البؤساء”.. كوميديا استعراضية تمجّد العشق والمقاومة / شريف الشافعي

نشر / محمد سامي موقع الخشبة

كوميديا البؤساء مغامرة فنية على المسرح المصري، تحولت فيها رواية الفرنسي هوجو إلى عرض استعراضي ساخر.

التعامل المسرحي المعاصر مع نص كلاسيكي عالمي لا يعني استنساخه أو إعادة تقديمه بآليات مشابهة، ولا يشترط ضرورة الحفاظ على قوامه الأساسي وفكرته المحورية وشخصياته الفاعلة، ولا حتى ضرورة الإبقاء على تصنيفه إلى هزل أو جد.

العرض الجديد، ببساطة، عمل جديد، يجب النظر إليه بحيادية واستقلالية، والتناص أو التفاعل مع العمل الأصلي هو أحد خيوط البناء المستحدث، وليس البناء كله، من هذا المنطلق تأتي مسرحية “كوميديا البؤساء” التي تُعرض حاليا في القاهرة، وهي مستوحاة من رواية “البؤساء” للفرنسي فيكتور هوجو، دون أن تكون ترجمة مباشرة لأحداثها التاريخية، التي تختلف كثيرا عن الواقع المصري الراهن.

يَفْترض العرض الذي تقدّمه “فرقة المسرح الكوميدي” حاليا على مسرح “ميامي” بالقاهرة، أن المشاهدين الذين يطالعون العرض على دراية برواية فيكتور هوجو ذائعة الصيت “البؤساء”، لكن العرض المصري الجديد لا يُعنى في الوقت نفسه بأن ينخرط في التماهي مع أجواء وشخصيات وأحداث نص هوجو، إذ يأتي كل ما هو قديم كمجرد خلفية استلهامية.

مغامرة أن تتحوّل تراجيديا روائية بكائية إلى كوميديا استعراضية غنائية راقصة، ويصعد فيكتور هوجو، السارد وفيلسوف العدالة الاجتماعية، المسرح المصري بثوب ساخر على هذا النحو، كي يناقش بأسلوب هزلي أمورا وقضايا أخرى ألصق باللحظة الآنية، تتعلق بتمجيد العشق والأمل، ومقاومة الإحباط، والتمسك بالطاقة الإيجابية كشرارة مضيئة في أحلك الظروف.

كان الأحرى أن يصف صنّاع “كوميديا البؤساء” بقيادة الكاتبة والمخرجة مروة رضوان عملهم المسرحي بأنه مستوحى أو مستلهم من رواية فيكتور هوجو، بدلا من القول في مانفستو العمل إنه “مأخوذ” عن نص “البؤساء”، فأوجه الاختلاف بين العملين أكثر وأوسع نطاقا من نقاط التلاقي الجزئية المحدودة.

ترصد رواية “البؤساء” لفيكتور هوجو، المنشورة في عام 1862، ملامح الظلم الاجتماعي في فرنسا ما بين سقوط نابليون في 1815 والثورة الفاشلة على الملك لويس فيليب في 1832، وبحد قول هوجو في مقدّمة كتابه، فإن أجواء فرنسا وقوانينها خلّفت في ذلك الوقت جحيما بشريا، فصارت الرواية لازمة لمحاربة اللامبالاة ومقاومة الفقر على الأرض.

بطل الرواية هو جان فالجان، الذي يعاني الأمرّين في سجن قضى به 19 عاما، وفي واقع يتعامل بغلظة مع السجناء السابقين، أما تهمة جان التي سُجن بسببها في أواخر القرن الثامن عشر، فهي سرقته الخبز من أجل إطعام أخته وأطفالها الذين يتضوّرون جوعا، ومحاولاته المتكررة للهرب، وبعد خروجه يجد الحياة سجنا أكبر.

تغوص رواية هوجو في الفلسفة الاجتماعية للقانون، وتتولى تشريح الإنسان نفسيا وسلوكيا، مستقصية طبائع الخير والشر والقانون والأخلاق والعدالة والدين والرومانسية والمشاعر العائلية الدافئة، ومن خلال سلسلة من المآسي يخوضها البطل جان، الذي يتخفّى أيضا تحت اسم “مادلين” ويصير ثريا مالكا لأحد المصانع قبل أن يفتضح أمره، تتكشّف للقارئ سمات العوار الاجتماعي.

ومن هذه السمات، التي تقود إلى الهلاك لا محالة: الحط من قيمة الرجل وقدره باستغلال جهده، وإهالة التراب على كرامة المرأة بتعريضها للجوع، وتـقـزيم الطفل بفرض الجهل عليه.. هكذا يعم البؤس، وتتحول خطوات جان إلى مصارعة لطواحين الهواء.

معالجة مختلفة

سخرية من كل شيء (تصوير: محمـد حسنين)
سخرية من كل شيء (تصوير: محمـد حسنين)

ماذا عن العرض المسرحي “كوميديا البؤساء”، من إنتاج البيت الفني للمسرح، وبطولة: محمود عزت “جان”، ورنا سماحة “شيري”، وموسيقى محمد الصاوي، وديكور عمرو الأشرف، وأزياء نعيمة العجمي، واستعراضات رشا مجدي؟

تدور المسرحية، التي اختيرت ضمن عروض “المهرجان القومي للمسرح”، في فلك مغاير تماما، من حيث الفكرة، والشخصيات، وعناصر المسرحة، وطبيعة التعامل الدرامي مع النص.

المكان والزمان، في هذه المرة، يجسدان الواقع المصري الراهن، وإن لم تمعن الكاتبة والمخرجة في تأكيد ذلك، لرغبتها في إطلاق المسرحية خارج إطار المحلية، خصوصا أن الطرح العام إنساني في الأساس. وباستثناء جان، فإن أسماء الشخصيات مصرية (عبده، شيري، جميل، إلخ)، وملابسهم وهيئاتهم عصرية، كما أن لغة الحوار والأغنيات بالعامية المصرية.

وعلى مدار فصلين، منفصلين من غير ستار، مدة كل منهما ساعة، وفي ديكور واحد ثابت يتضمن المكان المحوري (الكافيه/ الكباريه)، ومكتبة وصيدلية بلا حضور مؤثر، تتحرك الأحداث المتنامية، حاملة مضمونا واضحا، هو أن المجد للعشق والأمل والطاقة الإيجابية، ولا مجال لليأس في هذه الحياة، ما دام هناك قلب ينبض بالمقاومة والعزيمة والحب.

بساطة الفكرة وإمكانية تطويعها لتلائم الواقع المصري المتعطش للمحبة والتسامح والتغلب على العنف والإحباط، دفعتا إلى ترويض هذه المعاني في حيز محدود من الشخصيات، التي ليست منها شخصية واحدة تنتسب إلى رواية هوجو سوى جان (مادلين أيضا، لكنْ هنا على سبيل الفكاهة).

ويعتمد العمل المصري على وعي الجمهور بالرواية، فمن ثم لا يستعيد العرض حكاية السجين جان إلاّ من خلال خلفيات سريعة على شاشة سينمائية، وبعض الحوارات والسرديات العابرة، ليفهم المشاهدون منها أن جان سجين سابق، يعاني من قسوة المجتمع، ويتطلع إلى حياة جديدة يسودها الدفء وتغمرها المحبة.

هذه الشاشة السينمائية، في الخلفية، تلعب دورا موازيا للأداء التمثيلي للفنانين، وعرضت مقتطفات من فيلمي “البؤساء” العالميين، المعروضين في 1944 و2012.

عيد البؤس

القالب المسرحي، في العرض المصري، كوميدي- استعراضي- غنائي، حيث تجري السخرية من كل شيء، حتى من البؤس ذاته، الذي يتم تخصيص عيد للاحتفال به، ويغني الجميع وهم يرقصون “عيد البؤس يا عيدنا.. على فين إنت واخدنا (إلى أين المصير)”، ويلتقطون صورة تذكارية “سيلفي العيد”.

حاضر ومستقبل جان في “كوميديا البؤساء” منحصران في تلك العلاقة العاطفية التي تربطه بشيري، فجان هنا هو العاشق الطموح، الذي يحارب كل المصاعب بالحب والأمل ومسامرة البشر على “الكافيه”، ويتمكن من امتلاك محلات لبيع الشموع الملونة “لعلها تنير الحياة”.

يتجاوز العقبات كلها، ومنها مشكلته مع الضرائب، ثم احتراق محلاته، وضياع حبيبته منه في المرة الأولى لتأخره في الإفصاح عن عشقه لها، بما أدى إلى زواجها من غريمه الانتهازي جميل، الذي يطلقها بعد حين، ويعيد جان اكتشاف ذاته، ويتغلب على مشكلاته، لأنه يسيطر جيدا على عقله الباطن، ويتزوج شيري التي يعترف لها بحبه بعد طول انتظار.

يحقّق جان أحلامه الكبرى بالقوة والإيمان، ومن حلم إلى آخر تلاحقه الأغنية الراقصة التي تؤديها الفتيات والشباب “أنا عاوزة أطير، وأنا هابقى (سأصبح) أمير، وأنا هابقى كبير، عالِم وأسيب (أترك) في الكون تأثير”.

“كوميديا البؤساء”، هي هدنة أو استراحة محارب في حياة جان، التقط فيها أنفاسه من معارك البؤس القديمة، ورفض خلالها هو وحبيبته النظر إلى المرآة، فتحديد العمر من وجهة نظرهما أمر سلبي، يحيل إلى التبدّد.

واتسمت أغنيات العمل واستعراضاته بالرشاقة، والمزج بين الرقصات الشرقية والغربية والحركات الأكروباتية البهلوانية الصعبة، بما يلائم طقوس السخرية وقفشات المهرجين والإفيهات المتناثرة على مدار العرض، بما يؤكد أن المراد بالبؤس هنا هو ضده، أي أن كوميديا البؤساء هي “محو البؤس” ورسم بداية سعيدة  للحياة.

يُحتسب للعرض كذلك استغراقه في تقصي التفاصيل الصغيرة، بحساسية في تصوير المشاعر الإنسانية في المشاهد الثنائية، خصوصا بين جان وشيري، والاستغناء عن الزائد من الكلام بالتعبير بلغة العيون والأداء الجسدي.

المسرحية ليست رهانا على أن “شر البلية ما يُضحك”، لكنها محاولة لتجاوز مطبات الأرض بمنطاد عجائبي اسمه الضحك، ووقوده اللانهائي هو الأمل.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *