إيريك لاكاسكاد يطفو بالقاع الروسي فوق خشبة المسرح

 

 

 

  • عُرضت مسرحية “القاع” للروسي مكسيم غوركي أول مرة عام 1902، من إنتاج مسرح موسكو للفنون وإخراج كونستانتين ستانسلافكسي الذي شارك أيضا فيها كممثل، حينها نالت الكثير من الشهرة إثر الشخصيات المميزة التي قدمها غوركي، وبقيت المسرحية ضمن ريبرتوار المسرح لفترة طويلة، بوصفها من أشهر تجليات الواقعية الاشتراكية الأدبية وخصوصا أنها أثارت جدلا نقديا بسبب تصويرها للطبقات
  • المسحوقة والتساؤلات التي تطرحها عن الطبيعة البشرية.

يشهد مسرح “الجوزاء” في باريس عرض “القاع” للمخرج الفرنسي إيريك لاكاسكاد، الذي عمل على عدد من نصوص المسرح الروسي قبل ذلك، وخصوصا نصوص مكسيم غوركي، إذ ندخل لمدة ساعتين ونصف الساعة العوالم السفلية في قبو لحانة قرب نهر الفولغا، تسكنه مجموعة من المهمشين ذوي المهن المختلفة، لنشاهد الصراعات التي تدور بينهم وبين الشرطة وبين صاحب الحانة، لتتجلى أمامنا طبقة مسحوقة من

العاطلين عن العمل وشبه المشردين وتساقطهم حد الانهيار فيما يشبه كرنفالا سببه اليأس من الحالة التي هم فيها، وسعيهم لتحدّي السلطة وتغيير وضعيتهم الاجتماعية والاقتصادية.

الفراغ هو الصيغة المهيمنة على الشخصيات، هم بلا عمل، بلا أي هدف، يتسكعون دون أي جدوى، محكومون بأوقات الفراغ، سواء الممثل منهم أو العامل وحتى اللص، هذا الفراغ يمتلئ بالنقاشات والسخرية القاسية، فإيقاع المسرحية المتصاعد لا تحكمه أحداث خارجية أو كبيرة، بل ظروف الشخصيات ومواقفها من بعضها البعض، إذ تموت في البداية زوجة أحد المقيمين في القبو، ليشترك الجميع بعدها في جريمة قتل.

هذه السلسة من الأحداث تقود إلى الانهيار، وتفكك المكان فيزيائيا أمامنا على الخشبة، وانهيار العلاقات الهشة بين الجميع، فالفراغ واللاّعمل اللذان يجمعانهم تركا من بقي منهم بلا مرجعية وانتماء، هم مجرد مسحوقين يثرثرون أمامنا وهم سكارى عن رؤاهم للكون والحياة، لينتهي “البورليسك” بانتحار أحدهم، ما لا يشكل أي فرق، سوى أن هذا خرّب إيقاع الأغنية التي كان الجميع يشترك في ترديدها.

المسرحية التي كتبها الروسي مكسيم غوركي تحكي عن المهمشين والمقموعين في لحظات ما قبل الثورة

تطرح المسرحية الكثير من التساؤلات حول الجدوى من الحياة وخصوصا أهمية العمل، لتعكس الفارق الطبقي بين أولئك الذين يعملون، وأولئك الذين حيواتهم خالية من الإنتاج، فما الجدوى من العمل والانصياع لأوقاته وبيروقراطيته؟

هذه التساؤلات تطرح في جوهرها مآسي الاختلاف الطبقي وخصوصا في فترة انهيار البرجوازية التي تحكي عنها المسرحية، إلى جانب أنها تعكس بدايات الثورة التي نراها أمامنا حين يقتل اللص إلى جانب أولئك المهمشين العاطلين عن العمل صاحب القبو الذي يسكنونه، ليمتلكوا بعدها زمام السيطرة، وليدخلوا في احتفال طويل بالفراغ واللاّعمل، بوصفهم انتصروا نوعا ما، هذا الانتصار ينتهي بانتحار الممثل، لكن لا مشكلة، بعض الخسائر لن توقف الاحتفال، لطالما الجميع سعيد بانتصاره على مالك المكان.

يعكس فضاء العرض طبيعة الصراع الذي تحويه المسرحية، ففي البداية نرى الخارج فقط؛ الحانة حيث يجتمع الجميع بثيابهم الرسمية، أماكن نومهم وحميميتهم تختفي من أمامنا، لكنها تبدأ بالظهور شيئا فشيئا بعد أول حدث موت، نراهم في أسرتهم التي تشبه القبور، هم أشبه بجثث تنتظر البعث، أما الانقلاب الذي نشهده فيقوم به أشدهم سفالة، لص ابن لص، عشيق زوجة صاحب النزل الذي يحاول في ذات الوقت أن يتزوج أخت عشيقته واعدا إياها بتخليصها من مأساتها.

الثورة التي نشهدها على خشبة المسرح هي ثورة ضد الفراغ الذي خلقته الطبقات المهيمنة، ضد أنظمة التشغيل التي ترفض من لا ينصاع إلى شروطها، أما الاحتفال في النهاية فهو انتصار أوّلي، وانتحار الممثل ما هو إلا اختزال مجازي لما ستنتجه الواقعية الاشتراكية لاحقا، فالفن ينتحر حين يغدو أداة سياسية وأيديولوجية.

 

العرب عمار المأمون 

http://www.alarab.co.uk/

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *