الخطاب المسرحي بين فطنة التفكير و فتنة التكفير – العلاقة الشائكة بين الفن والدين

د.عمر نقرش (الأردن): الخطاب المسرحي بين فطنة التفكير و فتنة التكفير – العلاقة الشائكة بين الفن والدين
 
توصف العلاقة الجذرية بين الفن والدين من حيث المبدأ والغايات بالعلاقة المتوترة والغامضة تاريخيا
على إمتداد حضارة الإسلام حيث حكمها الجدال المتصاعد بين الذاتية والموضوعية، والكراهة

و التحريم، ولا يخفى على المتبصر أن الدين والفن يشتركان في الوحدة المبدئية لجذورهما بوصفهما
ناظمين لمجمل التجربة البشرية في كل أبعادها، والفصل بينهما يقع في باب سوء الفهم لحقيقة التجربة
الفنية وتهميش لقدرة الفن على إعادة إنتاج المقدس خصوصا أن الدراما في أصلها وجذرها دينية
المنبت، ومن هنا بدت مسائل التكفير من أصعب وأدق المسائل، وهي مظنة مزلة للأقدام، تحتاج قبل
التصدر لها إلى علم كبير ووعي وفير، خصوصا أن القران الكريم والسنة النبوية الشريفة تحذر بشده
من إطلاق حكم التكفير في حق الإنسان المسلم. مع مراعاة إن الفتاوى التكفيرية عادة ما تحمل دوافع سياسية خوفا من الفكر والوعي المسرحي، لكنها تؤطرها بجانب ديني وقدسي حيث لا يمكن أن تصارح الناس بدوافعها السياسية.
      ومن هنا يظهر الجدال بين الفنان المسرحي والفقيه، الذي يريد احتكار فهم (النص / العرض) وتأويله، ولذلك لا زالت فتاوى التكفير تطارد الفنانين نتيجة تسلط الأحزاب الدينية المتطرفة ومرجعياتها، وخير مثال على ذلك ما يحصل في بعض الدول العربية من الدعوة إلى إغلاق المسارح وتصويرها كأنها أماكن للفساد والمجون وإثارة الفتن. مما يشعل ماكينة التكفير كرد فعل دفاعي، وبالتالي المتلقي لا يثق فيما تم إنتاجه وإبداعه فتمسي علاقة المتلقي بالعرض المسرحي علاقة متشنجة متوترة بحجة التكفير. هذه السيطرة التي تهدف ان يبقى المتلقي رهين لمقدسين مفترضين، المقدس السياسي والمقدس الديني فيتملكه الخوف منهما، بدلا من التعمق في معرفتهما، فيصيبه الانكسار الفكري ويتم تخديره بشعارات السياسي وطقوس رجل الدين، وعبر هذه الأدوات يتحول المتلقي إلى آلة مستلبة تدار بإرهاب مزدوج، ويصبح هو الأطوع لتلقي الخطاب السياسي والديني بكل تناقضاته وتسطيحاته بوصفه الجمهور الأمي ثقافيا وفنيا، وبعد فوات الأوان يكتشف المتلقي بأن رجال الدين ليسوا فقهاء ولا علماء دين – إلا من بقي منهم خارج نياط السلطة السياسية- وأن رجال السياسية ما هم إلا عبيد السلطان، وأن الفنان صوره من صور وتمثلات الشيطان الرجيم الذي يقدم له الرجس من الأعمال، والاتهام له لا يكون بوصفه معارض بقدر ما هو مرتد وهنا وجب شرعيا وسياسيا تكفيره وزندقته، وباسم هذه التوصيفات له يهيج الجمهور عليه ويرفض منتجه المسرحي وتصدر فتاوى التكفير والاغتيال والنفي دون ان يكلفوا أنفسهم مشقة التساؤل العقلي ، والنتيجة أنهم بذلك أسسوا لجمهور من الواعظين المتعطشين للتكفير والإرهاب بدلا من الجمهور المتذوق والمتعطش للفن والجمال، فيصبح الجمهور يفاخر بأميته وجهله متحاشيا الإقتراب من العقل النقدي على قاعدة أنه يعيش في الدنيا ولكن عقله مشغول بالآخرة، وهذا المخطط صاغه رجل السياسة بالاتكاء على عكازه رجل الدين للكشف والنبش عن عورات الفن لدس السم في العسل ولإقصاء الجمهور عنها أكثر فأكثر.
    وبالمقابل وحتى نكون منصفين في تشخيص هذه الظاهرة لابد من الإعتراف أنه هناك شريحة من الجمهور أوجده أدعياء الفن المسرحي ضمن منظومة علاقة البائع بالزبون. علاقة يحكمها الربح والخسارة والترويج بأساليب رخيصة مما زاد من حدة العلاقة المتشنجة بين الفن والدين وأصبحت الفجوة أكبر. وبقي رجل الدين يستمد قدسيته وقوته من زيه الديني وبقي أدعياء المسرح يستمرون في مناجاة جمهورهم بأسمالهم الحداثية ومساحيقهم الملونة التي تخفي زيفهم وخداعهم لترويج بضاعتهم الفاسدة على الجمهور المستباح الذي تمادى كل من السياسي والديني في استباحته وافتراسه، فكيف للخطاب المسرحي أن يزدهر في ظل هكذا مخطط خبيث غاب عنه فطنة التكفير مقابل فتنة التكفير.

—————————————————————————————————————————-

المصدر : مجلة الفنون المسرحية – مهرجان القاهرة للمسرح المعاصر والتجريبي – المحور الفكري – المحور الأول: ماذا قال؟ المسرح وتكفير الفكر العقلاني

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *