الأوكراني ترويتسكي يقحم المتفرج في تجربة مخيفة في ‘بيت الكلاب’

 

بوبكر العيادي

كيف يقارب الفن المسرحي واقعا مأزوما، يُسحق فيه الإنسان، ويُعامل معاملة تَسلب إنسانيته وتُرديه إلى درك وضيع؟ وكيف ينقل أحاسيس الفرد المضطهد في بلاده بأيدي بني قومه للمتفرج، ويحمله على مشاطرته معاناته؟ وأيّ شكل درامي يتخير؟ تلك رهانات مسرحية تجريبية مرعبة حاول المخرج الأوكراني فلاد ترويتسكي خوضها في “بيت الكلاب” التي عرضت مؤخرا في مسرح بلفور بباريس.

مسرحية “بيت الكلاب” من تأليف الشاعر والمسرحي كليم، الذي اعتاد التعامل مع فرقة “داخ” بكييف، وقد كتبها على مرحلتين: الأولى قبل اعتصام “ميدان” الذي قتل خلاله نحو مئة مواطن أوكراني، والثانية بعد فرار الرئيس المخلوع فكتور يانوكوفيتش.

وفيها يزاوج بين أسطورة أوديب ومعتقلات “الغولاغ” الرهيبة، لتصوير الحال التي يتردّى إليها الإنسان في الأنظمة الشمولية. هي رحلة في أشدّ عوالم المعتقلات الجماعية رعبا، جحيم يخضع فيه الإنسان للعنف ويتشبث بالبقاء والخوف يعتصر أمعاءه، موزعا بين أمل الانعتاق والخوف من موت بطيء.

وقد حرص المخرج الأوكراني فلاد ترويتسكي على المزج بين الأداء الركحي والكوريغرافيا والموسيقى، ليجسد تجربة جمالية، تقوم على عناصر اصطناعية، وهو أسلوب متجذر في الثقافة الأوكرانية.

يبدأ العرض بصعود المتفرجين مدارج حديدية ليتحلقوا في فضاء معتّم حول قفص من حديد، ينظرون من فوق إلى الممثلين وقد حشروا كالسباع في الميثولوجيا الرومانية، أو المعذبين في جحيم دانتي.

هذه الوضعية الفوقية تربك المتفرج، لأنها تقحمه رغما عنه في هيئة من يتلصص على غيره دون علمه، أو يتنصت عليه، وتثير في نفسه ضيقا غريبا، فما يتوصل لرؤيته ليس أكثر من اكتظاظ أجساد منهكة لرجال ونساء يتحركون بصعوبة وظهورهم محنية، وسط همهمة وأنين يقطعهما بين الحين والآخر زعيق صوت آمر لسجان يلوّح بمقمعة.

تكمن قوة المسرحية في إشراك المتفرج عبر الإعداد الركحي العنيف في عملية تأمل لا مفر منها لكل نفس تائقة إلى الحرية

مشهد يلهب مخيلة المتفرج ليتصور ما يجري في ما يحيل عليه ذلك الفضاء المغلق، ذي المساحة المحدودة، من عذاب وآلام لفئة ضعيفة خاضعة لإرادة القوي في الأنظمة التوتاليتارية.

أحيانا ينتأ إنشاد جماعي لأغان تقليدية تذكر بالجذور والأصول، وسط نشيدين سمجين يشيران إلى ثورة الأوكرانيين المجهضة، قبل أن يقبل المساجين على تحويل أرغفة تلقى إليهم لسدّ الرمق إلى ورود يفترشونها وينامون، كإشارة إلى ضحايا “ميدان”.

ويودّ المتفرج لحظتها لو يكتفي بهذا القدر. ولكنه يفاجأ بأن ثمة جزءا ثانيا يطالب فيه بتغيير موضعه الفوقي، الذي سوف يشغله الممثلون، إلى موضع تحتي، داخل القفص، ليعيش بدوره ما عاشه المساجين الذين سبقوه، في عملية تبادل أدوار مرعبة.

ويغص القفص المغلق بمتفرجين محنيي الهامة هم أيضا، يتحركون بصعوبة، ويسمعون في الظلمة أصواتا تأتيهم من فوق، وعويل نسوة، وأناشيد دينية لقساوسة يتبدّون في ومضات ضوء خاطفة وهم يرفعون ابتهالات لرب ما عاد يسمع ضراعة المتضرّعين. وكأن قدر المسحوقين عذاب وأنين قبل أن يموتوا ميتة الكلاب.

أحيانا ينتأ إنشاد جماعي لأغان تقليدية تذكر بالجذور والأصول، وسط نشيدين سمجين يشيران إلى ثورة الأوكرانيين المجهضة

في ذلك القفص الشبيه بالحفرة أو القبر الجماعي، ينتاب المتفرجين، وهم يسمعون البكاء والعويل، ويستشعرون مدى الألم الذي تبثه تلك الأناشيد الدينية الحزينة، نوع من التضامن مع مسلوبي الإرادة، ويدركون معنى أن يكون الإنسان حرا، وأن حريتهم التي ينعمون بها لا تصمد أمام القضبان التي يصطدمون بها، إذا ما ابتلوا بحكم جائر.

فيغوصون هم أيضا، رغما عنهم، في عالم المعتقلات، ليعيشوا من الداخل ما يسلط فيه من عنف، حيث لا يفتأ الكابو، حارس مساجين الأشغال الشاقة، يطرق القضبان بمقمعة من حديد وهو يزعق لترهيبهم وحملهم على طاعته والخضوع لأوامره، كأن يأكلوا في جفان وسخة وهم باركون على أربع.

أولئك المقموعون، رجالا ونساء، يذكرون لا محالة بشخوص فرلام شالاموف في “حكايات كوليما”، ولكنهم يذكرون أكثر بما ورد في “الذي لا يسمّى” لصامويل بيكيت، فما هم سوى “حيوانات وُلدت في قفص من حيوانات وُلدت وماتت في قفص من حيوانات وُلدت وماتت في قفص”، فالغولاغ حالة ذهنية بالدرجة الأولى، تسحق الإنسان وتفقده آدميته.

مشهد يلهب مخيلة المتفرج ليتصور ما يجري في ما يحيل عليه ذلك الفضاء المغلق، ذي المساحة المحدودة، من عذاب وآلام لفئة ضعيفة

ورغم ملمحها التجريبي تنهل مسرحية ترويتسكي من سوفوكليس قضية كونية تتجاوز إشكالية أوكرانيا لتشمل وضع الإنسان واضطهاده، وتدين من خلال ذلك كل منظومة قمعية، سياسية كانت أم دينية، وتطرح مسألة حرية الفرد.

مسرحية ملتزمة في شكل جديد تدفع المتفرج إلى الانخراط بدوره في ما تطرحه، ليكون شاهدا على تراجيديا قد يكون طرفا فيها إذا ما استسلم للمقادير تجرفه كيفما شاءت.

وقوة العرض لا تكمن فقط في فضح المأساة والتنديد بها، وإنما تكمن أيضا في إشراك المتفرج عبر ذلك الإعداد الركحي الجريء والعنيف في عملية تأمّل لا مفرّ منها لكل نفس تائقة إلى الحرية.

يقول ترويتسكي “هذا العرض هو طريقة لطرح السؤال التالي: من نحن وماذا نريد؟ لقد مررنا قبل تمرّد “ميدان” في مطلع العام 2014 بمرحلة “سوفيتية” حيث عمّ التواكل وانتظار المعونـة من الدولة، كطرف وحيد لحل مشكلاتنا.

اليوم نمر بمرحلة صعبة، ولكن بإحساس قوي بأن كل شيء مرهون بإرادتنا نحن، وأن أقدارنا بأيدينا لا بأيدي غيرنا. صحيح أنه أمر عسير، ولكنه محفزّ وباعث على الأمل”.

———————————————————-

المصدر : مجلة الفنون المسرحية –  العرب 

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *