‘الإنسان الطيب’ تجاوز المسرح التقليدي ليقدم حالة تفاعلية

أجواء روحانية خاصة كست حضور عرض “الإنسان الطيب” المسرحي الذي بدأ عرضه مؤخرا على مسرح “الطليعة” بالعاصمة المصرية القاهرة، ارتقت بالعمل الفني من طقوس المسرح التقليدي إلى حالة تفاعلية أدخلت المشاهدين ضمن الأحداث الدرامية.
ساعد تصميم المسرح في العرض المصري “الإنسان الطيب” على إضفاء أجواء روحانية على كل من حظر المسرحية على خشبة “الطليعة” القاهرية، وهو عبارة عن قاعة مستطيلة الشكل تضم مقاعد محدودة وزعت على الجانبين من اليمين واليسار، بينما ترك طرفا القاعة الأمامي والخلفي لأبطال العرض يهرولون عبرهما بين كل لوحة وأخرى.
وتم توظيف الحوار لتعزيز القالب الغنائي الذي غلب عليه، فالكلمات والجمل الصريحة لا تتجاوز مشهدا كاملا على أقصى تقدير، بينما بقية العرض تدور في قالب موسيقي غلب على مقاطعه الغناء الأوبرالي.
 
 
نقيضان
 
في خلفية القاعة صور بخلفية سوداء معلقة على الجدران وعليها رسوم باللون الأبيض تصور جماجم وهياكل عظمية، ووسائل تكنولوجية في تعبير عن الحياة الصاخبة التي تحيط بنا وتحاصرنا، وأمام كل صورة نجد ستارة بيضاء.
 
بنفس التكوين نشاهد الشخوص في العرض، حيث “الإنسان الطيب” أو الإنسانة التي تتوسط القاعة وترتدي فستانا أبيض اللون، وهو الدور الذي لعبته نجلاء يونس عازفة الكمان.
 
ورغم أنها تحملت جزءا كبيرا من المخاطرة في هذا العمل باعتباره التجربة التمثيلية الأولى لها، إلاّ أنها نجحت في تجسيد الدور الرئيسي في العرض، وأمتعت بقدراتها في الغناء الأوبرالي ممزوجة بشكل الرقص المسرحي الحديث.
 
في أحد طرفي القاعة برزت المجموعة الأعظم من الممثلين، والذين كانوا يرتدون ملابس سوداء تغطي أجسامهم كاملة حتى الرأس، تعبيرا عن الصراع الذي يحيط بالإنسان، في دلالة على وجود نموذج الإنسان القويم، صاحب الفضيلة وسط هذا المجتمع المضلل.
 
على الطرف الآخر ثلاث فتيات يرتدين فساتين بيضاء مثل بطلة العرض، للإشارة إلى خط الصراع بين النقاء الداخلي الذي يحمله الإنسان والكثير من الأمور العكسية التي تلازم مجتمعه.
 
العرض حفل بالرمزيات والدلالات لتهيئة المشاهدين لدخول الحالة الصوفية التي أرادها مخرج العمل
مخرج العرض يطارد الكثير من القضايا المجتمعية المعاصرة والتي يعبر عنها بالشكل الرمزي المتمثل في تكوين حركي أو بالشكل الغنائي الأوبرالي، لكنه نجح في إيصال الفكرة والإحساس بها في كل مرة.
 
فقد تفاعل الجمهور مع مختلف القضايا، بداية من الاغتصاب، ثم الانسياق وراء رجال الدين الذين لا يفقهون شيئا، أو الصخب التكنولوجي المهيمن على حياة البشر، والانجذاب الزائد نحو مواقع التواصل الاجتماعي، وأصحاب النفوذ المالي.
 
 
فلسفة رمزية
 
طوال العرض نشاهد محاولات الإنسان الطيب للخروج من هذا العالم الذي تغلب عليه القوة، وفجأة بعد صراعات عدة وبين “الآهات” التي يبعثها هذا الإنسان تنسدل الستائر البيضاء الموجودة في خلفية المقاعد لتغطي اللوحات السوداء التي تمثل هذا الصراع الإنساني.
 
ويخرج من بين فراغات اللوحات الأشخاص الذين كانوا يمثلون الكتلة السوداء الأكبر من العرض، وهم يرتدون ملابس غلب عليها النقاء بين اللبني السماوي، والأصفر، ويحملون في أياديهم مباخر تبث عطرا سحريا، وصحونا صغيرة مليئة بماء الورد، وتمر فتيات يرتدين باقات من الورود ويحملن سلالا مليئة به على المقاعد، فتلقي كل منهن حفنة منه في يد كل مشاهد بما يهيئهم للحالة الصوفية التي يريد مخرج العرض الوصول إليها.
 
حرفية المخرج تتجلى في إخضاع المشاهد للحالة التي هيأه لها تدريجيا والتي تصل ذروتها في صوت الموسيقى، الذي يرتفع تدريجيا بعدما يعزف الأبطال على آلاتهم التي تكلل هذه الحالة من الهدوء والصفاء الروحي.
 
يكمن ذكاء المخرج في نقل المشاهد من الحالة الصاخبة المحملة بالصراع الإنساني إلى حالة مناقضة غارقة في التصوف الروحاني دون أن يربكه، لكن يكمن المأخذ على المخرج هنا في تطويل المشهد. وقد دلل المخرج في ختام العرض على المعنى الذي سعى إليه بثبات الفتيات الثلاث اللائي يرمزن للخير في وقوفهن مع الإنسان الطيب، حتى وإن كان الخصم يملك أغلبية وقوة أكبر ممثلة في أصحاب الملابس السوداء الذين يرمزون للشر.
 
الفلسفة التي يحملها عرض “الإنسان الطيب” ربما لاقت نجاحا بسبب الرمزية التي غلبت على مشاهده، وكانت سببا في تأكيد أنه عمل مختلف، خصوصا أن مثل هذه الأفكار لا تحتاج بالفعل إلى لغة حوارية بقدر ما تتطلب حالة من السمو العقلي والروحاني.
 
جميع الأبطال في العرض، وهم من شباب المعهد العالي للفنون المسرحية وطلبة كلية التربية الموسيقية، أجادوا أداء أدوارهم، وتميزوا بأنهم جمعوا بين موهبتي العزف والغناء والتمثيل، حيث يمتلك الكثير منهم أصواتا عذبة.
 
نجلاء يونس التي جسدت شخصية “الإنسان الطيب” استطاعت أن تعبر بملامح وجهها عن رسالة العرض، كما تميزت بقدرتها على إيصال رسالتها عبر صوتها الأوبرالي القوي، ومهاراتها في الرقص الحديث ما حوّل دورها إلى أداء ملحمي.
 
الديكور كان أقل من مستوى العرض، لكن هذا قد يكون مقصودا حتى لا يضيع تركيز المشاهد في الانبهار بالتفاصيل المكملة على الهدف الرئيسي من العمل.
 
نفس الملحوظة تنطبق على الملابس، فقد اتشحت المجموعة الأعظم من الأبطال بارتداء الأسود تعبيرا عن حالة الصراع المجتمعي المحيطة بالإنسان، وهي مبالغة في القتامة، لا سيما أن الواقع ليس أسود في مجمله.
 
هناك أمور عادية، مثل الوسائل التكنولوجية أو مواقع التواصل، تحمل صخبا، لذلك كان من الممكن على سبيل المثال إدخال ملابس مزركشة أو ذات ألوان فاقعة لتصف الحالة دون أن تجعلها جميعا متشحة بالسواد.
 
موسيقى العرض حملت إيقاعا متناغما مع أحداثها وتفاصيلها، أضفى عليه مصداقية وروحانية مقصودة، والأبطال هم من عبروا عن هذه الحالة بآلاتهم الموسيقية، ما جعلهم أكثر إحساسا وإيمانا بأفكار العرض.
———————————————————–
المصدر : مجلة الفنون المسرحية -سارة محمد – العرب

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *