الازدواجية الثقافية في المسرح الغربي مسرحية أرلوك نموذجا – محمد سيف

 

قبل فترة ليست بالبعيدة، شاهدت على خشبة مسرح “لا كولين” في العاصمة الفرنسية باريس، عرضا مسرحيا يعالج موضوعه إشكالية “الآخر”، وذلك من خلال شخصية شاب أفريقي اندلعت الحرب في بلاده فاضطر للهرب شأنه شأن الكثير من سكان المدن والعواصم ذات الحروب الدائمة. ولكن المفارقة الدرامية في هذا العرض، تكمن في الكيفية التي هرب فيها من بلاده مختبئا في احدى الحقائب العائدة إلى مسافرين “زوج وزوجة” بلجيكيين، كانا في زيارة سياحية لبلاده، وعندما دقت طبول الحرب فيها، قررا ان يعودا من حيث ما جاءا، بترك المستعرة الأفريقية والتوجه إلى بلادهما الأمنة، ولكن قبل ان يشمعا الخيط مثلما نقول في الدارجة العراقية، ويطلقا أقدامهما للريح، قاما بجولة في السوق واشتريا ما لذّ وطاب لهم من التحف والتماثيل الأفريقية بأرخص الأسعار وأدناها قيمة، وذلك من اجل تزيين صالون الضيوف والتباهي بها. وبعد تأخر طويل في المطار وقلق وتوتر زادت من حدته أصوات القذائف والمدافع والهلع البادي على وجوه الناس التي راحت تركض في كل الجهات، وصلت الطائرة المتأخرة أخيرا وأقلت المسافرين إلى بر الأمان. ولما وصلت الزوجة بيتها الهادئ السعيد، بدأت بفتح حقائبها وتفحص تحفها وتماثيلها الأفريقية التي وضعتها فيها بعناية فائقة. وهكذا، وهي غارقة في فتح حقائبها الواحدة تلو الأخرى، اتجهت نحو الحقيبة الكبيرة التي بدت لها منذ الوهلة الأولى، ثقيلة بشكل غريب مبالغ فيه، وهذا مما اضطرها بالاستعانة بزوجها لفتح الحقيبة. وفي غمرة السعادة والقهقهة المتعالية من قبل الزوجين، يفتحان الحقيبة بعد جهد جهيد، ثم تقع المفاجئة، عندما يجدان بدلا من تمثال الخشب انسانا من لحم ودم. وهنا تبدو المفارقة المسرحية التي يختلف الزوجان بسببها. فالزوج “ليون راب” يريد تسليم هذا التمثال/الإنسان من اللحم والدم إلى الجهات المسؤولة خوفا من المصاعب التي سوف يتكبدها تاجر صغير من جراء اصطحاب وإيواء أفريقي غير مصرح به، في حين ان الزوجة “جين”، تصر على ضرورة الاحتفاظ به، والعمل على مساعدته، وذلك للحصول على أوراق رسمية تسمح له بالبقاء على الأراضي البلجيكية. وبين الرفض والقبول وتدخل الابنة الصغيرة “جيزل” التي تقع في حبال حب الشاب الأفريقي “أرلوك”، يرضخ الزوج لرغبة زوجته وابنته.
ولكن يبقى سؤال محير يؤرقهم: كيف يمكن الإجابة على الأسئلة التي سوف يطرحها المجتمع عند رؤية الغريب؟ وانطلاقا من هذه الحيرة العائلية المشتركة، تتساءل المسرحية بدورها بكيفية درامية، اجتماعية، سياسية، عن الطرق والصيغ الحديثة التي ينظر فيها المجتمع الغربي إلى الأخر الغريب؛ تتساءل عن مدى تطور هذا الأخير في العقلية الأوربية، كيف كان ينظر اليه بالأمس وكيف صار ينظر اليه اليوم؟
إن أول ما ادهشني في هذا العرض، هو حداثته التي تحاول اللحاق بعجلة الزمن، من خلال نمط الوعي الذي يكابر ويقاوم من اجل الانتصار على حالة اليأس، فهو لا يتحدث عن الماضي والحاضر فقط، وعن اللاتسامح، وعن بعض أشكال العنصرية، وإنما عن موضوع الساعة الأكثر اشتعالا، مثلما يتحدث وبشكل واسع وعميق عن غريب في المدينة، عن ظاهرة اجتماعية وعالمية تعرض لها ويتعرض لها الكثير من البشر، في الكونغو، البوسنة، العراق، سوريا واليمن وإلى أخره من الذين تركوا أوطانهم مكرهين مرغمين بسبب الحروب العرقية والجوع والدكتاتوريات الأبدية، بحثا عن حياة افضل في مكان أخر غير مؤكد، لا يعرفون فيما اذا سيستقبلون فيه أم لا ؟
ولكن الذي ادهشني اكثر فأكثر في هذا العرض الجميل، والمتقن إلى حد كبير، هو ان خشبة المسرح التي اتسعت لعشرة ممثلين كانوا جميعهم من البيض، لم تتسع لممثل أفريقي واحد، علما ان المسرحية تدور وتحكي قصة أرلوك، ذلك الشاب الأفريقي الصغير الذي وعد جده ذات يوم بأنه سوف يترك بلاده الغارقة في جحيم الحروب الأهلية، ويهاجر إلى أوربا من اجل ان ينشر ويبث تاريخ بلاده المشرفة على الموت!
إن طرح المسألة هنا وبهذه الطريقة قد يثير العديد من الأسئلة والأجوبة، لا سيما نحن نعرف ان توزيع الشخصيات في أي مشروع مسرحي، يعود بالدرجة الأساس إلى شخص واحد، وهو المخرج، سواء كانت الشخصية رجل ابيض، أسود، رجل أو امرأة، فهي في نهاية المطاف إنسان، أي، ممثل أو ممثلة، وهو بحكم عمله كممثل، قادر على جعلنا نعتقد بكل شيء، وخاصة ما هو مخالف لشخصيته الحقيقية. أي في المسرح يجوز للممثل أن يلعب أي دور من الأدوار مهما كانت مواصفاته، : مثلما يمكن للمرأة ان تلعب دور رجل، صغير أو كبير، يوناني أو سويدي، ابيض أو زنجي، كل هذا يعتبر إثراء للمسرح ويحمل تفسيرات استثنائية نسبية من شانها أن تجمل المسرح نفسه. فالممثل يمكن أن يلعب كل شيء. وهنا يتساءل المخرج الفرنسي جورج لافودانت: “ إذا كان بالإمكان أن يلعب رجل أبيض شخصية “عزيز” في مسرحية “العودة إلى الصحراء”، لبرنارد ماري كولتس، فلماذا لا تلعب شخصية “مارثا” من قبل امرأة صينية وتلعب شخصية “ماثيو” من قبل فتاة …؟ وستكون هذه بادرة مفرطة ولكنها قابلة للقراءة” ؟ ويجيب على تساؤلاته هذه بشكل ساخر بعض الشيء: ولكن من باب الصدفة ان يتم التضحية بدور العربي دائما! مثلما تم التضحية من باب الصدفة أيضا في مسرحية “ أرلوك”! وإلا ما الذي يمنع من ان يلعب دور الشاب الأفريقي أرلوك، ممثل إفريقي، بدلا من ممثل ابيض؟
إن الممثل على الخشبة، وفقا لـبرنارد ماري كولتس، لشخصياته، هو جسد حتى قبل اللعب، إنه يعرضه كجسد: يقدم مظهرا خارجيا مبهما، غير قابل للعب، موجود على الخشبة مسبقا؛ مظهر موجود خارج اللعب، يوجه للمتفرج من خلاله، حمولات، ثقافية، اجتماعية، تقاليدية، وسياسية فورية.
إن كل ثقافة بمثابة “رحلة طويلة” تتخذ مسارات متعددة، وتعمل مباشرة على تحويل نظرة أولئك الذين ينظرون إليها، من خلال تحولها وانصهارها في بوتقة الأماكن التي تستقبلها. والمسرح كما نعلم كان مسافرا دائما وأبدا، إنه في رحلة مستمرة نحو الآخر، المتفرج المحلي أو الأجنبي، وإن كل مرحلة من مراحل تاريخه، قد بنيت على الاضطراب، والتحدي، والانفتاحات التي خلقتها رحلات الممثلين، والفرق. ولقد شهد القرن العشرون العديد من الرحلات والتبادل الثقافي من خلال الجولات الدولية لهذه الفرقة أو تلك، وقد اثر كل هذا على مهنة المسرح وتنقلاته تأثيرا مضاعفا، من خلال الالتقاء الفني الذي يحدث بين ثقافتين وطنيتين، غريبتين عن بعضهما البعض، غالبا ما تكون الأولى مصدرا، والثانية هدفا، مثل عمل الترجمة من لغة لأخرى. وإن نقل الثقافة “الأصل”، غالبا ما يتسبب في أحداث ظواهر تحدي واعتراض وتأثير يعزز من هويتها الخاصة، ويحط أو يثري علاقتها مع الثقافة الأخرى، الذي يفسره التعليق عليها، سواء كان ذلك خصبا أو عقيما، من خلال عامل التبني لجزء منها. إن نماذج “نقل الثقافة” هذه، بغض النظر عن التبادل والتأثير، فهي عديدة، مثلما يقول باتريس بافيس، ويمكن تلخيصها بالتكيف، التشويه، التعديل، التقليد، النقل، الاستيعاب، الاقتراض، الاقتباس، الكولاج، التطعيم، التغيير، التهجين، والتفاعل. إنها تنقل الفكرة التي تجعل كلا الثقافتين تكونان شريكتان لبعضهما البعض، بتشجيعهما على إقامة التعاون الوثيق بينهما.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *