الافتتان بصورة الزعيم المخلص يحول رعاياه إلى دمى – منى مرعي #مهرجان_لبنان_الوطني_للمسرح2

منذ المسرح الإغريقي إلى يومنا هذا تبقى الكوميديا من أهم الأنماط المسرحية، ورغم ما يراه بعضهم في حصرها داخل إطار التسلية والخفة وعدم الجدية، فإنها أبعد من ذلك بكثير، حيث يمكن للكوميديا أن تخوض في أهم القضايا الفلسفية والتاريخية والواقعية والجمالية وغيرها، كل ذلك من زاوية تبسيطية لكنها عميقة، يمكنها تفكيك أكثر القضايا تعقيدا ونقدها.

——————————–

ضمن فعاليات مهرجان لبنان الوطني للمسرح، قدّم المخرج هشام زين الدين العرض الأخير من مسرحيته “العبابيد” على خشبة مسرح المدينة في بيروت، حيث اشتغل فيها على نص عكف على كتابته منذ أعوام، مستندا إلى واقعة حقيقية حصلت في إحدى القرى اللبنانية عام 1992، وسبق للنص أن نشر حاملا عنوانا “زيارة السيد الوزير”، وقد نشر سابقا عن دار الفارابي عام 2007.

شخصيات حالمة

بعد سنوات عديدة، ينتقل نص زين الدين الكوميدي إلى فضاء المسرحة مصطحبا معه على الخشبة باقة من الممثلين الذين تميزوا بحرفيتهم في الأداء. وإن كان هنالك بعض الثغرات في العرض وفي مقاربة النص والمضمون، إلا أنه يحسب لكل من الممثلين ربيع أيوب، أمل طالب، هشام خداج، إدمون حداد براعتهم التمثيلية التي اعتمدت تقنية “البورليسك” والتضخيم، حيث تتحوّل تارةً مفاصل الممثل وتقاطيع جسده إلى دمية ضخمة تمتزج بتقنية المهرج أو الكلاون. إلى جانب الممثلين الأربعة، كوّن زين الدين دميتين مصنوعتين من قناعين، الأول ذكر والثاني أنثى، وكان لهما حضور طفيف ولكن أساسي في العرض.

الشخصيات في هذه المسرحية هي أولا وأخيرا دمى، حيث أن الافتتان بصورة الزعيم بصفته المخلص الأوحد قد حول كل من عبدو، عبيد وعبيدة إلى دمى. نحن إذا أمام قرية العبابيد التي تصاب بصدمة لدى وصول الوزير إلى منزل عبدو، ولدى استعماله الحمام الخاص لعبدو لقضاء حاجته، قبل أن يخرج ويكمل طريقه.

يحوّل سكان قرية العبابيد هذا الحدث وفعل قضاء الحاجة تحديداً إلى فعلٍ فيه من القداسة ما يستدعي الكثير من الآمال والأحلام. وإذ بعبدو (ربيع أيوب) يحلم أن يتم توظيفه في بيروت، وأن يتمكن من بناء عائلة بينما تتمنى عبيدة (أمل طالب) أخت عبدو أن تحبل وأن تنجب من عبيد، التي كانت تعتبره غير نافع إلا للكلام، وعبيد (هشام خداج) يحلم أن ينضم في “الجندرما”. وحده عبودي (إدمون حداد)، مجنون القرية، يصاب بالشكوك تجاه هذه الزعيم معتمدا السخرية من كل الحدث الأمر الذي يؤدي إلى طرده من القرية.

تتمحور حبكة العرض حول انمساح الجماعة أمام صورة الزعيم وابتداع الأوهام إلى أن تأتي الصدمة في نهاية العرض. كل تفاصيل الحكاية تتم بقالبٍ كوميدي منذ المشهد الأول حيث ينسلخ الممثلون على وقع موسيقى زياد الأحمدية عن حبل الغسيل ويتقدمون إلى الجمهور ويقفون كما لو أنهم يشكلون صورة تذكارية عابقة بالاندهاش والانبهار، وإذ بالأحداث تتوالى مستحضرةً مواقف مضحكة وبالغة في طرافتها.

الدقة لا تكفي

يُحسَب لزين الدين أنه اشتغل على أصغر التفاصيل الأدائية: كل حركة مدروسة بعناية ولها دلالتها ولها رد فعل يقابلها من الممثل الآخر. ولعل أكثر اللحظات إضحاكا في العرض هي اللحظات الصامتة التي بنيت على “جستوس” بسيط مينيمالي، وسط ضخامة أداء الغروتسك. نادرون هم المخرجون الذين يخاطرون بالاشتغال على لحظات الصمت بتلك الدقة التي تبتعد عن الكليشيهات في الكوميديا.

تخلّلت العرض بعض الثغرات، إذ لم يعطِ حضور الدميتين أي قيمة مضافة على العرض: هاتان الدميتان اللتان شكلتا بشكل أو بآخر الأنا الأعلى في نهاية العرض اقتصر دورهما على بعض الجمل الوعظية أو
التي تتماهى وتذوب في كلام مجموعة العبابيد.

وبالرغم من كثافة المواقف الهزلية والمضحكة، إلا أنّ النص لم يخرج من ظاهرية الحبكة التي وضعها في بداية العرض والتي حصرت عناصر الحكاية بالأحلام المذكورة، دون الذهاب بها إلى ما هو أبعد، ودون أن تتطور في سياق العرض إلى لحظات تصيب المشاهد بمزيدٍ من الدهشة. كما لم تخلُ بعض الحوارات من الكليشيهات.

أما مشاهد الدبكة والطبلة على سبيل المثال فبدت باهتة إذا ما قورنت بالاشتغال الدقيق للمخرج على أداء ممثليه. وهذا الاشتغال الدقيق الذي يدل عن حرفة ومهارة يتشاركها كل من المخرج والممثلين -بالرغم من قدرته على إدهاشنا كمشاهدين- بقي على النمط ذاته في الأداء طوال العرض، فتحولت تلك الحرفة لغياب عنصر المفاجأة المضاميني والأدائي فيها إلى تقنية فائقة الإتقان ولكنها مونوتونية.

هذا ما يفسر مثلاً، كيف ومتى تولعت الضحكات في الصالة: كان ذلك إما في لحظات الصمت وإما في اللحظات التي تمّ كسر فيه هذا النمط في الأداء، الذي يعتمد على تضخيم حركي مرفق بتضخيم في سمات الوجه وفي الصوت مع غنائية في الأداء. وكان أداء ربيع أيوب في هذا السياق لافتا ومن المنصف جدا القول إن ما يُحسب لمسرحية “العبابيد”، بالإضافة إلى احتضانها أسماء محترفة ومعروفة في عالم الكوميديا اللبنانية كأمل طالب وهشام خداج وإدمون حداد، هو المفاجأة الحقيقية التي كانت في العرض وهي هذا الوجه الجديد والواعد الذي تميز به في أدائه.

 

شاهد أيضاً

“أصل الحكاية” يتربع على عرش مهرجان لبنان للمسرح #لبنان