الجسد بوصفه مرسِلاً للعلامات..الممثل عند فيسفولود مايرهولد
أحمد شرجي
سجل التاريخ واحدة من أولى المحاولات للتمرد على منهج ستانسلافسكي، وطريقته بالتعاطي مع الممثل، وعملية إعداد الممثل للدور، كانت للمخرج الروسي مايرهولد.
الذي حاول أن يحول الممثل إلى آلة ميكانيكية من خلال طريقته (البيوميكانيك Biomechanics)، عبر “دراسة الفعل الميكانيكي بعلاقته مع الجسد البشري كوحدة بيولوجية حية”. ويعرف المعجم المسرحي البيوميكانيك بإنها “كلمة منحوتة من Bio التي هي اختصار لكلمة بيولوجيا = الحيوية وMécanique التي تعني ما هو آلي. وجمعُهما معاً يُقصد به التعامل مع الجسد البشري كآلة”. والتي أراد بها الاعتماد على الحركة، مقابل تهميش النص المسرحي وخفض قدسيته الكلاسيكية. وهذا ما فعله في نص غوغول (المفتش العام) متمرداً على كل الإرث الكلاسيكي الذي يحمله النص في الذاكرة الجمعية للفرد السوفيتي، وأثارت في وقتها الكثير من اللغط وموجة عنيفة من الانتقادات. لأنه فصل الناحية العضلية عن الناحية النفسية في طريقة عمله. والتي قوضت الجانب العاطفي عند الممثل، فتحول إلى فعل عضلي بلا روح. كذلك اهتمام مايرهولد بالتقنية الخارجية للممثل متخذاً منه المادة الأساس لحمل علاماته المسرحية، التي يبثها الجسد عن طريق الحركة.
ويأخذ الجسد دور المرسل للعلامات والتعبير عن الانفعالات الداخلية للعلاقات الإنسانية، والتعبير الدقيق عن التفاصيل للمشاعر والأحاسيس، وذلك عن طريق الإشارات والإيماءات. لأن مايرهولد يجد أن الكلمة لا تقول كل شيء، لهذا لجأ إلى الجسد والحركة لتأكيد الدلالة والتشكيل المسرحي للجسد في الفضاء.
ولعل هذا هو جوهرالاختلاف مع منهج ستانسلافسكي. إذ اهتم مايرهولد بالاعتماد على الفعل قبل الشعور، الفعل الحركي الميكانيكي. فالحركة عنده هي مصدر الفعل، يستند بذلك إلى علم النفس، مثله مثل ستانسلافسكي. إلا أننا نجد خصوصية مايرهولد كونه ينطلق بتلك المعادلة بوساطة أسبقية الفعل قبل الشعور بالاستناد إلى العالم النفسي جيمس. ومفاد تلك المعادلة أو موجزها يتمثل بعبارة: (أنا عدوت فخفت).. وهي عبارة تحيلنا إلى ما ذكرناه آنفاً بأسبقية فعل الحركة الفيزيقي (عدوت) قبل فعل الشعور (خفت). وفسر(مايرهولد) تلك العبارة على النحو الآتي، أنا لم أعدُ لأني خفت بل خفت لأني عدوت، وهذا يعني أن الفعل المنعكس (عدوت) يسبق الشعور ولا يعد نتيجة له في رأي جيمس، وهذا ما يخالف التصور المعتاد. من هنا يستنتج مايرهولد أن على الممثل إتقان حركاته وتدريب جهازه العصبي الحركي لا أن يستقطر (المعاناة) من نفسه كما يطالبه بذلك منهج ستانسلافسكي.
بينما فضل ستانسلافسكي تعديل صيغة جيمس، فبدلاً من (أنا عدوت فخفت) تكون (أنا هربت فخفت)، لأن العدو حركة ميكانيكية . يمكن أن يقدم عليها أي شخص من دون هدف، حركة خالية من المشاعر والأحاسيس، جامدة لا تحمل هدفا معينا وبلا روح، لأنها من دون فعل نفسي. ولا تحيلنا إلى مدلول (صورة ذهنية)، سوى إلى فعلها الحركي، ويمكن أن نفهمه بكل الحالات طالما أنها خالية من التفكير والهدف. بينما الهرب هو فعل عضلي ونفسي يدل على هدف محدد وواضح فهو تصرف إنساني، جاء نتيجة هدف لموقف ما مهما كان نوع هذا الموقف والحدث، لأن الفعل العضلي (هرب) ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالحالة، ومن ثمّ سيكون معبأ بالمشاعر والأحاسيس التي تطلبها فعل الهروب.
ويمكن القول بأن المخرج إذا طلب من الممثل (العدو)، سوف يحقق له ذلك بسرعة شديدة ومن دون معرفة الأسباب، طالما أن العملية لا تحمل موجبات الأسئلة وهدفها واضح، لكن لو طلب منه الهرب، فسيبادر مباشرة للسؤال: لماذا؟ وممن؟ وكيف؟ هذه الأسئلة وغيرها التي يطرحها الممثل بناءً على عملية الهروب. ترتبط بالفعل العضلي لفعل (هرب) وعمقه النفسي المتضمّن من جهة أخرى، الأمر الذي سيجعل الممثل يقوم بتهيئة الظروف المناسبة، من أجل الوصول لتبرير ذلك الهروب. ولابد أن يكون هناك توافق بين الفعل العضلي (هرب)، وبين الشعور والإحساس لذلك الهروب، وهذا ما يؤكده ستانسلافسكي في شرحه للفعل “الشيء المهم ليس في الفعل ذاته، ولكن في الولادة الطبيعية لدواعي الفعل”.
أراد مايرهولد الاعتماد على الجانب الحركي البصري في خطابه الجمالي المسرحي، ولم يحبذ أن يكون ممثله مستجديا للمعاناة. فسعى لاستنطاق الجسد على حساب المشاعر، وسعى أن تكون الحركة (المرسل) الحقيقي للعلامات، طالما إنها تمتلك وسائل إيصالها وإن كان ذلك على حساب العالم الداخلي للممثل، المتمثل بالمشاعر والأحاسيس، لأن “مقاربة ميرهولد للمسرح مقاربة ذهنية أكثر منها انفعالية فالبيوميكانيك يقوم على إلغاء شخصية الممثل وفرديته وكل الممثلين يرتدون لباسًا هو لباس العمل (الأزرق)، وعلى إخضاع ذهنه وجسده لرغبة المخرج/ المعلم، وحثه على بناء علاقة مع الشخصية مختلفة تماما عن المطابقة الكاملة وأقرب إلى التغريب”. وبهذا اتخذ مايرهولد من الجسد الوسيلة لإيصال الدلالات المسرحية التي يحملها العرض المسرحي. والتي تأتي عن طريق الحركة لأنها مصدر إرسال العلامات التي يحملها الجسد.
لقد أثرت الرمزية Symbolism في إخراجات مايرهولد وخاصة في إخراجاته مطلع القرن العشرين، من أجل عدم استنساخ الواقع في العرض المسرحي. فقد رفض مايرهولد فكرة الإيهام Illusion واستبدالها بفكرة الإيحاء. لأنها الوسيلة الجديدة لإيصال الخطاب المسرحي في المسرح المغاير، الذي يطمح إليه. مهدت طروحاته للمغايرة، بما أسماه (المسرح المؤسلب)، أو (الأسلبة Stylization)، والأسلبة في المسرح “هي الابتعاد عن المحاكاة التصويرية للواقع Mimesis والاكتفاء بتقديم علامات تدل على هذا الواقع أو ترجع إليه”( )، بمعنى أنه لا يقوم على استنساخ الواقع، بل الإيحاء إليه، يكون التركيز على جوهر الظاهرة، من خلال الغستوس Gestus، وهو “الحركة النمطية (الجامدة) التي تُمثّل بشكل رمزي وضعية الجسد لكل فرد أو لكل فئة من فئات المجتمع”( ). ويمتاز عمل مايرهولد بالاقتصاد على خشبة المسرح للعناصر المسرحية الأخرى، الديكور، الملابس، بمعنى يقوم بانتقاء الأفعال واللحظات، بانتقاء أقوى اللحظات وأكثرها ضرورة، لخدمة الجوهر، ويساعد الإيحاء الممثلين بالتعبير عن روح الفكرة داخل النص.
https://www.almadapaper.net