الأشكال المسرحية والتقاليد غير الأرسطية-في الشرق الأقصى والشرق الأوسط وأفريقيا والأمريكيتين- وعلاقتهما بالنموذج المسرحي الغربي

إن أصل المسرح إغريقي، ومن يؤكد غير ذلك فهو يقصد التقاليد التي تشبه قليلا ظاهرة المسرح من حيث هو مكان يشاهد فيه الجمهور حدثا يدور في مكان آخر. وهذا يعني أن المسرح في الواقع، عبارة عن وجهة نظر لحدث معين: انه يتكون من نظرة، من زاوية رؤية وإشعاعات بصرية. إنه يصبح مكانا، معمارا، وفضاء للعرض، عندما يتم من خلاله تبادل في الأمكنة والعلاقات ما بين النظرة والشيء المنظور إليه، أي ما بين المشاهد والحدث المعروض.

إن المسرح كفنّ، يخضع لقواعد وأنظمة تتغير وفقا لتغير العصور والحضارات. فهو فن لا يمكن أن يكون وليد اللحظة أو اليوم أو الليلة، وقد تَكَوَّن في البداية من نواة صغيرة نمت وتفرعت عند الشعوب البدائية وتغيرت ملامحها وأصولها على مر الأيام والسنين بعدما انتقل الإنسان البدائي إلى عصر الحضارات، حيث المدنية والقانون والعلوم والفن والأدب والمعمار. فالفن في جوهره نتاج حضاري معقد تصنعه الشعوب بتجاربها وبمعايشتها لشتى العناصر والظروف التي تتداخل فيما بينها لكي تعطي للظواهر مدلولاتها. وإذا كان البعض يَعْتَبِرُ المسرح الأرسطي هو الأكثر انتشارا، والأكثر مصداقية ورسمية من غيره، فلا بد لنا أن نسجل في الوقت نفسه، أن لكل مجتمع أو حضارة قديمة مسرحُهَا وظواهرها التي تتميز بها عن غيرها. ولكن بما أننا لا نستطيع في بحثنا هذا، التطرق لجميع التقاليد الدرامية والأشكال غير الأرسطية لدى جميع الشعوب، أولا، لضيق مساحة البحث، وثانيا لشمولية الموضوع وتعقيداته، لهذا فإننا سنكتفي في التركيز على الأشكال الدرامية الشرقية والآسيوية الأكثر استعمالا ووضوحا وتأثيرا في النموذج المسرحي الغربي، متخذين من عرض بيتر بروك (المهارباراتا) وآريان منوشكين (الهند) و(ليلة الملوك)، نماذج تطبيقية لدراسة محور البحث.
لقد صار المسرح الشرقي، منذ أكثر من نصف قرن من الزمان تقريبا، اكثر قربا للغرب مما كان عليه في السابق، وذلك بفضل الترجمات ومحاولات الاقتباس الدرامية للمسرح الأدبي، وبفضل زيارة الفرق الآسيوية. هذا بالإضافة إلى أن أولئك الذين أرادوا أن يجددوا المسرح الغربي بتمردهم على إطار العلبة الإيطالية، وتحريره من عبودية خداع النظر، وتخليهم عن التقاليد المباشرة والمبالغ بها لأجل إعطاء قيمة للتمثيل والعثور على أسلوب جديد، قد رجعوا إلى تكنيك الشرق، ونقصد أرتو وبريخت ومايرهولد وغيرهم ممن افتتنوا في الأشكال الدرامية القديمة التي قادتهم لتغيير مسارات المسرح الأوربي الحديث.

وإذا كان الشرق المسلم قد اثر على الحضارة الغربية في مجال الحكاية وفنون الكلام من خلال (ألف ليلة وليلة) وأفريقيا السوداء من خلال فن الحكاية والخرافات، فإن تأثير الشرق الأقصى عليها كان ولا يزال يكمن في فلسفة الروح والفنون الرمزية المرتبطة بها.

لقد امتلكت بعض العروض الآسيوية التي قدمت على المسرح الغربي، أصالة صعبة المنال أو البلوغ، كما في مسرح (النو)، والكابوكي، وأوبرا بكين ومسرح كتالكالي الهندي العريق، في حين لجأ البعض الآخر منها إلى أسلوب إغواء الجمهور الغربي من خلال طرح حلول توفيقيةٍ نسبياً، تحمل إشاراتٍ تَحُطَّ من قيمة الأصل وتقلل من مستواه.

وعلى ضوء ذلك، كان لا بد لنا من القيام بدراسة موجزة بعيدة عن أية نزعة عنصرية، تقوم على فهم الأشكال التقليدية للمسرح الآسيوي، وذلك لكي نعرف مدى التفاعل الثقافي بين آسيا، كحضارة قديمة، وأوربا الحديثة. فعندما نتجاوز الانطباع الأول للشيء المستورد، إن صح التعبير والذي يجعلنا نعتبر أن كل ما موجودٌ في المسرح الآسيوي يختلف كليا عن المسرح الغربي – من حيث الشكل الفني الذي يعتمده أو الفلسفة الروحية التي يتخذها كقاعدة يستند عليها- فإن نتيجة التمييز بين السمات المشتركة للمسرح العالمي، تكون صعبةً ومليئةً بالاختلاف والغموض.

وهنا نلاحظ سريعا، أهمية ما يمكن أن يأتينا من الهند والصين باعتبارهما حضارتين قديمتين. فالتأثير الأفقي لهاتين الحضارتين -والذي نجده في مراحل معينة من تاريخهما، قد امتزج بما هو حديث-، يرتكز على حضاراتٍ مختلفة أنتجت لنا تأثيراتٍ متداخلةً ومتنوعةً. وهكذا فإن تأثير البوذية التي أصلها الهند، لا تشبه كليا تلك التي نجدها في مسرح “التبت”، والتي تكون فيها الوظيفةُ المسرحيةُ عبارةً عن طقوس شعائرية، بينما نجدها في مسرح “النو” تحمل طابعا جماليا يكون فيه للاعتقادات الدينية حضورا يساهم في خلق جو درامي يكشف عن مضمون مواضيعه. إن سر إشعاع الحضارة الهندية هو كونها لا تَخْضع لتقليد ديني أو شعري فحسب وإنما لكونها تتعامل برقة وحساسية كبيرتين مع أسلوب الرقص، وخير مثال على ذلك هو الرقص في جزيرتي “جافا” و “بالي”*.

أما الحضارة الصينية فهي لا تقل في فترة إشعاعها عن تلك التي في الهند، فالصين مرتبطةٌ باليابان قديما، ومشهورةٌ برقصات الـ(بيكاكو)**-و بالـ(السينكاكو)، الشعبية التي تطورت و انتهت بخلق أشكال درامية أصيلة. وعلى العكس من ذلك، فإن المسرح التقليدي في (فيتنام) نتج من خلال استيراده المتأخر لأحد هذه الأشكال الموجودة مسبقا في الصين، فَمَهْمَا كان نوع التقليد المسرحي في فيتنام، وحتى إذا كان هذا الأخير في طريقه للانقراض، فإنه لا يزال بإمكاننا أن نلاحظ تعدد علاقاته مع المسرح الصيني الكلاسيكي في تنظيمه المادي أو في تقنيته أو محتواه. وبالنتيجة فإنه لم يتم إجراء تقليد كامل في فيتنام لهذا الفن الصيني وذلك لامتلاكه شيئا من الخصوصية في مجالي الغناء والموسيقى.

وهكذا فإن تأثيرات كل من الهند والصين قد تمازجت وساهمت معا في خلق فن متنوع. فإذا ما بحثنا فيما يميز كليهما عن المسرح الغربي، فإننا نستطيع القول بأن المسارح الآسيوية قد تميزت عما في الغرب من خلال أهمية العنصر الديني فيها بشكله الكبير. ولكن هل يمكننا القول بأن هيمنة الجانب الديني هو أهمُّ ما يميز المسرح الآسيوي عن الغربي ؟ الجواب نعم، حيث يمكننا أن نؤكد على وجود سلسلة من التقاليد الدينية والدنيوية التي لا تزال تتداخل في بعض أشكالها الدرامية مع الطقوس الدينية. وعلى سبيل المثال، فإن الرقص والتمثيل الصامت والمُقَنَّع في “التبت” والذي يجري داخل معابدهم، هما الشكلان الوحيدان لهذه الشعائر، حيث يمكن أن يكون للفكرة العلمانية حضورٌ وسطهما، علما بأن هذا التمثيل الصامت، يلتقي مع العروض المسرحية، في مجموعة نقاط مشتركة ومحددة. وليس في هذا ما هو مفاجئ، لأنّها تستند على قواعد إيمانية وشعائرية مشتركة، حيث أن محتوى معظم مواضيعها الأسطورية تدور حول الحياة الداخلية لبوذا.

ولا نندهش في الحضارات التي يترافق فيها الانشغال بالحياة اليومية مع طقوس وشعائر محددة، إذا ما عرفنا أن الاحتفالات الدينية التضرعية تلتقي من حيث مضمونها بالتحضيرات الأولية لما يجري في عرض مسرحي. ولربما كان يجب علينا أن نتحدث عن غياب القاسم المشترك بين ما هو ديني ودنيوي أو عن هذا الحضور المتداخل بينهما، سواء كثر أو قل، وما بَيْنَ ما هو قدسي في جميع التظاهرات الحياتية. ولو نأخذ مثالا عن الرقص الهندي الكلاسيكي، الذي نعتقد أننا شهدنا ترجمة نقية لأحد عروضه في باريس، نعرف انه يتضمن في جانب منه، تضرُّعا للآلهة، حيث كانت الرقصات أشبه بالدعوات التي تحاكي الأفعال والتحولات الإنسانية، وقد لعبت دورا مزدوجا بين الحب الإنساني والحب الإلهي، فقد عرضت حوار النفس الإنسانية المتحمس لما تؤمن به دينياً، وكانت الحركات الرمزية في هذه العرض تجسد القصيدة الغنائية، فحتى لو كان موضوعها دنيوياً، فهي تكشف الغطاء عن جميع مظاهر الجمال الكوني والذي يدعو عبر حركاته الإيمائية والتضرعية لخلق جديد. ولغرض تقييم هذا العمل، من وجهة نظر جمالية، لابد من اللجوء إلى التحليل الدقيق للعمل النحتي وتصوير المعابد المقدسة التي تضعنا بالنتيجة أمام خياراتٍ واستنتاجاتٍ كثيرة.

وعلى العكس من ذلك، فإننا نقف مندهشين أمام كيفية تفسيرنا لهذا الحضور الديني في المسرح الصيني التقليدي، حيث نُصْدَم، منذ الوهلة الأولى، بتكنيك الممثل والجزء المتعلق بموهبته التي توصلنا إلى قناعات مسرحية معينة. إن المسرح الصيني ليست له أية جذور دينية، وفي الحقيقة فإن آثار هذه الأصول ممسوحةٌ تقريبا، وإنَّ هدف هذا المسرح كان منذ النشأة الأولى تشويقيٌّ اكثرَ من كونه تثقيفياً.

أما فيما يتعلق بمسرح النو، فهو يترك أثرا عميقا عند المشاهدة، فَبُطْءُ الإيقاع فيه يكسبه مظهرا قدسيا لم يكن يمتلكه أصلا، لكن الغريزة المقدسة بوجودها الحتمي تعطي رؤية ملونة للعالم، من خلال الاعتقادات البوذية المتميزة بكثافة تعليمية والقريبة نوعا ما من التراجيديا اليونانية.

وإلى جانب هذه المسارح المحترفة في الصين واليابان، نجد هنالك أشكالا دراميةً تعتمد أصلا على المحاكاة والرقص الذي يَكْمُنُ في الأساليب التعبيرية للقرويين حيث يبلغ في بعض الأحيان ذروة جمالية استثنائية في الأسلوب، مثل حالة بعض المناطق في الهند القديمة، وعلى وجه التحديد، ما يحدث في منطقة بالي.

ويمكن تفحص المسارح الآسيوية، من خلال مظهر آخر: وهو معروف في الغرب بطريقة مختلفة يكون فيها العنصر الأدبي ذا أهمية ونوعية خاصة، ويرتبط بفن التمثيل الصامت في مجالي الرقص والموسيقى. فالمسرح السنسكريتي الذي انتهى زمنه في الهند يمتلك قيمة أدبية تكشف عن سر نجاح الترجمات المتعددة إليه، (وقد اخرج لينيه بو عام 1895، مسرحية عربة الأرض الصلبة Le chariot de terre cuite، وهي دراما هندية في عشرة مشاهد). فالأشكال الدرامية الشرقية، سمحت للأوروبيين باكتشاف نوع من التمثيل يتأسس على تعبيرية الجسد، الأسلبة وقيمة الشفرة أو الرمز.

إن المسرح الياباني الكلاسيكي يستحق هو أيضا مكانة خاصة في الأدب العالمي، ويعود الفضل في ذلك إلى عباقرته الذين أغنوا ريبرتوار مسرح الدمى وانشأوا مسرح النو، مثل: كانامي وزيامي وتشيكاماتسو، فهو على الرغم مما فقد من أدبه أثناء الترجمة -من مقاطع شعرية تتعلق بدعوات المنازلة وقصة حب لأحد الأشباح التعساء-، يظل يعطينا أثناء قراءتنا له، انطباعا عميقا عنه.

إن المسرح الصيني يمتلك أيضا أعمالا كلاسيكية ذات قيمة أدبية عالية وهذا ما نجده في بعض المسرحيات المؤلفة في عصر الملك “إيوان”، وخاصة ما يتعلق منها بمدينة “كوان هان كينك” القديمة، التي تم الاحتفال بعيدها السبعمائة بطريقة بهيجة جدا قبل عامين من الآن. في حين أن مسرح بكين الذي نعرفه من خلال عروضه المقدمة بالغرب يرتكز على روائع أدبية غالبا ما كانت مهملةً، حيث اعتمدت على ممثلين استطاعوا أن يُغْنُوا في أدائهم النصَّ الأصلي المكتوب.

إن البطل في مسرح إيوان، هو الوحيد الذي يغني، أما بقية الأدوار الأخرى فتنحصر وظيفتها بالكلام فقط، في حين أن جميع الأدوار بما فيها دور البطل في مسرح المدرسة الجنوبية والتي برز إشعاعها بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر تكون كلها مُغَنَّاةٍ. وختاما فأن المقاطع الحوارية المؤداة في مسرح بكين تتعاقب مع المقاطع المغناة، حيث أن فن التمثيل الصامت والرقص والأداء الموسيقي المتنوع يخلق بمجموعه تناسقاً في وَقْع الغناء والإيقاع على المتلقي.

ويمكننا إذن أن نختم الجزء الأول من بحثنا هذا فيما يخص المسرح في آسيا بقولنا: إنه حتى في المسارح التي يطغى عليها التعبيرُ الأدبي، نادراً ما يغيب عنها التعبير الموسيقي والفن الصامت والرقص، وهي تستطيع أن تؤلفَ عنصراً لا يمكن تجاوزه يجمع كل هذه السِماتِ معاً، كما أن هنالك بعض الأشكال الدرامية التي تتخاصم فيها هذه العناصر مع بعضها البعض من أجل احتلال مكان الصدارة. في حين يفتقد المسرح الغربي لهذه الصفات لِكَوْنه يفصل ما بين المسرح الغنائي والمسرح الحواري، فمسرحٌ كهذا، ونقصد الآسيوي، لا نجده في حالته النقية إلا في دراماتورجي حديث مستوحى بشكل خاص من الغرب.

الجزء الثاني من البحث:

التداخل الثقافي في الإخراج المسرحي المعاصر

(صورة الهند في:

1- مسرحية (المهارباراتا) لبيتر بروك.

2-مسرحيتي (الأندياد) و(ليلة الملوك) لاريان منوشكين.

لقد تم اختيارنا لهذه العروض المسرحية الثلاث لتفاوت مواضيعها عن الهند وثقافته كمصدر مشترك موجه إلى جمهور فرنسي أو غربي. والأمر يتعلق هنا بمسرحية (المهارباراتا) المُعَدّة من قبل جان كلود كاريير وإخراج بيتر بروك 1986، وكذلك مسرحية (الأندياد) 1987، والمكتوبة من قبل هلين سكسو وإخراج آريان منوشكين، في مسرح الشمس: وفي كلا العملين يتعلق الأمر بامتلاك تصور عن الهند كأسطورة وتاريخ من خلال نقل الكتابة على المسرح. ولكي نكملّ هذا التصور عن الهند القديمة وتقاليدها المسرحية، فإننا سنتناول أيضا، مسرحية “ليلة الملوك” التي قدمت على مسرح الشمس 1984، مثلما سنتطرق ضمنيا لـ(يوجين باربا) في بحثه ودراسته حول مسرحية “فاوست”: التي اعتمد فيها على راقصتين (يابانية وهندية) رغم موضوعتها الغربية.

وانطلاقا من هذه الأمثلة نأمل معرفة ما سيصل إلى الجمهور بعد سلسلة من تدخلات الكاتب والمعد والمترجم ثم المخرج فالممثل أخيرا.

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة
إن مسرحية (المهارباراتا) تلقي الضوء على صورة الهند الاسطورية، تلك التي نراها في القص الملحمي الشعري المؤلف من مائة ألف مقطع شعري، ومأثرة “بهاراتا” والتي تعتبر واحدة من اكبر ملحمتين سنسكرييتين امتد تأليفها عبر عدة عصور خلت، ونقلت شفهيا من خلال القصاصين.

إذن أن عرض “المهارباراتا” يستنطق ويحاكي هنداً خيالية، ولكن مع ذلك يبقى ارتباطها بالماضي والحاضر أكثر واقعية، لان المخرج “بيتر بروك” يعرض أيضا مظاهر من الثقافة اليومية المعاصرة، لاسيما أنه يرى في هذه الثقافة مجموعةَ قوانينٍ للتجربة الإنسانية، و يذكر في هذا الصدد: ( إن الهند قد عاشت في مناخ إبداعي دائم عبر آلاف من السنين فحتى لو بدت الحياة تتدفق مثل نهر عظيم، إلا أن لكل ذرة داخل هذا التيار طاقَتُها، وأيا كان وجه التجربة الإنسانية فستجد أن الهنود قد استكشفوا-دون كلل أو ملل- كُلَّ إمكانية فيه، حتى لو كان هذا الوجه أكثرَ الأدوات الإنسانية تواضعا وإثارة للدهشة: الأصابع. فكل ما يقع عليه إصبع الهندي تم استكشافه وإدخاله في نظام تصنيفي سواء كان ذلك الشيء كلمةً أو نَفَساً أو صوتا، أو فكرة أو حجرا أو لونا، أو ثوبا، فإن كل جانب من جوانبه العملية والفنية والروحية قد تم فحصها وربطها معا)1. إن “بروك” قد وضع في حساباته جميعَ هذه النماذج الفنية المحتملة للحضارة الهندية، لكنه أضفى عليها في نفس الوقت رؤيةً أزليةً ومعاصرة للهند. إننا في هذا العرض لا نشاهد جانباً مُعَيّناً من الهند وإنما نرى الهند كُلَّها بكل طعمها ورائحتها، لهذا لم يعتمد كل من مصممّي الديكور والأزياء في تصميماتهم على رقعة جغرافية أو اقتصادية أو قبلية معينة من الهند. فـ(بروك) يبحث في عروضه عن معادل موضوعي يتأرجح بين التجذر ( مثلما في مسرحية الأيك Iks) الأفريقية و الخيال الدنيوي ( مثلما في مسرحيته مؤتمر العصافير). إن أسلوب التمثيل في مسرحه (المحايث théâtre immédiat) يقدم لنا مسرحاً مباشرا يخلق صلته بالجمهور دون حاجة للرجوع إلى مصادر ثقافية يتوجب علينا معرفتها مسبقا لفهم العرض.

وعلى العكس من ذلك، فإن فكرة مسرحية (الأندياد)، للمخرجة منوشكين، تجري أحداثها خلال حقبة تاريخية معينة، وبالتحديد بين (1937- 1948)، أي في السنوات التي سبقت الاستقلال وتقسيم الهند.

إذن، فهي تعتبر مصدرا ثقافيا يتحدث عن الهند في فترة محددة من تاريخها الحديث؛ فقوانين هذه المسرحية ليست سهلة على الرغم من أن الكاتبة (هيلين سكسو) تعاملت مع فكرة النص على أساس أنها سيرةٌ تاريخيةٌ تلقي الضوء من خلالها على أغلب قادة الهند السياسيين لتلك الفترة. ولكن ابرز ما يميز هذه الثقافة، أي الهندية، هو التكنيك الجسدي لمختلف أناسها: في العمل والمواقف الحياتية اليومية وفي الرؤية وفي تلوين الجسد، كل ذلك يعطينا في النهاية، تصورا عن التكوين القبلي والطائفي للفسيفساء الهندية. وقد استعملت هذه المخرجة في تصويرها ورسمها للمظهر الخارجي للعرض، فضاءا حدوديا واسعا اعتمد على الطابوق والمرمر المغطى بالسجاد والوسادات، مثلما لو كنا أمام (تاج محل) بتلألؤ انعكاساته الضوئية على مرمره، أما المظهر الداخلي فكان عبارة عن مكان تجري فيه النقاشات والمفاوضات السياسية. وقد اكتفت بوجود بعض التفاصيل التي تترجم تصرفات الإنسان الهندي اليومية لكي تعطينا تصورا متنوعا عن الشعب الهندي، فقد لجأ الإخراج إلى استعمال واختيار بعض الرموز والإشارات والآثار الواقعية لشبه القارة الهندية، وهنا تقول (هيلين سكسو) في نصها “الأندياد”: (إنها ليست الهند، وإنما هي جزيئة هندية، وأثرُ قَدَم)2.

أما في عرض “ليلة الملوك” لمنوشكين نفسِها، فلا نجد فيه أيةَ إشارة للهند، وذلك لكون حضورها فيه، أي حضور الهند، فيه ليس مفروضا من قبل النص الشكسبيري، وإنما يرتبط الأمر هنا بكل بساطة بمناخات الهند وألوانها المختلفة والمتنوعة. فالعرض يقدم لنا نماذج فنية من الرسوم الزخرفية الهندية أو الفارسية التي يشير من خلالها إلى مشاهد إباحية. وفي النتيجة فإن صورة الهند في هذا العرض غيرُ واضحة لا في السينغرافيا ولا في الموسيقى ولا حتى في الحركة الجسدية للممثلين.

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة
إن عرض مسرحية (ليلة الملوك) يُدخلنا في عوالم بلد يبدو لنا بعيدا، بل متخيلا، مثلما تقول صوفي مسكوسو: ( فيه الكثير من الألوان والروائح والأنوثة الهندية، من خلال صور كرنفالية مشبعة بمساحيق وعطور مصحوبة بموسيقى صاخبة تَصْدَعُ الرأس)3. إن الرجوع إلى الثقافة الهندية في عرض مسرحية “ليلة الملوك” يمر عبر قانون أيديولوجي غربي يلخص فيه رؤيته للشرق من خلال بضعة أماكن مشتركة غريبة مثل: الإباحية في الرسم والترقيمات الموسيقية ذات الطابع الشرقي والسلوك المتراخي للشخصية الهندية وإعطاء صفة التأنيث للذكور.

إن الديكور الروحي والحسي الكبير المستوحى من الهند في هذا العرض، قلّل من شأن العصر والثقافة الاليزابيثية الموجودة بالضرورة في نص شكسبير. ورغم ما نشاهده من تكرار للملابس الهندية على المسرح، يظل النص يحمل قيمته الاجتماعية والثقافية، على الرغم من ضعف مصادره التاريخية، وذلك لهيمنة البذرة الهندية على الإخراج والنص في آن واحد.

إن (يوجين باربا) في إعداده لمسرحية “فاوست” “لغوته” جعل الراقصتين الهندية واليابانية تعتمدان الارتجال في أدائهما، فصورة الهند في عرض (باربا) هذا كانت هامشية، وذلك لارتكازه على نموذج رقص (الاوديسي)* الذي اشتغل عليه (سنجكاتا بنكرافي) بقوة انطلاقا من الارتجال أيضا. فثقافة القرون الوسطى التي غمرت فاوست والثقافة الغوتية –نسبة لغوته- محيت تماما من العرض وحل مكانها مناخٌ مستوحى من رقص (الاوديسي) الهندي و (البيو)** الياباني. إذن، إن علاقة العرض بالثقافة كانت علاقة غير مباشرة وذلك لأن “باربا” لم يهتم بفهم الثقافة الأجنبية وإن ما يشغله هو السلوك اليومي الغريب الذي يغيره بدوره من خلال مَنْتَجَةٍ حركية أجنبية ألبسها أردية أوديسية نقية.

النماذج الفنية

إن القصيدة الملحمية “المهارباراتا” لم تُنْتج شكلا دراميا مقننا، أي محكما بالقوانين، لكن التقليد القديم لحكواتي القصص الشعبية كوّنَ شكلا صغيرا من أشكال فنّ العرض، في حين كَثُرَتِ اليومَ وتعددت الإعدادات المسرحية للعديد من مقاطعها.. إن المُعِدّ (جان كلود كاربير) والمخرج (بيتر بروك) تناولا في آن واحد، النصّ الشعري والتقليد الشعبي السردي لها، وهذا ما فتح لهما قنوات مباشرة باتجاه الثقافة الهندية، فصارت العلاقة مع النص الأدبي سهلة من خلال نموذجها الإيضاحي الأصلي والمتلائم مع أسلوب (بروك) الفني، الذي يتجنب في نفس الوقت نَقْلَ أيّ تقليد مسرحي أجنبي.

أما مسرحية (الأندياد) فقد كتبت عام 1987 لكي تُقَدّمَ بصيغةِ قِصَّةٍ جديدةٍ. وهذا يعني أنها تنتمي كنص إلى ثقافة غربية؛ فعند كتابتها لم تَخُصَّ أو تستهدفَ نوعا مسرحيا معينا، لأن نوع الأحداث التاريخية التي استوحت منها (هيلين سكسو) لم تُنْتِجْ أسلوباً تمثيليا خاصا. وبما أن محوَرَ موضوعها هو الهند المعاصرة، فإن المؤلفة لم تلتزم أثناء كتابتها بأشكال تمثيلية هندية. في حين أن منوشكين تهتم بالثقافة الهندية وبالتكنيك الجسدي الذي يتبناه الممثلون في تقليدهم الجسدي لمختلف الطوائف والأقليات الهندية. وفي مسرحية “ليلة الملوك”، نشهد علاقة أخرى مختلفة للثقافة والنماذج الفنية الهندية وهنا علينا تمييز التالي:

1- القوانين المقترحة في زمن العصر الشكسبيري التي نقتفي أثَرَهَا في النص وفي الترجمة التمثيلية.

2- والقوانين المستعارة من التقاليد الفنية الهندية التي استوحتها منوشكين في عملها بشكل حر.

إن الشكل التمثيلي الاليزابيثي لم يُحَافَظْ عليه كموروث، وذلك لصعوبة إعادة تركيبه، هذا بالإضافة إلى أنه بات اليوم ميتا ويبدو متأخرا وتقليديا وبسيطاً. وهذا هو رأي منوشكين، لهذا السبب نجدها تعتمد أسلوبا وتقاليدا أخرى تختلف كليا ومستوحاة من موروث شرقي أو غربي، مثل: الكابوكي، المسرح الكلاسيكي الهندي وكوميديا دي لارتي … إلى آخره.

(إن القوانين الفنية المستوحاة في إخراج منوشكين هي نفسها موجودةً في العديد من الأشكال المسرحية الكلاسيكية الهندية، مثل: الرسم على الحرير بكل الألوان والذي يستعمل كخلفية للمسرح التقليدي الهندي، للتعبير عن العواطف الأساسية)4. أما ممثلو هذا النوع من المسرح فهم يكشفون عما يجول بدواخلهم من مشاعرَ وفقاً لأربعة طرق: (الظرافة، التعظيم، العنف والشفوية)، التي تتلخص بالسعي الواهن، التنفس اللاهث والنظرة الشاملة: وهي ترمز لحب التملك المرضي. إذن فإن إخراج منوشكين المسرحي لـ ” ليلة الملوك” استوحى نماذج مسرحية هندية بشكل حُرٍ، قامت، بتلوين مناخات التمثيل الشكسبيرية.

الإعداد المسرحي

لقد تقاسم كل من (جان كلود كاريير) و(بيتر بروك) الإعداد، بعملهما، مثلما سلكا على ما يبدو، طريقين متعاكسين. وواضح جدا أن النتيجة كانت هي الموازنةُ بين الابتعاد وإعادة الاقتراب. فكاريير قد قرأ نص “المهارباراتا” عن ترجمة فرنسية أكاديمية أجاد نقلها أو ترجمتها كعمل مسرحي، فهو تخيل وأضاف مشاهدَ أعاد صياغَتَها كليا رغم إبقائه على الأسماء كما هي، و النغمة الموسيقية الشعرية للقصيدة الملحمية. ومع ذلك فهو قد قدم لنا استعارةً حاول من خلالها، بشتى الوسائل، تجنُّبَ الاقتراب من التملك الاستعماري. في حين أن (بروك) خلق توازنا بين هذا البعد الثقافي الهندي وهذا الاحترام الديني للمفاهيم الفلسفية حيث يقترح من خلال عمله نوعاً من التمثيل المباشر والقريب من المشاهدين بطريقة تجعل “المسرح المحايث” مسرحا مقبولا بشموليته وسهلا ومرئيا في المصادر الثقافية للجمهور الأوربي.

وفي كتابة النص المسرحي كما في تمثيله فإن (كاريير) و(بروك) يجدان نفسيهما يشتغلان بإمرة النموذج الشكسبيري، (فالمرور المستمر من مستوى أسلوب إلى آخر والانصهار باليومي والخيالي والميتافيزيقي والتعارض بين الشكل الأدبي الهندي ومواضيع الصراعات العالمية وعُقَد الشخصيات التي هي في نفس الوقت ملحميةً ودراميةً، وكذلك آنية الصراعات وتقاطُع المواقف، كل هذا هو عبارة عن محاولة للتقرب من شكسبير) 5.

أما (هيلين سكسو) فتعتمد النموذج الشكسبيري كمثال لها؛ فهي تأخذ منه معمارية النصّ، وتقطيع المواقف والمشاهد وتذبذب العلاقة بين ما هو تاريخي وتراجيدي شخصي، والمستويات الفردية والجماعية من الحكاية، والمجازي. وإذا كان (بروك) يرى في شكسبير مؤلفا معاصرا قريبا منه فإن كلا من (سكسو) و(منوشكين) متأثرتان جدا بالشكل الشعري في كتاباته وبازدواجية طرحه للقريب والبعيد والفردي والجماعي على الرغم من اعتمادِهِما على مناخات هندية.

الممثل والتحضير المسرحي

إن التبادل الثقافي الذي يحدث في هذا النوع من العروض التي تجمع أكثرَ من ثقافةٍ في آن واحد، يحتاج إلى تحضيرات طويلة للممثلين، حيث أن هذه التحضيرات، تؤلف جزءاً كبيرا من العرض، لدرجة أنه لم يعد بالإمكان فصلُ التكنيك المُكتَسَبَ من قبل الممثل والتأقلم الثقافي الجديد مع جسده. إن هذا العملَ التحضيريَّ الُمْدَركَ حسياً من قبل ممثلي العروض الثلاثة يتقاسم وجهة النظر التشكيلية للمسرح ذاتها، ولكن من خلال نماذج مختلفة: ساذجة ومستَعْبَدة لدى (منوشكين) في كلا عمليها المسرحيين (الأندياد) و(ليلة الملوك)، فلسفية وغامضة لدى (بيتر بروك) في عمله (المهارباراتا).

إن ممثلي (بروك) قد تلقوا تدريبا على المسرح الكاتكالي في الهند وفي باريس، لا لكي ينتجوا هذا التكنيك في عرض مسرحي وإنما لكي ينفتحوا، بموجب قول (بروك) نفسه:

( على أساليب جديدة في كيفية استعمالهم للجسد ولأجل فهمهم سبب ولادة هذا الشكل. ثم وبعد فهمهم للمعنى الأساسي للشكل الخاص تأتي المرحلةُ اللاحقةُ التي تتلخص في كيفية الخروج عنه) 6. إذن، إن التدريب لدى فريق عمل (بروك) ليس إلا عملية تحسس وتكيف على تكنيك تمثيلي غريب على الممثل، انه في كل الأحوال، يجب أن لا يقود إلى ( مجرد تقليد خارجي لتكنيك الرقص والمسرح الهندي) 7. لقد عمل (بروك) من خلال رحلاته وتطبيقاته مع فريق عمله في أفريقيا وإيران والهند والصين واليابان الخ ، على جعل (الأصوات والأشكال والاتجاهات من مختلف أجزاء العالم تمارس دورها على الكيان العضوي للممثل، على ذات النحو الذي يتيحه الدورُ العظيمُ لأن يمضي إلى ما وراء إمكانياته الظاهرة)8. وينطلق الممثل لدى (بروك) في العادة من الارتجال في لغته الأم، لاختبار المشاهد المعدة له، والمعادِ صياغَتُها من قبل (كاريير). ويسعى بكل قوة إلى إيجاد وسيلة اتصال مباشرة وبسيطة مع الجمهور من خلال التشكيك بالأثر الغريب وبراعته المخيفة. لهذا نجد (بروك)، وعلى الرغم من سفره المستمر في أروقة الأشكال: الإغريقية و الاليزابيثية والآسيوية الهندية واليابانية والشرقية الإيرانية والحكايات الأفريقية، لم يَتَّبَنَّ شكلا أو موروثا ثقافيا أجنبيا، ويبدو دائما مشككا بشكل العمل ثقافياً وزخرفيا و يفضل أن يفهم هذا الشكل في عمقه. يقول بروك في هذا الصدد: (إننا نبحث عما يُحيي ثقافةً ما. فبدلاً من أن نأخذ الشكل الثقافي كما هو، نحاول اكتشاف ما يُحّيي هذا الشكل. انه من الضروري أن يُحاوِلَ الممثلُ المسرحي الخروجَ من قوقعة ثقافته والتخلُّص من قوالبها)9. وقد أنشأ (بروك) المركز الدولي لبحوث المسرح على أساسٍ، جمع فيه ممثلين لا يشتركون في شيء، لا في اللغة ولا في الإشارات ولا حتى في الفكاهات. وقد سعى بكل قوة إلى إيجاد وسائل اتصالية مباشرة مع الجمهور من خلال مظاهر ثقافية وتقنية تمثيلية متأتية جميعِها من الخارج، وكلها كانت بالنسبة لهُ ولفريق عمله عبارةً عن مجموعة تحديات. ويتمثل التحدي الأول في طبيعة اللغة ذاتِهَا، حيث وجدنا، يقول بروك: (إن بنية الصوت في لغة من اللغات إنما هي شفرة، انفعالية تشهد على العواطف) 10. والتحدي الثاني في قوة الأسطورة، أي في لعب الممثلين للأساطير الموجودة ( من أساطير النار إلى أساطير الطيور، فإن الفرقة كانت تمضي إلى ما وراء مدركاتها اليومية) 11. في حين أن التحدي الثالث يكمن في السماح للعالم الخارجي –الناس والأماكن والفصول وأوقات النهار أو الليل- بالتأثير على المؤدين.

إن إعداد ممثلي مسرح الشمس لا يرتكز على تعليم للتكنيك الهندي ولا على عالميته مثلما لدى “بروك” فهو ينطلق من البحث عن الشخصية وتفاصيلها، وذلك بفضل الاستعانة بتكنيكيات جسدية لمختلف الاقليات والطوائف الدينية. إن (منوشكين) تمنح الممثل في عملها فرصةَ البحث والتقمص لشخصيته المُمَثّلة لدرجة أن يفقد فيها الممثل هويته الشخصية. ويكون هذا الإعداد نفسيا اكثر مما هو تكنيكيا أو حركيا إيقاعيا. وبدلا من أن تسعى (منوشكين) إلى نماذج فنية موجود مسبقا ومقننة، مثل النماذج الشكسبيرية الذي أحيته بتغذيتها لها بالمسرح الكابوكي والهندي الكلاسيكي. فقد عملت مع ممثليها على تقليد شخصيات تاريخية وشعبية، وهذا لا يتحقق، في اعتقادنا، إلا بالبحث والتقصي عن الكثير من التفاصيل التي تعتبر أساسيةً في تقليد الهوية الشخصية للرموز التاريخية والطائفية. لهذا فإن كل بحث حول المسرحة من قبل (منوشكين) وفريق عملها يشغل حيزاً ومساحة كبيرة من التمرين. ولقد استنفذت الرسالة السياسية والفنية في هذه التجربة التي تتطلب قوة خاصة من المقلد. هذا بالإضافة إلى أن السياسة لم تعد تمتلك قوة الشكل الكبير لكي تجرؤ على أن تلعب وأن تعبر مسرحياً عن النزعات الكبيرة للعالم. فنحن بعيدون بما يكفي، مثلما تقول آريان منوشكين: (عن عام 1789 والعصر الذهبي، وعن استعمال أشكال الكوميديا دي لارتي و المسرح الصيني في عروض سابقة في مسرح الشمس، مثل عرض “العصر الذهبي”. إذن إن الأمر يتعلق باستعمال هذه الأشكال لأجل تعميق العلاقة ما بين الممثل، والحكاية والمشاهد.) 12 ومن أجل إضفاء شكل عالي المستوى، على التمثيل أن يتجاوز المحاكاة، تضيف منوشكين: ( إننا لم نأخذ هذه الأشكال على أساس أنها قديمة، فقد سمحنا لأنفسنا التعامل مع أشكال ذات المستوى العالي لأننا لا نريد أن نتدنى فنيً) 13. ويحلل (بافيس باتريك) هذا الموقف، في كتابه (المسرح في التقاطعات الثقافية) قائلا: (انه من المحتمل أن منوشكين تتهيب من ثراء الثقافات القديمة، إلى درجة أنها لم تجرؤ على الأخذ على عاتقها شكلا شرقيا كبيرا، إما لأنه كبيراً ومُسْهبَاً أو لأنه دون الحقيقة أو لأنه ليس في مكانه) 14. وفي الحقيقة، إنه من السهل جدا إغناءُ سياقٍ ثقافيٍّ ما فَقَدَ هويته التقاليدية النقية من خلال شكل قوي ومؤثر. هذا بالإضافة إلى أن الشروط الإبداعية في الِسّيرَ التاريخية لا تسهل عملية مسرحة وتقنين حوادثها التاريخية، لهذا يشعر الممثلون، ونقصد ممثلي منوشكين، بأنهم مرغمين على تقليد الرموز التاريخية خير تقليد، ودحض كل شكل يمكن أن يتدخل بينهم وبين مصادره التاريخية. في حين انهم في عرض “ليلة الملوك” لم يتمسكوا بموضوع إعادة تركيب المصدر التاريخي بحيث صار بمقدورهم استلهامُ الأشكال الغريبة على النموذج الشكسبيري بشكل حر.

إن مقارنة مسرحية (الأندياد) مع مسرحيتي (ريتشارد الثاني) أو (العصر الذهبي) عام 1975، يكشف لنا جليا مدى تطور المشروع الجمالي لدى (منوشكين). إن العمل في هذين العرضين كان يعتمد على الأشكال الكبيرة بشكل مؤكد وملزم وذلك للتخلص من الواقعية الجمالية: ( إن الأشكال المسرحية الخالصة، مثلما كتبت (منوشكين) في فترة مسرحية (العصر الذهبي، تجيز لنا من بين ما تجيز، التخلص من معارضة الواقعية الجمالية … ففي المسرح غالبا ما يكون لكل شيء دلالتُهُ الخاصةُ إلا الممثل وما يقوله … إن الواقعية الحقيقية قابلة للتغيّر)15. إن الرجوع إلى الأشكال التقليدية، في هذين العرضين، لم يكن له تأثيرٌ مباشرٌ وإنما استيحائيٌّ، فكل ما في هذه الأشكال قد أعيدت صياغَتُهُ وخلقُهُ من قبل الممثلين. ففي مسرحية (ليلة الملوك) لم يستعر الإخراج شكلا مسرحيا كبيرا (مثل الكابوكي) بقدر ما هو استوحى صورا من الثقافة الهندية، وقام بصهرها في مناخ حسيّ ومختلط.

ونستنتج مما تقدم أن ظاهرة المسرح في العالم هي تواصل أكثر مما هي صراعٌ. وإن المسرح هو حقلٌ للتبادل الثقافي حيث يستقبل المتفرجُ ثقافة الآخر وتجاربه وإرثه وديانته، دون أي نزعة عنصرية أو تفاضليّة. فالمسرح نقيضٌ تماما للسياسة وانتفاعاتها ورهاناتها الآنية والضيقة في أفقها. وحينما يستقي (بروك)، و(منوشكين)، و(باربا) وغيرهم من المجرّبين المسرحيين من الثقافات الأخرى، وبالعكس، فهذا يعني أنّ العالم في حاجة ماسّة لحوار ثقافي مستمر.
هوامش
——————————————————————————–

* جافا وبالي، جزيرتين من جزر اندونيسيا تنفصلان عن بعضهما بمضيق يسمى مضيق بالي

**- اسماء يابانية لرقصات صينية دخلت اليابان نحو القرن الثامن. وكانت ولازالت تمارس في الملابلاط الملكي حتى يومنا هذا، وتمتاز وخاصة لبيكاكو برقتها التي تميزها عن اليىكاكو.

1 – Peter Brook, The Shiftin Point, New York, Harper and Row, 1987,P. 61.

2 – Héléne Cixous, L’Indiad, Paris, 1987, P.16.

3 – Sophie Moscoso, Notes des répétions, Double Page, n32, 1987, P. 8.

-إن مصدر رقص الاوديسي هو الاوريزا الواقعة في شرق الهند، وهو مستوحى في الأصل من عبادة كرشنا. وإن مبدأ هذا النوع من الرقص يتأسس على “التريبانج” الذي يقسم جسد الراقص إلى ثلاثة أجزاء: الرأس، النصف الأعلى من الجسد والجذع. إن حركة هذه الأجزاء الثلاثة معا هي التي تمرر العواطف والتعبيرات الإيحائية المراد تقديمها. انه رقص صعب ومعقد ويحتاج الى دقة وعناية من قبل الراقص

** – البيو وهو الرقص في المسرح الكابوكي الياباني. والكابوكي شكل مسرحي تقليدي وشعبي، و تنقسم كلمة كابوكي إلى ثلاثة أجزاء : الكا وتشير إلى الموسيقى فيه، البو، تشير إلى الرقص والكي إلى التمثيل المسرحي.

4 — Sylvain Lévi. Théâtre Indien, Paris, Collége de France, PP. 368-392

5 – Petre Brook, Shakespeare et le Mahabharata, Théâtre en Europe, N 7, 1985.

6 – interview avec Peter Brook, Nouvelle de l’Inde, n 248, juin-juillet 1986.

7 – نفس المصدر السابق , P 19..

8 – Peter Brook, The Shiftin Point, New York, Harper and Row, 1987,P. 189

9 — Rencontre avec Peter Brook, interview de Denis Bablet, Travail Théâtral, hiver 1973, n 10, PP. 19-21.
10 – -– Sophie Moscoso, Note de répétitions, Double Page, N 32, 1984, P. 190.

11 – نفس المصدر السابق صفحة 191.

12 -– Entretien avec Ariane Monchkine, Théâtre/Public, N° 5-6, 1975, P.5

—————————————————————

المصدر : مجلة الفنون المسرحية –  د. محمد سيف – باريس

شاهد أيضاً

المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر … مادة بحثية حـسن خـيون

المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر … مادة بحثية  حـسن خـيون  المقدمة  في قراءة للتاريخ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *