البحث المتجدد عن الجمال / د.فضل الله أحمد عبد الله – السودان

تقديم أولى :

إن المسرح والجمال لا يختلفان ، وعلاقتهما – إحداهما بالآخر هي علاقة وجود في الاصل . وما المسرح الاغريقي القديم –  في حقيقتة – إلا تجريب في البحث عن صيغة من صيغ أبنية الجمال.

فالتجريب أصل في فن المسرح ، وهو فعل جوهرة التحرك والمشي بإتجاه الممكن جمالاً ، وبإتجاه المفترض أو الوصول الى أقصى حد يمكن أن يصل إليه الفن المسرحي في إتجاه الجمال وصياغة أبنيته…..

وعرف المسرح اليوناني في مسارات التجريب بحثاً عن الصيغ الجديدة ،وانجز وقتها تحولات نوعية كبرى “إرتبطت بظهور رواده الأول الذين حاول كل واحد منهم أن يشق لنفسه منهجاً خاصاً به مخالفاً للاخر. وهذا يعني أن هاجس التجريب والبحث عن صيغ جديدة كان يخيم بظلاله عليهم ” (1).

وكان أولهم “ثسبيس Thespis” يتنقل بين المدن والقرى اليونانية مصحوباً بعربته وأفراد جوقته وأدوات عمله ، وكان يقيم مسرحه الجوال في ساحة السوق ، والأماكن الخاصة.

ويعتبر ثسيبس أول من إستبدل المقاطع الحوارية التي يتولى القيام بها من مغن بالتناوب مع أناشيد الجوقة . وتميز ثسبس بالتنقل والبحث الدائم عن الجمهور في أماكنهم وإعتماده على ممثل واحد الى جانب الجوقة.

ومن ثم ينتقل ((إيشيل Escyle)) نقلة أخرى بإظهاره الممثل الثاني في التراجيديا مما تجلى بذلك الصراع بين وجهات النظر المختلفة ، وتمركز الحوار ليشغل حيزاً أصيلا في النص المسرحي الى جانب الغناء وأشتغل أشيل في مضامينه على موضوعات الدين .

وجاء ((سوفوكلس)) متقناً للعمل الدرامي بإيجاد الممثل الثالث في التراجيديا ، ثم مثل أمام شخصياته الثابته شخصيات أكثر ضعفاً وهلعاً.

بهذا وجد يوربيدس الطريق ممهداً ليتمرد على قدسية الآلهة والملوك العظام بتوجيه النقد اللاذع إليهم ، ويعتبر يوربيدس الاكثر تجديداً من بين شعراء الأغريق الثلاثة “ونحس في أعماله بخيبة رجل فقد الأمل في القيم الدينية التي أقيم عليها مسرح اشيل وسوفوكل. وهو ينظر الى الناس والالهة بفكرنقدي حاد ، ولا يخشى الاشارات الدقيقة الى واقع زمانه” (2).

ومن أهم الخصائص التي ميزت يوربيدس وتحولاته هي الجرأة والتجديد على مستوى الاشكال والمضامين والواقعية في تناوله للموضوعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي ميزت عصره.

ذلك هو شأن التجريب المسرحي ، وسياقه التأريخي الاول عند اليونان وتحولاتهم الكبرى  وتتواتر الازمان.

من الواضح ،أنه ومن خلال ذلك الاستقصاء ورصد تأريخ المسرح الاغريقي وحركة رواده وانتقالاتهم من صيغة الى صيغة اخرى ، هو محاولة لملامسة أعلى سقوف الجميل والجمال بإعتبار أن تلك التحولات النوعية في الصيغ ((شكلاً ومضموناً)) كانت تمثل عند اولئك الرواد صوراً يؤسسها الخيال والحلم بالممكن الجميل ، كما هي في الاساس مواقف من مواقف المسرح الوجودية والاجتماعية والسياسية ، مواقف في مستوى الجمال والجميل المفترض.

فالعلاقة بين فن المسرح والجمال ، هـــي علاقة وجود ، وذات حساسية عالية . بذلك يضطلع المسرح بمهمة لها طابع التعالي الخلقي  .

وأي صياغة جديدة للمسرح (( شكلاً ومضموناً )) هي محاولة توسيع اوعية مدارك الانسان ورؤيته للعالم.

ثورة أنطوان آرتو:

المسرح ،إطار صور جديدة وغرائبية ومدهشة ومثيرة ، هكذا كان في البدء – ولا يزال – يتجدد ويجدد ، متحدياً الواقع بالخيال والحلم والرؤية المغايرة التي لا تعطي الا مواقفاً مغايرة.

التجريب هو الصورة الاكثر جلاءاً ووضوحاً وتمظهراً لمغذى المسرح في تثويره للابنية الجمالية بغية التجدد والتجديد.

المسرح بالاساس موقف وجودي واجتماعي وسياسي وموقف على مستوى المفكر فيه نفسه، وفي مستوى المتخيل ، وفي مستوى الاستقلال والحرية والجرأة والثورة على الواقع .

فالمقاومة من صميم شغل فن المسرح ، المقاومة كامنة أو مضمرة ، ومفترضة داخل كل ممارسة مسرحية مهما كان نوعها.

فالفن ثورة على الفوضى والقوالب السائدة التي تمارس هيمنتها ، وثورة على الواقع وفي الوقت نفسه ثورة على كل أنواع التعالي .

المسرح في جوهره ، هو التغيير – وفي الوقت نفسه – البحث عن الأدوات والأليات لاحداث التغيير ، وذلك في العناصر والمفاهيم والعلاقات والبنيات المختلفة . تلك سمة.

والوجه الآخر لسمة أُخرى هي على نفس القدر من الاهمية ، إنها سمة ((الخروج )) فالعملية التعبيرية الجمالية في المسرح ، صراع ومقاومة وطرق للانقلابات والخروج حتى على نفسه.

قد يبدو هذا المعنى متشابكاً ومتداخلاً ، بيد أن الدارس يقصد أو يذهب في المعنى: “أن نسمح بأن يخرج المسرح من المسرح ، وأن يصبح غيره ، وذلك من أجل أن يكون هذا الخروج تجريبياً ، أو شكلاً من أشكال التجريب” (3)

فإن التجريب يقوم على الخروج – حسب عبدالكريم برشيد – ولكن تبقى الاشارة ضرورية الى أن الخروج المقصود هو الخروج داخل الثوابت وداخل الهوية المسرحية الحقيقية . التجريب هو الشك وهو الفرضيات والاحتمالات فالشك واليقين لايلتقيان أبداً.

على هذا الاساس جاء مثلاً ” أنطوان آرتو – وهو أحد رموز التجريب المسرحي في نموذجه (مسرح القسوة) “

“أنطوان آرتو Antonin Artaud الذي أحدث فتحاً عظيماً في الميدان المسرحي وأرخ لميلاد تجربة جديدة متفردة المعالم والقسمات ، فمسرح القسوة يخلق رؤية جديدة ،ويقيم علاقات مغايرة بالثقافة الانسانية ، تخرج من دائرة الاتباع الى الافق المفتوح للإبداع وتتجاوز المتفق عليه الى المختلف فيه”  ، إن ثورته تشمل الحياة كلها ولا تستثنى أي جانب منها ، فهو ثوري ، ولكن ثورته ليست أحادية البعد ولا محدودة ولا ثابتة.

النزعة التجريبية عند أنطوان أرتو ، تجاوز للمسارح القائمة وتقديم مسرح جديد برؤية مغايرة تلتمس البناء على أنقاض الكائن ، والدخول في دائرة الممكن والمحتمل. ” وقد شكل الشرق بثقافته وحضاراته الغنية منعطفاً حاسماً في لفت انتباه أرتو الى هذا الآخر ، وقاده نحو تفجير النسق الفرجوي الغربي ، بل إن الشرق صار أهم مصدر من مصادر تفتق عبقريته المسرحية ، وأوحى له بضرورة إعادة النظر في السمو المزيف للغرب ، وانتقاد مركزيته وهيمنته على الشعوب العريقة المغلوبة على أمرها . كما أن ولعه بالمسرح الشرقي ذي النزعة الميتافيزيقية دفعه الى تقديمه كبديل على المسرح الغربي ذي النزعة السيكولوجية المريضة والمبتذلة وركز آرتو على الطبيعة السحرية والمقدسة للمسرح وإعتبرها صفة ملازمة لمسرح القسوة الذي يعد ثورة على المسرح الغربي” (4).

ويستخدم أنطوان آرتو مصطلح الثورة في معناه “الايثيمولوجي” كعودة إلى الاصل في أفق تحقيق نهضة ، وولادة ، ومن هنا، رأى أن يكون المسرح حارساً أمنياً على الطقوس والشعائر والافكار  والممارسات التي تضرب عميقاً في التاريخ ، والتي بفضلها يمكن أن يعيد للمسرح عظمته وهبته. “من اللافت للانتباه أن ((القسوة Lacruate)) تشكل مفهوماً محورياً يغطي شعرية آرتو المسرحية من الكتابة الدرامية الى الكتابة السينوغرافية ، وقد نظر الى أهميتها القصوى وشغلها للخيط الرابط بين كل المكونات المسرحية عند آرتو ، فإن ذلك ما دفعه الى تسمية مسرحه ب ((مسرح القسوة Thearte de CCUAUTE)) ” (5).

وأضاف ((سعيد كريمي)) بالقول: وقد أكسب آرتو مصطلح ((قسوة)) معاني ودلالات متعددة بعد أن أفرغه من الفهم السطحي الذي يمكن أن يتبادر الى الاذهان أن القسوة الآرتية لا ترتبط فقط بما هو مادي – جسدي – بل تمتد كذلك الى ما هو ميتافيزيقي ، وتطول الحياة بشكل عام ، وفي كل مظاهرها . يقول أرتو : “لقد قلت اذن ((قسوة)) كما لو أنني قلت ((حياة)) لانني أريد أن اشير الى أن المسرح بالنسبة الىّ حدث وإنبعاث أزلي(6). فالقسوة عن أرتو هي تعبير عن الصراع الاساسي والدائم الذي يمزق الانسان والعالم وهي الجشع في خلق إنسان جديد ، وجسد خالص.

يقف الانسان في مواجهة جديدة ، وأسئلة واسعة حول مكانته في الوجود ، والعلاقة الجدلية بينه وبين مصيره ، وهو سيقوده الى وعي ميتافيزيقي بالأنا ، ومن هنا، فإن المسرح الحقيقي يجب أن يكون مفعماً بالقسوة لكي يحمل الى المتفرج الوعي بقسوة الحياة وجبروتها.

القسوة عند آرتو مرتبطة بالعذاب الوجودي ، وهو ما دفعه الى المطالبة بالثورة الشاملة على كل مظاهر الحياة الزائفة.

أرتبط انطوان أرتو ، في بدايته الاولى، بالسريالية والسريالين . بيد أن مرحلة انعطافهم وميلهم الى الايديولوجيا ، راى ضرورة الانفصال عنهم لاختلافه معهم في تحديد هذا المفهوم . فقد كان يعي جيداً ماذا يريد أو يقول : “في أوربا وفي فرنسا أيضاً أناس واعون ، هؤلاء هم الثوريون . وانا ثوري مثلهم ولكن أطمح الى طرح مسألة الثورة بصورة شاملة ، وأرى أن الماركسية غير كافية لإنجاز تصور شامل للثورة ” (7).

فالثورة ليست فقط سياسية أو سوسيو- اقتصادية أو ثقافية ، بل ترتبط بالانسان بشكل عام وبما أن المسرح لم يعد لوحده يستعمل القسوة ، ولكن الغالب أن القسوة هي التي تستعمل المسرح، بغية ظهور القسوة التي هي جوهر الحياة والخصوصية الانسانية.

ما تميز به أنطوان أرتو في تثويره للابنية الجمالية ، هو البحث عن لغة مسرحية جديدة ، و حفر أركيولوجي في الذات الانسانية للوقوف عند كل البواعث والأسباب التي تجعل الأنسان يضعف أمام القوى الخفية في مصيره كما أنه حاول تجريدها قدر الأمكان وفصلها عن المرئي والملموس ، مانحاً لها منظورات فلسفسة جديدة .

وتعمل القسوة ، على استعادة الطابع الطقسي ليتوجه إلى جسد الممثل والمتفرج فتتولد عن ذلك الجذبة ، كما هو الحال عند بعض الشعوب البدائية التي تستخدم الموسيقى الاستشفائية.

كما يقدم أرتو بعداً جديداً للزمنية Tempororalite المسرحية بكلمة واحدة ، فإنه يفتح الطريق لجمالية جديدة يمكن سميتها بجمالية القسوة بموازاة مع إعادة تنظيم العناصر المكونة للعالم الدرامي.

وفي مسألة اللغة الكلامية ، عمل أرتو على جعلها مجرد عنصر من العناصر المكونة لبناء نسق العرض المسرحي وفتح الفضاء أكثر للغة الجسد لتبرز وتشغل مساحة أوسع وتعبر بجلاء عما تعجز عنه اللغة الكلامية.

وفي هذا المنظور نفسه ، نجد إنتصار مناصري العرض المسرحي ، على مناصري النص ، وجعل من النص نقطة إنطلاق للمخرج الذي يتصرف فيه كما يحلو له ، الى درجة انه يمكن أن يلغيه إذا كان ذلك يخدم تصوره الاخراجي ورؤيته الجمالية .

بهذا جعلت ثورة أرتو في مسرح القسوة من المخرج المسرحي الى الاساس الذي يقوم عليه العرض المسرحي ، بعد ما كان مجرد تابع للمؤلف . وأصبح المخج من أهم واجباته الاستعانة بكل الامكانات التعبيرية لشغل الفضاء المسرحي الذي هو مكان فارغ ينتظر الملأ . ممستثمراً القسوة الكونية لخلق عالم يشئ بمأساوية الحياة وسوداويتها . والدفع بالعرض المسرحي الى الجمع بين الميتافيوقي والفيزيقي ، والمجرد والملموس للمسرح واستعادة شموليته وأبوّته للفنون.

  • يوسف عيدابي وعلي مهدي وتجارب تثوير المسرح في السودان:

في تاريخ المسرح السوداني يمكن النظر بذات منظور القائل: “أن التعاقب الزمني (التأريخي) لهذا الفن المسرحي في السودان هو سلسلة من الأحداث المتصلة به، ذلك التوتر الذي يحدث بصورة مستمرة إلى انساق الفن الواحد أو مجموعة من الفنون” التي تستوجب الدراسة والبحث في أسئلتها ورؤاها الفكرية، وصياغاتها للمستقبل في أفق محاوراتها للمأثور الشعبي . بحثاً عن صيغ جديدة للتعبير عن المسرح. وذلك بإعتبار أنه ((رغم أن أمشاج نشأة المسرح قد إرتبطت بالمسرح الغربي من حيث معماريته وجغرافيته، إلا أن هذا المسرح قد واجه تحدي الغربة الحضارية والثقافية التي كان يعيشها من خلال ما يقدم من عروض الجاليات الأجنبية (بدايات القرن العشرين) وعروض معهد بخت الرضا لتدريب المعلمين (ثلاثينيات القرن الماضي) وجهود السودنة التي كان يقوم بها الدكتور أحمد الطيب (1949م) ومسرح كلية غردون (1950م) وجهود الدكتور عبدالله الطيب في المسرح العربي والغربي المترجم، وبإختلاف هذه النشأة عن نظيرها في الوطن العربي تميزاً بالإلتفات والنظر إلى التراث الخاص استلهاماً واقتباساً وتوظيفاً إلا أن قضية التفكير في تناقل المعارف المسرحية لم تكن ضرورة للوصول إلى نسبية حضارية، بل تراوح الأمر عند حدود المبادرات الفردية المزاجية الخاضعة للظروف والإجتهادات دون أن يشكل ذلك تياراً أو تراكماً نوعياً ودون أن تنفي أن المسرح في السودان أكتسب الشرعية الثقافية في حماية الحس الوطني قبل وبعد الإستقلال (1956م)” وفي آواخر الستينيات وبداية السبعينيات أتجه المسرح على استيعاب المأثور الشعبي في النص المسرحي لعروضه. كما كانت مداخلة للتراث نفسه من زاوايا متعددة ومتباينة ، وتمثلت أهم مداخل التراث في الآتي:

– الحكاية الشعبية

– الأسطورة والتأريخ

– القيم الإجتماعية .

وعمل ذلك، إلى فتح باباً من أبواب الوعي بالتراث وتوظيفه بقدر أكثر وعياً من كتاب الثلاثينيات (خالد ابو الروس ابراهيم العبادي) اللذين على أيديهما أشتعلت جذوة الكتابة المسرحية السودانية المرتكزة على التراث ومن أبرز هولاء الكتاب الذين نحو إلى ذلك الإتجاه مثالاً : يوسف عيدابي في مسرحية ((حصان البياحة)) وهو شاعر رائد وكاتب مسرحي صاحب رؤية للموسيقى والمسرح، من دعاة إستلهام التراث ((ذلك الإستلهام الإيجابي لا عبر القيم والمضامين بل وعبر تلك الأشكال والصيغ اللصيغة بتقاليد الذهنية العربية العامة ومقومات طقس الفرجة العربية .. ولم تنحصر المنادة بالتراث الأدبي فقط بل تعدته إلى تأكيد ضرورة التعمق في الممارسات الشعبية بغية إستلهام طرائق وأساليب المسرح الشعبي .. بمعنى أن الدعوة إلى سبر أغوار التراث الأدبي الكلاسيكي أو الظواهر المسرحية ينبغي أن توصل المسرحي العربي لا إلى مجرد أسلبة تأليفية (وبالتالي أدبية محضة) بل إلى بنى وتراكيب للعرض المسرحي الشامل (وبالتالي إلى صيغة فنية تعبيرية وحركة حية) تصادق الواقع المباشر في مأتاة غنية وفكرية مؤثرة” ووفقاً لذات المفهوم كتب يوسف عيدابي ((حصان البياحة)) كما أورد ذلك عثمان جمال الدين في كتابة ((الفلكلور السوداني)) قائلاً بإنجاز الدكتور يوسف عيدابى مسرحيته ((حصان البياجة)) موسم 73/1974م بدأت أولى الخطوات الهامة في إستيعايب التراث والنظر إليه في بنيتة القيمية ((الدين) ) وهي خطوة في محتواها العام أشبه بخطوة توفيق الحكيم في معالجته ((لأهل الكهف)) وذلك بخضوع موضوع المسرحية ((حصان البياحة)) مباشرة من ترجمات كتاب “الطبقات”* في خصوص الأولياء الصالحين والعلماء والشعراء في السودان هو الكتاب الأول في تاريخ المدونات السودانية عن سلطنة الفونج”(8)… المسرحية أشبه بقصيدة طويلة ، ربما تكون موازية لقصيدة محمد عبد الحي ((العودة إلى سنار)) كما أورد ((خالد المبارك)) وبها عدد كبير من الأشخاص يفوق الثلاثين. تتكون المسرحية من عدة (لوحات) يربط بينها الموضع العام وهو التطلع أو الإستبصار ولا تنتظم في وحدة مثل تلك التي تميز الحبكة في المسرحية الطبيعية أو الواقعية” يزواج يوسف عيدابي في ((حصان البياحة)) بين أساليب المتمردين على المسرح الأرسطي ومثل برتولت بريشت ولويجى بيراندللو وبين الظواهر المسرحية الشعبية السودانية التاريخية (الواردة في كتاب الطبقات لود ضيف الله) والمرتبطة بألعاب الصبية والفلكلور مثال توظيف هدهدة الأم السودانية لرضيعها.

تأسيساًعلى ذلك الإستقصاء، يمكن القول أن يوسف عيدابي في إلتجائه إلى التراث أتى فعلاً ذا علاقة بالبحث عن القيم الجمالية التي تتشابك مع منظورات الوجدان وبلوغ الأصالة وفق الرؤى الكلية الفكرية الشاملة، أو هي بالأحرى محاولات على مستوى النص والعرض، تبحث عن الهوية برغبة كاملة لتجزير مسرح يتواشج بالثقافة الشعبية السودانية ، في محاورة للمأثور الشعبي . وذلك المعنى الذي إرتكز عليه المسرحي السوداني يوسف عيدابي في تأسيس دعوته نحو : “مسرح لعموم أهل السودان” نجد أنها أثرت بشكل كبير وقوي في تشكيل إتجاهات ثورية لبعض المسرحيين السودانيين ومنهم (علي مهدي).

الذي دخل للثورة على التقاليد المسرحية من باب الاحتفالية أو ما يعرف عنده ب ((الفرجة المسرحية)) سعياً الى تحقيق خطاب يرتكز في بناءه الجمالي على مخيال الماثور الشعبي المتجذر في الحضارة العربية الاسلامية.

حشد علي مهدي في منجذه ذات مفهومات الاحتفالية عند دعاته في بلاد المغرب العربي الباحثين عن اشكال اخرى للمتفرجين : “مداخل تفتح لها محفل الصور أبواب وثيقة جديدة تحتفي بالاحتفالية الام . والوثائق في التكوين تخرج من رحم واحد . وتغدو تنويعات على ذات النغم ، وتجديد على لحن أساسي هو الاحتفالية . وكما قلنا التكوين مياه جديدة تجري في ذات المجرى القديم الذي يحوي على كل ثوابت الاحتفالية الاساسية الحيوية” (9).

المسرح، وبوصفه علم من العلوم الإنسانية، كما هو فن وصناعة. بيد أنه فعل مركب وشائك، تتقاطع أنسجته ما بين الروحي والمادي والفكري والنفسي والمحسوس والمتخيل.

وتتداخل كل تلك الأنسجة وتتقاطع مستوياته وتتكامل وتتحاور في فعل جمعي (المؤلف والمخرج والممثل والموسيقار ومصمم المشاهد ومهندس الإضاءة) في صنع ضفيرة متناغمة الأبعاد من الإبداع الجمعي.

إن المسرح في جانبه الأساس صور ترى، لها حيز وكثافة وأشكال وأحجام وألوان وأصوات تسمع.

صور تتجلى في تعدد مشهدياته، تتحرك بآليات خاصة في لغته تخاطب العيون كما تخاطب الآذان مرتكز على جماليات بصرية مبدعة. ذلك هو ظاهر المسرح في جانبه الأساس الأول غير أن في باطنه ينطوي أخطر ما فيه وهو (المعنى) لهذا الفعل وجوهره المتمثل في خطابه أو رسالته ويمكن القول بأنه المعنى الإجتماعي لهذا الفعل والمقترن بأسسه المعرفيه ودوافعه الفكرية.

وعلى هذا الأساس يدخل التكوين الإحتفالي أو ((الفرجة)) عند علي مهدي دائرة التجريب حيث بدأ يختبر عناصر العرض المسرحي بحثاً عن تقنيات جديدة.

إذ يقول عن بداياته ((كان مسرحي جزء من الحركة الوطنية استخدمت المسرح الإجتماعي في مطلع السبعينيات، برغم الدراسة، كنت دائماً أظن أن هناك شئ أكبر من تفكيري، حظيت بيوسف عيدابي، وهو من أوائل الذين أهتموا بالمسرح الشعبي في بحثه عن صيغة مسرحية جديدة قبل الصيغة المغربية. كتب ((العصفورة والممثلون)) في السبعينيات وأخرجها فتح الرحمن عبد العزيز ثم ((حصان البياحة)) وقرأت ((كتاب الشونة)) إلى أن جاء عام 1979م فكرت جلياً في تغيير المنهج التقليدي وبحثت في الطبقات وجلست مع عثمان جمال الدين على مستوى الكتابة للبحث عن الفكرة المغايرة.

بدأت في التفكير عن بحث هيكلة جديدة للعرض ، بإسم التكوين ، وكانت صيغتها الاولى في منتصف الثمانينيات ، مسرحية ((طلع البدر)) في مسرح قاعة الصداقة بالخرطوم ، كتب النص الشعري عبدالقادر الكتيابي وهي أولى المحاولات لاطلاق إطار التكوين ….

ومن ثم ذهب علي مهدي بذات الرؤية في عروض تالية يبحث في أبنية فرجة تتكامل مع بعضها تتشكل على تبيان الفعل بالقول ، أو القول بالفعل ، وقرأ ((الفتوحات)) لابن عربي وخصوصاً عند التاويل والتعويل وإتكأ نظرياً على قوله ((كل فكرة لا تتحول الى صورة لا يعول عليه)) ….

ومن هنا جاء مشروعه الاول في الفرجة ((سلمان الزغرات سيد سنار)) .

ويقول علي مهدي :

عندما بدأت في تكوين العرض لم يكن لدي نصاً مكتوباً – بل كان عندي أفكار أحسب أنها قادرة على أن تتحول إلى صورة وبدأت البروفات مع الشباب حتى يصبروا و  التواصل معهم.

واشتغلت على مدى شهر في تكوين المشاهد من الأفكار وليس عندي من الشخوص إلا سلمان الزغرات وما يدور حوله. وكل الشخوص والحكايات كان مصدري هو الطبقات – كأن أعيد ما فعله عيدابي قبل عقدين .

من هذا البدء جاءت ((فرجة بين سنار وعيذاب)) وهي القراءة الأساس والمتأمل في ((كتاب الطبقات)) وهي قراءة للمأثور الشعبي، كلماته، عباراته، علاماته، إشاراته، كما هي قراءة في الأشياء والمؤسسة الإجتماعية.

وهي صورة تماثل المأثور الشعبي في لغاته وحواراته ومصطلحاته أو كتابة جديدة للمأثور الشعبي السوداني “في هذه الفرجة بين سنار وعيذاب لحظة مكثفة، دقيقة، شفافة، لحظة تسترجع فيه صور من محافل قديمة نأخذها إلى محفلنا الحاضر ويمشي بيننا سيدي سلمان الزغرات”…

والقارئ للعرض، يجد أنه أتسم بالحيوية الفائقة … وأدائية حية ومتحررة.

عرض لا يمكن تصنيفه مدرسياً، المشخصون فيه كأنهم يقفون، في الحد بين الروح والزمان دائرة للأداء، لا تجد فيه ما يشير إلى الأمام أو الأسفل “لا يبحث المشخصون فيها عبر أدائهم التمثيلي عن إتصالاً للعواطف، ينتقلون بيسر بينها وهم في ذات اللحظة (جابر)، (الحارس) و (سيد القوم) هم (سلمان)هم في جزء من الثانية (مادحين) و (جنود) و(عرائس) هم مهما صنعوا معاً، هذه اللحظات من الراهن القادم من تواريخ قديمة. هم في الفرجة بين سنار وعيذاب جسر قديم يتجدد”.

بهذا تؤثث الإحتفالية عند علي مهدي عالم إبداعه وكونه وشروطه وقواعده وحدوده الخاصة في ((فرجة)) تبحث عن الجوهر بفسيفساء ألوان الرايات والأضواء والظلال والأقنعة والأزياء والأصباغ …

وكل لون وضوء في العرض هو بحجم أسئلة الوجود. ويمثلها أبن عربي حاضر في العرض فإن مأثور الكرامات في الطبقات حاضرة، فالشيخ القدال يحكي وطلبته يرجوه أن يطير ومشهديات الشيخ حسن ود حسونة يحي بنت الريس في الخشاب بعد موتها تتجلى في الفرجة إن لم تكن تجسيداً ففي المخيال تتجسد طيوفاً من الذاكرة الشعبية المركوزة في الناس.

وإسماعيل صاحب الربابة ابن الشيخ مكي الدقلاشي وأمه (خيرة السقرناوية) ذلك الملاماتي، يدخل المحفل ويضرب الربابة كما كان يضربها في الماضي “كل ضربة لها نغمة يفيق فيها المجنون، وتزهل منها العقول وتطرب لها الحيوانات والجمادات” …

يأتي إسماعيل الدقلاشي ويكون في الموعد سيداً للزمان … وتأتي (تهجة) والفرسة بنت بكر بالحرير والجرس (والفقراء شايلين التهليل بالنغمات الحسنة وناس البلد والسادر والوارد) ويدخل علي الملك (سايمين) والحضور هنا في دائرة الإحتفال قد لايكون حضور صورة مثال حي، ولكنه حضور إنفعال الذاكرة الموشومة بصورهم وأصواتهم وألوانهم ووقائعهم التي لها ألف معنى عند المتفرج.

فالذاكرة في إنفعالاتها تملك طاقات هائلة في توليد الصور الأكثر واقعية وحقيقية والأكثر صدقاً وشفافية في الحياة.

((سنار)) الدلالة والرمز والحلم، ورؤى تتجدد في الشعر والرواية والتشكيل وشئ من الحب مقيم في الناس، وهي المعرفة والتصوف يضعها جميعاً ((علي مهدي)) صوراً للفرجة في منصة الإحتفال، ثم بهذا الوعي يُكوّن الأساس الحيوي في المشهد الفكري والجمالي والأخلاقي السوداني ((الفرجة بين سنار وعيذاب، تبحث عن شكل يطابق فكرتها لتخرج من منصة العرض المسرحي إلى ساحات يتوفر فيها إتساع يستوعب الحلم في التكوين قلنا(المحفل أوسع والمسرح لا يستوعب الحلم في التكوين)، وهنا تطبيق وإن لم يسبق التنظير عندنا التجارب المعملية في تكوين العروض في المحافل، لكنها وثائقنا تخرج لتكوين إطاراً نظرياً نظرياً للإبداع فيه وقد تكون تاريخاً لمسيرته ومساره، وسائقنا تسعى بالقدر المستطاع لتربط بين القادم من فعل الإبداع بالراهن والحادث بالتأريخ. أخترنا الدائرة لهذه الفرجة على وجه الخصوص، وقد تأتي فرجة أخرى بشكل هندسي آخر يتطابق وحاجاتها له، لكن أختيارنا يؤسس لتطبيق فكرتنا النظرية حول مكان العرض وتأثيراته على تكوين العرض”.

ما معنى أن تكون في الدائرة أيها المبدع المفكر؟

وذلك سؤال (عبد الكريم برشيد) :

“دائرة الكون والعالم والتاريخ والحقائق والأشياء، وأن تجد نفسك تقف في مركز هذه الدائرة التي تدور حول نفسها، وأن تجد كل الخطوط تؤدي إلى هذه النقطة المركزية والمحورية، وأن تعرف أنها الملتقى الذي تلتقي عنده كل الطرق، والتي تأتيها من كل الجهات، من

الشمال والجنوب، ومن الشرق والغرب، ومن الأعلى والأسفل”.

وذات المعنى نفسه نجده مادة اشتغالات عرض((فرجة بين سنار وعيذاب)) …

في المكان (الدائرة) يرفع علي مهدي الحجب عن مختلف وجوه الحدث، صراعاتهم، علاقاتهم المتشابكة في كل إتجاه وطرق، لهفتهم لتغيير الحال وتوقعهم إلى حياة أفضل .

الفعل في العرض لم يكن مجرد سلسلة من الأفعال أو الوقائع التي تفعل كلها أو حدثت في ذلك الزمان من التأريخ السوداني (سنار – عيذاب) لكن – وربما بمغذى ودلالة – قصدية الإنتقاع من أحداث بذاتها من هذا المأثورالشعبي – بلد وإنسان – على تخوم سنار وعيذاب، ليقدم علي مهدي رؤية أخلاقية تكشف عن قوتها وفعاليتها في المواجهة بين الشخصية الثقافية السودانية في ذلك الزمان القديم والشخصية الثقافية السودانية في حضوره الآن وأوجه عناصر التغيير الواردة.

((سنار وعيداب)) فرجة/ إحتفالية، هي شرفة إبداعية .. إتخذت من شخصياتها مقاماً أسطورياً ،وهو وعي العرض المنجز الفني بهويته واسمساكه بالعقائد والعادات المتوارثة محاولة لإستيعاب الآخر في نسق المتحرك دون إزاحة للثابت …

نص العرض، بالغ الحساسية والتعقيد، بإعتبار أن علي مهدي في تقدير الناقد، أنه لم يعتمد على نص مكتوب على الورق بقدر ما أنه إبداع في تكوين صور حية، والمعنى الأوفق هنا أنه عمل على الكتابة بالأجساد الحية المستلة من التأريخ والمخيال الشعبي المأثور.

فالعرض قدم صورة عميقة عن ((سنار)) وهي رمز وحلم ودلالة (الإتحاد) الباحث عن (عيذاب) وعيذاب ((بشريانها …على الدهليز الذي ربط بين سنار وعيذاب لو لم تكن الأبواب موصدة. والجفوة في الجسد أكبر من الحلقوم بين سنار وعيذاب، والمسافات باعدت بها وبينها الحبال ولو كان بين سنار وعيذاب حبل ود يصل لا يفرق ولا ينظر شامتاً، لما دخلها جنود إسماعيل باشا صباح يوم 1821م حولوا الدائرة في وسط السوق الكبير في سنار من ساحات للحكايات والألعاب والمديح والإنشاد إلى مكان لإبلاغ الناس أن في هذه الظهيرة ما عاد لهم ملك ولا ملك ولا دولة ولا سلطة ولا سلطنة وبعدها أو قبلها كانت عيذاب تقفل نوافذها على بحر القلزم، يتحول إلى شريط من المساكن القديمة المهجورة”…

وبهذا يمكن القول بأن علي مهدي تمكّن من تكوين مشهديات للآن مستقلاً مزايا ذلك الجنس القصصي الشعبي (المأثور) والشخصيات الأسطورية ليشهد به على الحاضر وخطاياه.

تمد العرض في التأريخ وفي الجغرافيا، وتعدد بالذوات وكوّن صوراً أنتجت أفكاراً وحالات ومقامات ومواقف وحوارات وشخصيات وصراعات وفقاً لابنية جمالية جديدة غير مألوفة وفي تمرد تام عن السائد.

المصادر والمراجع

  • سعيد كريمي – مسرح القسوة والمسارح التجريبية الحديثة – دائرة الثقافة والاعلام – الشارقة ص 233.
  • سعيد كريمي – المرجع السابق نفسه ص 234.
  • عبدالكريم برشيد – المسرح التجريبي والمأثور الشعبي بين الفن والصناعة والعلم والايديولوجيا – مجلة فصول – المجلد الثالث عشر – العدد الرابع – شتاء 1995 ص20 .
  • سعيد كريمي – المرجع السابق نفسه ص7.
  • سعيد كريمي – المرجع السابق نفسه ص68.
  • أنظر ،سعيد كريمي – المرجع السابق نفسه ص93.
  • “كتاب الطبقات في خصوص الاولياء والصالحين والشعراء في السودان ” ، تأليف محمد النور بن ضيف الله ، حققه وعلق عليه وقدم له ، يوسف فضل ، ظهرت أولى طبعاته المحققة في يوليو 1971م ، يؤرخ الكتاب لطبقة الاولياء والصالحين والفقهاء في عصر الفونج ، لهو مرآة صادقة لحياة السودانيين الدينية والروحية والثقافية والاجتماعية وسجل صادق لمعتقداتهم الدينية في ذلك العصر ، ولقد سجل المؤلف ما تواتر من تلك الاخبار وما اشتهر دون أن يتعرض لها بالنقد والتعليق بل وقف من كل ذلك موقف الراوي الامين – حسب يوسف فضل حسن – في مقدمته للطبعة الثانية
  • عثمان جمال الدين – الفلكلور في المسرح السوداني – مؤسسة أروقة للثقافة والعلوم – الخرطوم –ص119.
  • علي مهدي – فرجة بين سنار وعيداب فرجة في شأن الحق والجمال – مجلة البقعة – اصدرات مهرجان أيام البقعة المسرحية – الدورة السادسة – العدد الاول – الاثنين 27 مارس 2006 ص6 .
  • أنظر، تقديم خالد المبارك لكتاب يوسف عيدابي – مسرح لعموم أهل السودان – المرجع السابق ص7.

محمد سامي / موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *