التجارب الإخراجية المتعددة للنص الواحد.. ثراء أم تكرار – عواد علي #العراق

من مسرحية “العرس الوحشي” إخراج عبد الكريم الجراح

التجارب الإخراجية المتعددة للنص الواحد.. ثراء أم تكرار – عواد علي #العراق

الكثير من النصوص المسرحية وقع الاشتغال عليها أكثر من مرة، حيث يتغير النص في كل مرة وتتغير لغته وأهدافه وتفاصيله مع كل مقاربة إخراجية، فنصوص شكسبير مثلا طالتها مقاربات لا يمكن حصر عددها طيلة قرون، والكثير من الكتاب الآخرين وقعت مقاربة نصوصهم أكثر من مرة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل أن إنجاز نص مسرحي أكثر من مرة على يد مخرجين مختلفين إثراء له أم مساس منه؟

من بين ما ينفرد به فن المسرح عن الفنون الأخرى أنه يتيح للمتلقي فرصة مشاهدة تجارب إخراجية متعددة لنص مسرحي واحد، وفقا لتعدد قراءات المخرجين وتأويلاتهم المتباينة.

ولا شك في أن ثمة من تسنت له في عالمنا العربي مشاهدة تجارب إخراجية شتى لنص بعينه من نصوص شكسبير أو تشيخوف أو بريخت أو لوركا أو توفيق الحكيم أو سعدالله ونوس أو عبدالكريم برشيد أو غيرهم من كتّاب المسرح الأجانب والعرب، فكان لكل تجربة من تلك التجارب ما يميزها عن غيرها فنيا ودلاليا.

العرس الوحشي

أتيحت لي في عمّان، على مدى سنوات، فرصة مشاهدة ثلاث تجارب إخراجية لمسرحية بعنوان “العرس الوحشي”، كيّف نصها الكاتب المسرحي العراقي فلاح شاكر عن رواية بالعنوان نفسه للروائي الفرنسي يان كفلك، وأخرجها المخرج العراقي أحمد حسن موسى، والمخرجان الأردنيان عبدالكريم الجراح، ومحمد الجراح.

تدور أحداث الرواية حول جندي أميركي في إحدى الوحدات التي كانت تخدم في فرنسا. وقبل أن تغادر وحدته عائدة إلى أميركا بيوم واحد يصطحب صديقته الصغيرة في رحلة توديعية، لكنه يميل بعربته العسكرية إلى مكان منعزل ينتظره فيه اثنان من زملائه في الوحدة، وهناك يقوم الجنود الثلاثة باغتصاب الصبية، تاركين بذرة ملعونة وملتبسة في أحشائها، إلاّ أن محاولات التخلص من الجنين تفشل، فيخرج إلى الحياة في أوانه، وتعجز الأم عن معرفة من هو أبوه من بين المغتصبين الثلاثة، وتحاول قتله مرات عديدة، وتعامله بقسوة مفرطة ليعيش فصاميا معزولا ومشردا. وتنتهي الرواية بمقتل الأم على يد ابنها خنقا في البحر، كطريقة وحيدة لمعانقتها أول مرة وآخر مرة.

وعلى الرغم من أن فلاح شاكر حافظ على الإطار العام لحبكة الرواية، فإنه نقل أحداثها في نص المسرحية إلى بيئة أخرى هي البيئة العراقية خلال فترة الاحتلال الأميركي للعراق، وأضفى عليها طابعا رمزيا ليرفع الفعل الدرامي من بعده الفردي إلى بعد جمعي، فالصبية هنا يغتصبها ثلاثة من الجنود المارينز خلال الاحتلال، ويتحول حدث “الاغتصاب” من جريمة ضحيتها فرد واحد إلى جريمة استباحة بلد بكامله هو العراق.

هذا ما يدفع المتلقي إلى التعاطف مع تنكّر الأم لابنها “السفاح”، ويتفهم موقفها منه، فالابن هنا يحيل على الدمار الذي زرعه المغتصِب – المحتل في الوطن، والتركة المشؤومة التي خلفها المارينز وراءهم. وقد عمق المخرج أحمد حسن موسى، الذي أخرج المسرحية أول مرة، هذه الإحالة بجعل شخصية الابن مشوهة الخلق، في ظهرها حدبة، تمثّل استعارة أو علامة تشير إلى بشاعة فعل الاغتصاب.

رؤية مغايرة

لم تكن قراءة المخرج حسن موسى لهذا النص (أداء شذى سالم ورائد محسن) قراءة امتثالية، بل منتجة تقوم على رؤية مغايرة، وتأويلية تخطت النسق الدلالي للنص، ونواياه، ونسجت خطابها الجمالي، واقترحت مغزى مختلفا له.

 في نص المؤلف تنتهي أحداث المسرحية بانهيار الجزء الذي تقف عليه الأم من العبّارة (الفضاء الدرامي المتخيّل)، في حين ينتهي العرض بدفن الأم لعارها حيا في صندوق معدني، وشنق نفسها بعقال أبيها، وهو فعل اختياري نابع من إرادة مقاومة، يرمز إلى اجتثاث غرس الاحتلال ومحو بشاعته، والتضحية بالنفس كخلاص نهائي. لكنه يبدو، من منظور نقدي، فعلا قصديا للمخرج، خاضعا لفكرة مثالية أكثر من كونه حافزا دراميا مقنعا للمتلقي.

عساكر عرب

 في التجربة الإخراجية الثانية لنص “العرس الوحشي”، التي عُرضت في مهرجان المسرح الأردني، ومهرجان المسرح العربي في الجزائر صاغ المخرج الأردني عبدالكريم الجراح العرض وفق رؤية مغايرة أيضا عوّمت المرجعية الدلالية للنص، وحاولت إسقاطه على الأوضاع التي تعيشها المنطقة العربية منذ بدء ما سمّي بـ”الربيع العربي”، فأصبح الجنود المارينز الثلاثة “عساكر عربا” في إشارة إلى القوات العسكرية النظامية التي استخدمتها الأنظمة المستبدة لقمع الثورات والاحتجاجات الشعبية، واغتصاب أحلام المشاركين فيها.

 كل ذلك على خلفية نشيد “موطني” الشهير الذي استبدل المخرج فيه مفردة “موطني” بمفردتي “تكذبين” و”أكذب”! كما أصبح الفعل الدرامي يدور في طوف، أو عبّارة عائمة على سطح البحر، وهي إشارة، أيضا، إلى أن الأحداث التي تشهدها دول “الربيع العربي” لا تقف على أرض صلبة، بل على سطح رجراج يمكن أن يُغرق كل مَن يقف عليه.

وصوّر الجراح كلا الشخصيتين، الأم (مثلت دورها شفيقة الطل) والابن (مثّل دوره زيد خليل مصطفى)، بوصفهما ضحيتين لجريمة واحدة، وبذلك خالف نص المؤلف، الذي يشير إلى كون الابن (السفاح) جرثومة يمكن القبول بفكرة استئصالها.

لكن هذه الإسقاطات بدت غير مقنعة أنتجتها قراءة أو مقاربة لوت عنق النص الأصلي، وغدرت بنسقه ونواياه الأساسية، وهي اغتصاب المحتل للعراق، وترك جرثومة في جسمه (عار الاحتلال) تسببت في كل ما آل إليه من خراب. ينتهي العرض لدى المخرج بغرق العبّارة، التي يتصارع على سطحها كل من الأم والابن، من خلال توجيه إضاءة زرقاء إلى الجمهور، وهبوط حامل أجهزة المصابيح في سقف المسرح فوق الشخصيتين، إشارة إلى المصير المؤلم الذي انتهتا إليه.

كما أن إسناد المخرج دور الأم إلى ممثلة تجاوزت الستين من عمرها، والابن إلى ممثل يزيد عمره عن 35 سنة شكل تناقضا صارخا مع طبيعة الشخصيتين اللتين يُفترض أن تكونا أصغر من ذلك بكثير. تنتهي أحداث المسرحية، في نص المؤلف، بانهيار الجزء الذي تقف عليه الأم من العبّارة، وسقوطها في النهر مع سماع أصوات رصاص. وحين يحاول الابن الإمساك بها لإنقاذها يسقط معها في الماء، وهو يردد بأعلى صوته “أماه.. أماه”، ثم يختلط صوته بالنشيد الوطني الأميركي.

وقد أوحت هذه النهاية التراجيدية الرمزية بمدلولات عديدة تتعلق بموت طرفي المعادلة في عملية الاغتصاب (الاحتلال) بفعل حتمي لا اختياري، وهي من دون شك نهاية تتناغم ونوايا المؤلف النموذجي (الذي نفترض أنه يختلف عن المؤلف الفعلي) بوصفه استراتيجية نصية، في حين ينتهي العرض لدى عبدالكريم الجراح بغرق العبّارة، التي يتصارع على سطحها كل من الأم والابن، من خلال توجيه إضاءة زرقاء إلى الجمهور، وهبوط حامل أجهزة المصابيح في سقف المسرح فوق الشخصيتين، إشارة إلى المصير المؤلم الذي انتهتا إليه.

نهاية صادمة

من مسرحية “العرس الوحشي” إخراج محمد الجراح

أما في التجربة الإخراجية الثالثة، التي عُرضت في مهرجان عمون لمسرح الشباب بعمّان، ومهرجان دبا الحصن للمسرح الثنائي في الشارقة، فقد حذف المخرج محمد الجراح بعض الكلمات الدالة على الأسماء والأمكنة، ليكون العرض أكثر شمولا، وقدّم تشكيلا بصريا امتد عبر الزمان والمكان، مستثمرا الحضور القوي للممثّلين اللذين أديا دوري الأم (أريج دبابنة)، والابن (راتب عبيدات).

وذهب بعيدا باتجاه مصادرة الجانب الإنساني، منهيا العرض بنهاية صادمة مناقضة لنهاية نص فلاح شاكر، حيث يقوم الابن بخنق أمه، ويملأ المكان المهجور بجثث الجنود. وقبل ذلك كانت العلاقة بينهما محكومة بالنقود التي وضعتها الأم في القبو، الذي حبست ابنها فيه، فهي تعتقد أنه أخفاها عنها، وتريد الحصول عليها لتخرج وتغادر المكان. وقد وضعنا ذلك أمام احتمالين، إما أنها استمرأت لعبة “المومس”، وإما أنها تفكر بأن النقود يمكن أن تنجيها، وتخرجها من واقعها وماضيها. إلا أن كلا التأويلين من الصعب الجزم بهما لأن الصورة المرتسمة في ذهن المتلقي عن الأم هي أنها ضحية، وما يتبع ذلك من تداعيات تأخذه صوب إحالات تشير إلى “الوطن” المغتَصب والمُستباح.

لقد صاغ المخرج محمد الجراح العرض في أجواء خانقة، حيث الفضاء المهجور، والمعزول عن الحياة، والمنقسم بحبل إلى قسمين، وبمفردات سينوغرافية تتألف من طاولة، وكيس معلّق يفرغ فيه الابن غضبه، وإناء مملوء بالماء يذكّر الأم بالمغتصبين.

ومؤخرا قرأت أن المخرج العراقي الشاب جرير عبدالله قدم تجربة إخراجية جديدة للنص نفسه في بغداد حوّل فيها الشخصيتين إلى أصوات عديدة (بوليفونية)، كما يقول الناقد سعد عزيز عبدالصاحب، تمثّل الأم (أدت دورها بسمة ياسين، وهند البياتي) وابنها (أدى دوره زكي عبدالقادر) في مراحل عمرية مختلفة، وفي زمنين افتراضيين، يقع الأول في الماضي (زمن حادثة الاغتصاب)، ويشير الثاني إلى الزمن الحاضر. وقد أثمرت هذه التجربة مونتاجا فنيا وجماليا، على صعيد المعالجة الفنية للغة والإيقاع والميزانسين، أشبه بالشريط السينمائي الخام، مع الإبقاء على شخصية المغتصِب (أدى دوره المخرج) جاثمة على صدر الأم في كلا الزمنين.

عواد علي – العراق

(العرب)

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش