للبشرية”، مختلف عن (الراهن) ، وهو عكس الممكن الثابت والقائم, وهو لا يقوم على تجريد الواقع, بل مُحدثاً تحولاًت جوهرية في الواقع تدعم تحويره وإعادة إنتاجه على نحو مغاير وغير مألوف، يمتاز بالتمويه, والتطويع, والإيهام, والاصطناع, والتعالي على الواقع  غير أنَّ الإفتراضية ليست إنتقالات من الواقع إلى الممكنات، أو إلغاءً للواقع، وإدخال الممكن ضمن القائم, فالفضاء الإفتراضي فضاء من دون حدود، تبنيه الشبكات الالكترونية، ليُوجد مجالاً جديداً موازياً للواقع، وليغدو فضاءً ينتمي إلى الجغرافية ، لأنّ الافتراض يكون خيالاً مجسداً وغير محدود, إذ هو يُمثل الوجه الحسي للواقع العقلي الذي اختلقه الإنسان طلباً للمزيد من التحكم في الواقع الطبيعي. فهو واقع ذكي يكيف الظاهرة الطبيعية وفقاً لشفرات رقمية خاصة تتجاوز التعيين إلى التشفير، ومتجاوزاً الكلمات إلى الأرقام.([5])

فالواقع الإفتراضي له تأثير على الحقيقة الفعلية وليس على محتواها الأصلي. ويُعَّد في أحد جوانبه نوع من المحاكاة أو البديل لحقيقة ما يُراد تمثيلها،  ومن هذا المنظور يعمل الواقع الإفتراضي على خلق بيئات شبيهة بالبيئة الحقيقية  بوساطة الكمبيوتر إذ يمكن الإندماج فيها والتعايش معها حسياً لإرضاء رغبات الشخص النفسية والحسية, وشهدت التقنية أثناء العقود الأخيرة تحولاً فكرياً مهماً في ظل التطور الرقمي المعاصر، إنعكست  تأثيراته على علاقتها مع الثقافة والمجتمع والاقتصاد بشكل عام والفن المسرحي بشكل خاص، ويدفع بهذه العلاقة نحو تبني الأنموذج الرقمي الذي أصبح ضرورة أساسية لنهضة الفنون المعاصرة بمواكبة لغة العصر الرقمية، فضلاُ عن ما تجلبه الإبتكارات التقانية الرقمية من تغيرٍ عميقٍ وجذريٍ ودائم, وأهمها  دخول الكمبيوتر في مجال الفن المسرحي على المستوى التقني, فالمسرح المعاصر في ضوء هذا المؤثر أستند على توظيف أحدث مستجدات التقدم التقاني الرقمي، وما يفرضه من أولويات جديدة على مستوى النظرية والتصميم للتقنيات المسرحية

 

 

 

 

 

 

 

المصادر:

(1) ينظر: سبيلا, محمد : الحداثة وما بعد الحداثة(بغداد : مركز دراسات فلسفة الدين- وزارة الثقافة,2005) ص112

(2) ينظر:علي، نبيل : العقل العربي ومجتمع المعرفة، ج1(الكويت:سلسلة عالم المعرفة،2009)ص115-117

* سبرانية: هو فضاء إحتمالي وإفتراضي لا وجود له, تفقد فيه الأمكنة محليتها وتكتسب كونيتها, ويتضمن تغيراً في العلاقة مع المادة التي تحولت إلى بنية الكترونية أثيرية. المصدر,ينظر:حرب,علي,حديث النهايات – فتوحات العولمة ومأزق الهوية (بيروت: المركز الثقافي العربي,2000) ص139- 140

(3) ينظر: بلعقروز, عبد الرزاق: السؤال الفلسفي ومسارات الانفتاح – تأولات الفكر العربي للحداثة وما بعد الحداثة (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون, منشورات الاختلاف,2010) ص.117-128

([1])See: Campbell, Drew: Digital Technical Theatre simplified, New York, Published by Allworth, 2011,p483-486

 

 

(4) ينظر: الداهي، محمد : رقمنة الكتابة عن الذات, بحث مقدم إلى الملتقى الدولي حول (النظرية النقدية المعاصرة والعولمة), جامعة فرحات عباس,2008, ص100

 

 

 

 

 

 

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *