إضاءات حول مسرح سعدالله ونوس : ممدوح فرّاج النّابي

 

المصدر : العرب : محمد سامي موقع الخشبة

سعدالله ونوس يتفرّد على امتداد تجربته المسرحية الرّحبة بأنه سخّر إمكاناته متسلحًا بسلطة الكتابة للوقوف في خندق معارضة السلطة.

مازالت الدراسات النقدية في تعاملها مع الإبداع المسرحي تتعامل بحذر شديد، فقليلة هي الدراسات الجادة التي تخضع النصوص المسرحية للدرس النقدي، وثمة إشكالية أخرى تتمثل في الخوف من الحمولات الثورية التي تتضمنها النصوص وتكاد تكون هي الأخرى سببًا مهمًّا في عدم الإقبال عليه بهمَّةٍ.

ومع قلة هذه الدراسات إلا أن ما يصدر منها يمكن وصفه بأنه أعمال جادّة رصينة مادة ومنهجًا ولغة، وهو ما ينطبق على كتاب “مسرح سعدالله ونوس: قراءة سيميولوجية” الصادر حديثًا عن سلسلة كتابات نقدية 2017 بالقاهرة للناقد رضا عطية.

سلطة الكتابة

يتساءل الناقد في مقدمة كتابه: لماذا المسرح؟ ولماذا سعدالله ونوس؟ ودون انتظار يقدم إجابته مباشرة، فيرى أن المسرح هو أبو الفنون وأقدم الآداب ومع ظهور فنون أخرى اعتلت الريادة كالرواية إلا أن المسرح بقي إلى جانب هذه الفنون ينشد شعرية جديدة وأسطورية معاصرة؛ لذا تَبْقَى للمسرح ضرورته التاريخية الممتدة وقيمته الجماليّة المتجدِّدة. أما بخصوص سعدالله ونوس فلأنّ تجربته تتميز بالثورية والتجديد، فمسرحه كما يقول “يطمح إلى إعادة تعريف مفهوم المسرح، مسرح يُجدِّد في قواعد المسرح ويحدِّث في شروطه وإجراءاته بقدر ما سعى أيضًا إلى تثوير وعي جمهور المسرح والمتلقّي.

يتفرّد سعدالله ونوس على امتداد تجربته المسرحية الرّحبة بأنه سخّر إمكاناته متسلحًا بسلطة الكتابة للوقوف في خندق معارضة السلطة وليس السلطة بمفهومها السياسي فحسب، بل كلّ سلطة تفرضها قوى أو جماعات أو معتقدات، كسلطة رأس المال والسلطة الكهنوتية (الدينية) والسلطة الأبوية، وكذلك السلطة الذكورية التي تنزع المرأة حقوقها وتهدر مكتسباتها.

الدراسة تقتصر على أربعة نصوص من نصوص سعدالله ونوس، لذا سعى الناقد إلى القيام بمقاربات نقدية لبعض نصوص ونوس بمطارحة النص كاملاً بما فيه من عناصر وظواهر ومتابعة آلياته وتقاناته ومكوّناته البنائية بمثل متابعة مقولاته الكبرى ومعاينة أيديولوجياته إدراكًا للدلالة الكلية لكل نص، وبحسب تعريفه لها “هي دراسة رأسية لأربعة نصوص لا تخلو من تصورات للبنية العرضية والمحور الأفقي لمجمل إنتاج ونوس”.

القالب الونوسي اتسم بثراء الأشكال وتنوعها ما بين كلاسيكي وملحمي، وأيضًا غلب عليه استلهام التراث بأشكاله المختلفة كفنّ الحكواتي والمقهى الشعبي

كما سعى أيضًا إلى تتبع تحوّلات الرؤى الونوسيّة في القضايا الكبرى وجلاء مواقفه من أحداث عصره الفارقة، كما ربط بين مفاهيم سعدالله ونوس النظرية عن المسرح وتنظيراته الرامية إلى تطوير الأداء المسرحي وبلورة شكل فني ملائم لروح العصر. مسترشدا ومتوسدًا بأسس المنهج السيميولوجي، ووفقًا لهذا المنهج فقد تجاوز المسرح أو بالأحرى -على حد قوله- دراسة النص المسرحي إلى مفهوم العرض، ولو على سبيل التمثُّل أو التخيُّل.

تنوع الرؤى

يعرض المؤلف في المدخل لتجربة ونوس المسرحية على امتدادها الزمني وما أتبعها من تطور وتنوع على مستوى الرؤى. وهذه التجربة بما حوته من قضايا مهمّة كالحرية وتصورات لطبيعة الاستبداد وأشكال وسبل مواجهته، مرت بثلاث مراحل مفصلية، وأوّلها البدايات التي اتسمت بكلاسيكية القالب مع أمشاج من الذهنية والعبثية، فمسرحياته الأولى كانت أقرب لعوالم المثال من عالم الواقع، تُحلِّقُ في سماء التفلسُف أكثر من التصاقها بأرض الدراما، حيث بدأ ونوس في هذه الأعمال بتوضيح الأفكار الفلسفية التي تحدّرت إليه من قراءاته الوجودية بصورة أساسية حول معنى الوجود وطبيعة السلطة. فجاءت أعماله مثل “ميدوز تحدق في الحياة” و”مأساة بائع الدبس الفقير” و”الرسول المجهول في مأتم أنتيجونا” ذات طابع بوليسي، تتناول دولة العسس.

وإن كانت المسرحية الأولى تُندِّدُ باستغلال الملك وكأنه وثيقة لفضح السلطة. أما مسرحية “فصد الدم” والتي كتبها نهاية عام 1963 فقد كانت أولى مسرحياته التي تناولت قضية الصراع العربي-الإسرائيلي.

اللافت أن المسرحيات الأولى كانت تتميز بكثافة الإشارات المحلية لقضايا السياسة، كما كان تعامله مع مسائل السياسة الشائكة من باب الرمز، مرتديا أقنعة مؤسطرة، أما البنية الهيكلية في أغلب هذه المسرحيات فقد كانت أقرب إلى حواريات الأفكار دون أن تعنى بإنضاج للحدث المسرحي. والمرحلة الثانية كانت مع سفر ونوس إلى باريس قبل هزيمة 1967 حيث اطّلع على المسرح البريختي وما يتميز من ملامح التغريب، وانعكس عليه هذا فأخذ يطوّر مسرحه ومفاهيمه عن المسرح وكأنه بدأ ينسلخ عن أرديته الكلاسيكية التي وسمت طور البدايات، فاتسع مفهوم المسرح لديه لينتقل من مفهوم النص إلى مفهوم العرض. بل ترددت لديه أدوات وتصورات جديدة كمبادئ أو مفاتيح للعمل المسرحي كالجمهور والتجاوب والحوار والمتفرج/الجماعة، واللعبة.

كما انصب اهتمامه بالمستقبل في عملية التواصل المسرحي، بعدما كان شاغله المرسل فحسب. فجاءت مسرحية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” تطبيقًا لهذه المفاهيم الثورية والإصلاحية بخصوص المسرح التي تشكّل بها وعيه أثناء رحلة فرنسا.

المرحلة الثالثة والأخيرة من إبداع ونوس المسرحي حفلت بالعديد من النصوص التي حملت تنوعات في الرؤى وثراءً في الطروحات، كمسرحيات “الاغتصاب” (1989)، و”الأيام المخمورة” (1997). وقد أعقبت هذه الفترة تحولات كبرى شهدها العالم العربي أبرزها الانقسامات التي أتبعت معاهدة كامب ديفيد، علاوة على هيمنة الرأسمالية الطفيلية، واتسعت رقعة الفساد التي زادت الهوة السحيقة بين الطبقات الاجتماعية، ولازم هذا توسع في المدّ الضاغط للتيارات المتشددة وهو ما هدد بردة حضارية. كما تردد الموت بكافة تنوعاته فردية أو جماعية، أو في أشكال القتل أو الانتحار في الأعمال الأخيرة. كما اتسمت هذه الأعمال بحضور كثيف للمرأة. ولا يغيب على هذه المرحلة ملاحقة التحولات في الشخصية كما في مسرحية “طقوس التحولات والإشارات”.

 

مقاربات نقدية لبعض نصوص ونوس

النص الفوق لغوي

يقف الناقد في فصول الكتاب الأربعة عند أربعة نصوص مسرحية لونوس هي” مأساة بائع الدبس” وهي تنتمي إلى مرحلة البدايات حيث تنشد قالبًا أرسطيًا قديمًا، فيعكس من خلالها حالة استلاب المواطن في تراجيديا عابثة فيتوقف عند تحليل المسرحية وفقًا لآليات المنهج السيميولوجي، ويتوقف تحديدًا عند الشخصية. المسرحية كما يقول تعمل على تصوير لعبة السلطة والمواطن البسيط بائع الدبس خضور، وهو يمثل نموذجًا للطبقة الفقيرة. وعبر الحوار تتجلى ملامح الشخصيات وظروف الحياة.

وفي الفصل الثاني يتناول بالتحليل والدرس مسرحية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” وهي المسرحية التي تمثل مرحلة ما بعد فرنسا، حيث المفاهيم الثورية الجديدة التي استوعبها عن المسرح، علاوة على أثر الهزيمة المؤلمة في يونيو 1967. وتعد هذه المسرحية بداية لتجربة طليعية انقلب فيها على شكل مسرحي لم يعد مناسبًا لظروف راهنة على صعيد السياسة وأيضَا على مستوى التلقي، حيث بدأ اهتمامه بالجمهور بعد أن كان مشغولاً بالكتابة للقراءة، وليس في ذهنه أيّ تصوُّر لخشبة المسرح. ومن هنا بدأ انصبابه بالعرض، ويوسع من مفهوم العرض لتشمل الصالة/النظارة، كما صار الجمهور مشاركًا في العرض بعد أن كان متلقيًا للرّسالة.

وفي الفصل الثالث يتحدث عن مسرحية “الملك هو الملك” وهي المسرحية التي جاءت بعد فترة صمت قاربت الخمس سنوات. وحرص ونوس في هذه المسرحية على لعبة كسر الإيهام المسرحي أو تعطيله لدى المتفرج، كما عمد إلى تأطير الحكاية بجوّ غرائبي موغل في العبثية. كما تنشغل هذه المسرحية بفعل السلطة القمعي في مواطنيها وما تنشبه من مخالب القهر في جسد المواطن المستلب. كما يركز على الصراع على السلطة وثبات الحائزين عليها على نفس مبادئ الحكم وطرائق الحفاظ عليها مهما تغير الحكّام الذين تأتي بهم المصادفة إلى الحكم.

وفي الفصل الأخير يناقش تقلبات الهوية وتبدّد الحقيقة كما في مسرحية “الأيام المخمورة”. حيث المسرحية تعمل على مطارحة هموم أفراد ومعاينة مأساة وطن إزاء تحديات سياسية وأخلاقية واجتماعية تعصف بسفينة هويّتهم وتهدّد الوجود الفردي والجماعي للإنسان أمام رياح الفساد العاتية التي تعمل على خلخلة ثوابت القيم وإبدال مستقرات الأعراف. وهي آخر ما كتب ونوس وبها يسدل الستار على مسيرة عطاء امتدت لثلاثة عقود ونصف من الزمان. كما تعتبر عصارة فكر ونوس وتكثف لخلاصة تجربته وتحمل كثيرًا من همومه وتبرز هواجسه سواء على مستوى إنساني وجودي أو وطني قومي.

يجمل الناقد في الخاتمة أهم ما يتميز به مسرح سعدالله ونوس سواء على مستوى التركيب أو المضمون حيث اتسم القالب الونوسي بثراء الأشكال وتنوعها ما بين كلاسيكي وملحمي، وأيضًا غلب عليه استلهام التراث بأشكاله المختلفة كفنّ الحكواتي والمقهى الشعبي. وهو استلهام يحيل على قضايا العصر ومشحون بإشكاليات الحداثة ما يبرز قدرة ونوس على الاستفادة من متاحات الفن السردي، إضافة إلى تعميقه من التقنيات المسرحية كالحوار الذي اتسم في مسرحه بالعمق إلى جانب أدواره الرئيسية من تقديم الشخوص والمواقف. وأيضًا جاء حضور الديكور في غير إسراف داخل البناء المسرحي.

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *