«الأم شجاعة» … أعيدت كتابتها لتلائم آراء رغدة

يسري حسان

في «الأم شجاعة»، أو «الأم كوراج»، النص الأشهر للألماني برتولت بريخت، تستقل البطلة عربتها ومعها أولادها الثلاثة متنقلة بين معسكرات الجنود تبيع لهم وتشتري منهم. في «الأم شجاعة» العرض الذي يقدمه البيت الفني للمسرح المصري، تستقل الممثلة رغدة، ليس العربة فحسب، بل العرض نفسه بما فيه ومن فيه، لتعكس وجهة نظرها في الصراع الدائر الآن على الأراضي السورية، مكتفية بسطح الأشياء من دون الولوج – متعمدة – إلى الجوهر أو أصل الصراع وسببه. رغدة ليست كاتبة نص العرض، ولا بريخت نفسه، كاتبه هو المخرج محمد عمر الذي قام، في ما يبدو، بتفصيله ليناسب مقاس البطلة وموقفها من النظام السوري الذي هي حرة فيه بالتأكيد. لكن هذه الحرية عليها أن تتعطل على الخشبة مفسحة المجال للموضوعية، خصوصاً أن العرض يتماس مع مشهد دائر أمامنا الآن ونعرف تفاصيله ولن ترضينا أو تقنعنا فكرة الانتقاء التي تمَّ اللجوء إليها، بخاصة أنها غيَّبت العنصر الأساسي في الصراع أو الصانع الرئيسي له.
ثمة مصطلح يتداوله المخرجون في مصر وهو «مسرح النجم»، المقصود به ذلك المسرح الذي يتخلي فيه المخرج، تقريباً، عن عجلة القيادة تاركاً أمرها للنجم يوجهها كيفما شاء، يتدخل في كتابة النص ومساحة الأدوار وربما في الأزياء والديكور والإضاءة، ويكون كريماً لو لم يحدد نوعية الجمهور الذي يجب أن يشاهد عرضه. فيما يكتفي المخرج بالفرجة وتدوين اسمه على الأفيش كصانع للعرض. بريخت الذي اكتوى بنيران النازية وفرَّ من بلاده إلى سويسرا، مع غيره من كتاب ومثقفي ألمانيا، كتب هذا النص في العام 1939، وكعادة مسرحه الملحمي ابتعد عن لحظته الآنية وتناول أحداثه خلال فترة الحروب الدينية في أوروبا والصراع بين البروتستانت والكاثوليك في الفترة من 1624 إلى 1663، مصوراً بشاعات الحرب ومآسيها من خلال تلك الأم التي تعتبر الحرب تجارتها الرائجة وتتجول بعربتها بين معسكرات الجنود تبيع لهم وتشتري منهم، وتفقد أبناءها الثلاثة واحداً إثر الآخر من دون أن يرف لها جفن. شخصيات النص كلها غير سوية ولا تدعو إلى التعاطف معها، لذلك فقد اعتمد منهج بريخت على عدم اندماج الممثلين في شخصياتهم ليجعل المشاهد يركز أكثر في القضية المطروحة أمامه، حتى إنه عندما عاد إلى ألمانيا قدَّم العرض وأسند بطولته لزوجته، وحينما لاحظ تعاطف الجمهور معها قام بتعديل النص ليحقق غايته التي سعى إليها.
إبعاد الديكتاتور
في العرض المصري تدخَّل المخرج في النص، ليس على خطى بريخت وإنما وفق رغبة بطلته ليصور الصراع الدائر في سورية الآن باعتباره فقط صراعاً بين المذاهب الدينية تغذيه الولايات المتحدة من دون أن يتعرض أبداً لجذور المأساة وصانعها، وهو الحكم الديكتاتوري، وليقدم إجابات، على عكس غاية الفن الذي يسعى إلى طرح الأسئلة. فأنت تخرج من العرض من دون سؤال وقد قدم لك المخرج إجابات تبدو شبه يقينية لتذهب إلى بيتك وتنام آمناً مطمئناً وقد أُعفيتَ شرَّ التفكير والتساؤل.
ملامح باهتة
احتفظ المخرج بملامح باهتة من بريخت، فلا ديكور تقريباً، والملابس أقرب إلى الأسمال، والإضاءة أقرب إلى الإنارة، وأداء بعض الممثلين خارجي من دون تعمق في الشخصية، باستثناء البطلة التي، كما ضربت غايةَ النص في مقتل، ضربت أيضاً منهج كاتبه الأصلي باستغراقها في الشخصية إلى حد التوحد.
منذ البداية يسلم لك العرض نفسه، لا يمنحك فرصة إعمال الخيال، فرغدة في ملابسها تحيلك فوراً إلى أميركا، لا شيء على المسرح يتم جلبه مجاناً، الملابس والموسيقى والإضاءة والحركة والإكسسوار، وبالتالي فكل ما ترتديه البطلة يدخل ضمن الوسائل التي تعينك على فهم العرض وطبيعة الشخصية. ففضلاً عن القبعة وملابس الكاوبوي كان ثمة استيريتش شفاف على ساقي رغدة يظهرهما كما لو كانا موشومين لتتأكد أن التي أمامك هي أميركا بشحمها ولحمها ووشمها. انتهى الأمر إذاً منذ البداية وتلقيتَ الرسالة مبكراً، ومفادها أن من يغذي الصراع في المنطقة هي تلك السيدة «أميركا» التي يمسها الحزن كلما لاحت بوادر سلام، فالحرب، بالنسبة إليها تعني التجارة والمكسب الوفير. نعم أميركا تلعب هذا الدور ولكن ماذا عن الآخرين الذين أتاحوا لها تلك المساحة، أعني الحكام قاهري شعوبهم. لماذا تم تغييبهم وكأنهم ملائكة أطهار، أو كأنهم خارج المشهد تماماً في حين أنهم صناعه ومحركوه؟
لم يكن ممكناً أن ينفي المخرج نص بريخت تماماً، فما يدور أمامنا على الخشبة هو صراع مذهبي بين طوائف عدة من دون تحديد مكان أو زمان أو حتى دين بعينه، لكن ثمة شاشة سينما احتلت البانوراما الخلفية تعرض صوراً للقتال الدائر في سورية والدمار الذي باتت عليه، ليجبرك المخرج على تضييق مساحة التأمل وتتعامل وكأنك في سورية الآن وليس في مكان وزمان مجردين.
وحتى هذه لا بأس بها ولكن أين عناصر الصراع جميعاً وكيف نتجاهل طرفاً أساسياً لمجرد أن جلبه ربما لا يحقق غرض البطلة من العرض أصلاً. أراد محمد عمر أن يستغل شاشة السينما ليخرج الممثلون منها إلى الخشبة لكن الحرفة، أو ربما الإمكانات لم تسعفه في التنفيذ في شكل جيد. كما أراد أن يضفي مسحة كوميدية على العرض الذي لا يحتمل الكوميديا، فأطلق على أبناء البطلة أسماءً ظنَّ أنها تناسب أجواء العرض مثل «دانة»، و«دِبشِك»، و «دُشمة»، وصور رجل الدين أو «المذهبجي» في صورة الأفاق الذي يغير مذهبه وفق طبيعة مذهب المنتصر. وربما تكون تلك الشخصية التي أداها علاء قوقة هي أبرز وأنجح ما في العرض نظراً الى خبرة هذا الممثل ودراسته الأكاديمية التي جعلته على بينة من منهج بريخت فجاء أداؤه متسقاً تماماً مع طبيعة تجار الدين، وطبيعة النص البريختي. النص الأصلي طويل كما هو معروف، وأحياناً تستغرق عروضه ست ساعات كاملة، لكن العرض المصري، رغم أنه لم يستغرق سوى ساعتين ونصف الساعة، بدا طويلاً جداً. ربما انتاب المشاهد هذا الشعور لأنه فكَّ شيفرة العرض مبكراً ومنذ المشاهد الأولى، وربما كذلك أدرك المشاهد أن العرض يسعى إلى تضليله، فكفَّ هو الآخر، ومبكراً جداً، عن التلقي الحسن.
———————————————————————–
المصدر : مجلة الفنون المسرحية  – الحياة

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *