الأداء الأنثروبولوجي في المسرح الأفريقي.. مسرح الشارع أنموذجاً – د.بشار عليوي

عليوي

 الأداء الأنثروبولوجي في المسرح الأفريقي.. مسرح الشارع أنموذجاً – د.بشار عليوي

أرتبطت الانثروبولوجيا ارتباطاً وثيقاً بالمجتمعات الانسانية الذي توجد فيها لناحية اهتمامها بدراسة الإنسان , ومن هُنا فقد تعددت الدراسات والاتجاهات والأبحاث التي أَنصبت على الانثروبولوجيا بوصفها أحد العلوم الحديثة . إذ أتسعت مجالاتها لتتداخل مع علوم أُخرى عبرَ التعابر مع موضوعات تلك العُلوم واهتماماتها كاشفةً عن مُقومات حياة الشعوب فضلاً عن هويتها الثقافية , لذا فأن دراسة ارتباط الانثروبولوجيا وفقاً لتعدد مجالاتها بالمجتمع الانساني يُقدم لنا صورة كاملة عن مظاهر الحياة البشرية والحضارية لشعب مُقارنة بشعب آخر , بالاضافة الى إمكانية وصف الظاهرة الثقافية لهذا الشعب عبرَ تحديد الأداء الانثروبولوجي لتلك الظاهرة  وصولاً لتأكيد هوية الشعوب والمُجتمعات الانسانية على حدٍ سواء والمُستلة من وجودها كَكِيان قائم بذاته .

لقد مهدَّ تعدد مجالات الانثروبولوجيا وفروعها كالانثروبولوجيا الطبيعية والانثروبولوجيا النفسية والانثروبولوجيا الاجتماعية والانثروبولوجيا الثقافية , لانفتاح واسع أمام سبر أغوار الظواهر الثقافية للشعوب ومنها شعوب القارة السمراء , ومعرفة الاداء الانثروبولوجي لتمثلات هذهِ الظواهر من خلال دراسة نشوء الظاهرة الثقافية ضمن الحاضنة الاجتماعية الأفريقية, وفي صياغة الاداء الانثروبولوجي لظاهرة ثقافية بعينها , ومعرفة مكونات هذا الأداء وارتباطهِ بمكونات الظاهرة , سعياً للحفاظ على هوية شعبٍ بعينه , فقد سعى أفراد شعوب القارة الأفريقية بكُل مُكتنزاتها التراثية عبرَ مُمارساتهم الثقافية على اختلاف انواعها والمسرح أحد أهم المُمارسات فإفريقيا قد عرفت العديد من فنون الأداء الانثروبولوجية كالطقوس والاحتفاليات والرقص والفنون البهلوانية والعرائس والمايم والفنون الشفهية … وفنون ومسرح الشارع  ، إلى آخر هذه الأشكال الأدائية الانثروبولوجية التي تعد من صميم الثقافة الأفريقية , الى تأكيد وجودهم من خلال تأكيد هويتهم الحضارية والاجتماعية وهوَ ما تُحققهُ فنون الأداء الانثروبولوجية بطابعها المسرحي عبرَ فنون ومسرح الشارع حديثاً، اذ عمدَّ هؤلاء الأفراد الى تبني المُمارسة المسرحية كنوع من تأكيد الهوية الجمعية لشعوبهم .

لقد أوجدَ الإستعمار الغربي لشعوب القارة الأفريقية , واقعاً جديداً عليها لأسباب عديدة تمثلَ هذا الواقع بوجود هذا المُستعمر الذي حاولَ بشتى الوسائل طمس الهوية الثقافية لهذهِ الشعوب , لذا سعت هذهِ الشعوب جاهدة بُغية المُحافظة على هويتها الثقافية الى تبني وإيحاء مُختلف المُمارسات الثقافية كالمسرح , من أجل البقاء على تلك الهوية والتعبير عنها بوساطة المُمارسة المسرحية , فهذهِ الشعوب قد تبنت المسرح كمُمارسة حياتية , بوصفهِ مُعبراً عن تطلعات أبناءها في المحافظة على هويتهم الاجتماعية والقومية والعرقية , خصوصاً إذا ما علمنا أن الإنسان الأفريقي قديماً قد عمدَ الى تلبية حاجاته المعيشية المُتمثلة بالحصول على الغذاء اليومي ودرء الأخطار والخروج للصيد حيثُ صاحبَ هذهِ الأنشطة اليومية عدد من المُمارسات الأدائية الأنثروبولوجية المُصاحبة لها ويقف في مُقدمتها مُمارسة الرقص الفردي والجماعي وتقليد الحيوانات , حيثُ تُعد المُمارسات التي إوجدتها ( الشامانية ) ومارستها المجتمعات البدائية في سيراليون وجنوب أفريقيا ونيجيريا …. وغيرها من مناطق أفريقيا , نوعاً من الترفيه الذي يُمارس في الساحات العامة التي يتحلق حولها الناس , لإن ( الشامان ) هو الشخص المسؤول بشكل كامل عن تنظيم الشعائر والطقوس والحفلات الراقصة فضلاً عن سلامة القبيلة بكل طقوسها الروحية والمادية والجسدية ويُمكن الإشارةِ الى أسباب ظهور الشامانية في أفريقيا تحديداً دونَ غيرها من بقاع العالي والتي نهلَ منها المسرح الأفريقي على مُستوى الأداء والتمظهرات , الى ما يلي :

  1. توفر الغذاء في مناطق الغابات الاستوائية في أفريقيا .
  2. معظم الناس لا يحتاجون الى العمل كصيادين .
  3. توفر الوقت الكافي لتريين طقوس الحياة والموت بوصفاء أداءات انثروبولوجية , عبرَ تزيين وتجميل البيئة المُحيطة بهم .

ووفقاً لما تقدم و نجد انَّ الأداء الانثروبولوجي الدرامي الأفريقي بوصفهِ الأساس لظهور فنون ومسرح الشارع افريقياً , قدّ تميزَ بالكثير من الحيوية والنشاط في الرقصات ذات الطابع الجماعي فضلاً عن طغيان الألوان المُتعددة المُستخدمة في أزياؤهم الشعبية المحلية , وهنا  يكمن سر تميز أداء الأفارقة عن سواهم لناحية الحركات السريعة والمتوالية ذاتَ الحيوية العالية في مُجمل أداءهم لفنون الشارع بشكل خاص ومسرح الشارع بشكل عام وهوَ نوع من نوع الترفيه الشعبي الذي توسمتْ بهِ ومازالتْ تلكَ الأداءات , ومما يُمكن الإشارة إليهِ توجد في الوقت الحالي وتحديداً في أفريقيا الوسطى الكثير من قبائل الأقزام ممن لديها مجموعة من الرجال التي تأخذ على عاتقها القيام بدور المهرجين ويكون قائدهم هو الشامان كما يُمكن الإشارة الى وجود إرتباط  مُباشر بين الأنشطة الشامانية وبعض ما يقوم بهِ فنانو المسرح الأفريقي المُعاصرين من أعمال وإرتباط مباشر مع ذلك الشخص الذي يقوم بالترفيه الجماهيري في الشوارع والساحات العامة  .

فافريقيا هي الموطن الاصلي لهذه المُمارسات وقد أثرتْ تلكَ المُمارسات ذاتَ الطابع الأدائي الأنثروبولوجي بمُجمل تمظهرات المسرح الأفريقي المُعاصر والتي مهدت لترسيخ فنون ومسرح الشارع أفريقياً .

أن الأداء الأنثروبولوجي للمسرح الأفريقي يُعنى بدراسة ثقافة الشعوب الأفريقية ومنتوجاتها , كالتراث الشعبي والفلكلور واللغة والطقوس والاحتفاليات والرقص والفنون البهلوانية والعرائس والمايم والفنون الشفهية التي شَكلتْ لاحقاً فنون ومسرح الشارع , بُغية تأكيد الهوية الأفريقية عبرَ المُمارسة المسرحية هذهِ الهوية التي تُمثلها فنون ومسرح الشارع , والتي لطالما سعت السلطات الحاكمة في البلدان التي توجد فيها أكثر من أقلية واحدة , الى طمس معالم تلك الهوية , وجعلها مُنصهرة ضمن حيز مفهوم الوطنية الذي هوَ بالأساس مفهوم الأغلبية السُكانية , وبذلك يُمكننا تعريف الأداء الانثروبولوجي بأنهُ ( مُجمل أشتغالات الأنثروبولوجيا داخل متن المُمارسة المسرحية عبرِ دراسة المضمون الحضاري لتلك المُمارسة كالتراث الشعبي واللغة والطقوس والشعائر والفعاليات الحياتية اليومية وفنون الشارع بشكل عام لشعوب القارة الأفريقية ) , حيث عمد مسرح الشارع الأفريقي بشكل خاص والمُمارسة المسرحية الأفريقية بشكل عام من خلال الأداء الأنثروبولوجي للأفارقة الى استقطابهم عبرَ تقديم فنون وعروض مسرح الشارع بدايةً في شوارع الاحياء السكنية الفقيرة وتجسدت في عروض هذا المسرح العديد من المحمولات الفكرية والمُتمثلة بكونهِ يؤدي وظيفة سياسية واجتماعية إضافة الى دعوتهِ للتحرر الاجتماعي والسياسي من سيطرة البيض ورفض العنف الذي يمارسه المجتمع الاستعماري ضد الأفارقة والمطالبة بالحقوق المدنية لهم والاعتراف بحريتهم .

لقد كانتَ البدايات الأولى لمسرح الشارع أفريقياً , من خلال دراما الطقوس التي عرفتها المهرجانات الشعبية لشعب “أيجيبو” في نيجيريا تلكَ الدراما التي تنبع من المهرجانات والاحتفالات التقليدية هي ليست دراما أرسطية وفقاً للتوصيف النقدي , وأنما هي دراما طقسية تحتوي على الموسيقى والرقص والاقنعة وتعتمد بشكلٍ كامل على التمثيل الصامت والرمز وصلاً الى أعلاء مراحل الأداء الانثروبولوجي وهذهِ واحدةً من مُميزات فنون ومسرح الشارع الأفريقي، وتُعد هذهِ الدراما الطقسية التي ما زالتْ تُقدم حتى الآن الجذر الأساس الذي إعتمدَ عليهِ مسرح الشارع في أفريقيا عموماً , وتبلورتْ لاحقاً في عروض مسرحية تُقدم في الأسواق والطرقات والبساتين وشواطئ البحر, التي هي نوع من الدراما الطقسية كما أسلفنا والتي تقدم في المهرجانات والاحتفالات التقليدية الشعبية , كما تُقدم أيضاً عروض المسرح الشعبي التي اتخذت من الفضاءات المفتوحة حيزاً لتقديم تلكَ عروض مسرح الشارع , فاتخاذ التلكَ الفضاءات التي إتسمت بكُبر المساحة , من اجل استيعاب الأعداد الكبيرة من المُمثلين والمُتفرجين , فضلاً عن أهمية هذا التواجد والتلاحم والقُرب بين المؤدين والمُتفرجين بُغية تحقيقي حيز روحي للمكان في وجدان الناس ففي باقي أيام السنة يصبح مرتعاً للأطفال ولعبهم , أما في أوقات العروض فأن تلكَ الفضاءات تستعيد حقيقتهِ التي وجدَ من أجلها من أجل تقديم تلكَ العروض , فالجمهور لهُ دور حيوي في صنع هذا التوافق النفسي ما بينهُ وبين تلكَ العروض الطقسية , كما يُمكن الإشارةِ الى نشوء فنون ومسرح الشارع في افريقيا أيضاً في بلد أفريقي آخر هوَ (اثيوبيا) التي فيها نشأ الفن المسرحي أول مرة , كتمثيليات صامتة تُقدم في الهواء الطلق داخل الغابات وعلى شواطئ الأنهار وسفوح الجبال .

ومما تقدم نجد أن توصيفات  فنون ومسرح الشارع الأفريقي بوصفها الكاشفة عن ماهية النتاج المسرحي الأفريقي  لغةً وعرضاً وجمهوراً , تتوافق مع كينونة المسرح الأفريقي المُتمثل بفنون ومسرح الشارع , الذي له أداءه الانثروبولوجي الخاص بهِ والذي يُميزهُ عن غيرهِ من المسارح في باقي مناطق العالم .

الإحالات :

  1. بيم ميسون ، مسرح الشارع والمسارح المفتوحة ، تر : حسين البدري ، (القاهرة : وزارة الثقافة ، مهرجان القاهرة الدولي والمسرح التجريبي , الدورة التاسعة ، 1997م) .
  2. ديلي لايولا , الأداء في المسرح الافريقي ، ، تر: سحر فراج ، ( القاهرة : القاهرة : وزارة الثقافة _ سلسلة اصدارات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي , 2003 ) .

 بشار عليوي – العراق

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش